الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبةُ الثانية:
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، جاعلُ الملائكةِ رسلًا أولي أجنحةٍ مثنى وثلاثَ ورباعَ، يزيدُ في الخلقِ ما يشاءُ إنَّ اللهَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، كان أكثرَ الناس علْمًا وأحسنَهم عملًا وأكثرَهم لله خشيةً وعليهِ نزَّل:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (2).
أمةَ القرآنِ: وعجائبُ القرآنِ لا تنقضي في عرْضِ دلائلِ الإيمانِ في الكونِ والأنفسِ والآفاق، والدعوةُ قائمةٌ للتأملِ والتفكيرِ في السماءِ والأرض:{قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ} (3).
وفي الأنفس وخلقِها وتقويِمها: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (4).
{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (5). وفي الحيواناتِ وعظيمِ خَلْقِها: {أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} (6).
وفي الطيرِ وكيفَ يسبحُ في جوِّ السماء {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ
(1) سورة الملك، الآيات: 2 - 4.
(2)
سورة فاطر، الآية:28.
(3)
سورة يونس، الآية:101.
(4)
سورة الطور، الآية:35.
(5)
سورة الذاريات، الآية:21.
(6)
سورة الغاشية، الآية:17.
السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَاّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1)، وإلى الأنعامِ وكيفَ تُستخرجُ ألبانها:{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} (2).
أما النحلُ فآيةٌ في خلقِها وتدبيرِها وما يخرجُ منْ بطونِها: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (3).
وفي «شفاءِ العليل» لابن القيمِ رحمه الله كلامٌ طويلٌ وتفصيلٌ في هدايةِ اللهِ للنحل، وعالمِ النحل، ومملكةِ النحل وأعاجيبها (4)!
ومنْ أمةِ النحلِ إلى أمةِ النمل؛ حيثُ كشفَ اللهُ سرًا من أسرارِهِ وهدايته للنملِ في خبرِ سليمانَ عليه السلام، يكفي منها آيةٌ، قولُه تعالى:{قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (5).
وبالجملةِ فرُّبنا تبارك وتعالى {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (6)، وفوقَ ذلكَ ألهَمَ مخلوقاتهِ العبوديةَ له والتسبيحَ بحمدِه وإنْ كنا لا نفقَهُ تسبيحَهم.
أجل، ما أجهَلَكَ يا ابنَ آدم، وما أظلَمَك حينَ تشذُّ عنِ العبوديةِ لله، وغيرُك يُسبحُ بحمدِ الله:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (7).
يا ابنَ آدم، اصطفاكَ ربُّك وأكرَمَك، وعلَّمكَ ما لم يُعلِّمْ غيرك، أفلا تشكرُ
(1) سورة النحل، الآية:79.
(2)
سورة النحل، الآية:66.
(3)
سورة النحل، الآية:69.
(4)
ص 101.
(5)
سورة النمل، الآية:18.
(6)
سورة طه، الآية:50.
(7)
سورة الإسراء، الآية:44.
وتذكرُ وتُنيبُ وتُسلِمُ: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} (1).
لقدْ عُرضتِ الأمانةُ على السماواتِ والأرضِ فأبيْنَ أنْ يحملْنَها وأشفقْنَ منها .. وحملتَها أنتَ .. أفلا تفي بعهدِك مع الله؟ أفنيستَ الميثاقَ؟ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (2).
عجبًا لكَ يا ابنَ آدم حين تعصي ربَّكَ وغيرُكَ يطيعه، وتفجرُ وتفسقُ وغيرُك يركعُ ويسجد.
يا ابنَ آدم، خلقك اللهُ في أحسنِ تقويم، ضمِنَ رزقَك، وأحصى أجلَك وما يريدُ منك إلا عبادتهُ:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (3) أفتستنكِفُ وتستكبرُ عن العبوديةِ لله .. وكلُّ منْ في الكونِ عبدٌ لله؟
إنكَ بينَ خياريْن؛ فإما أنْ تكونَ عبدًا لله- وهو يستحقُ العبوديةَ ويجزي عليها- وإما أن تكونَ عبدًا لغيرِه منَ الأهواءِ والشهواتِ والمعبوداتِ، فتلكَ الشِّقْوةُ في الدنيا والخسرانُ المبينُ في الآخرة:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (4).
(1) سورة الزمر، الآية:54.
(2)
سورة الأعراف، الآية:172.
(3)
سورة الذاريات، الآيات: 56 - 58.
(4)
سورة الجاثية، الآية:23.
يا أخا الإسلام: إنكَ تستطيعُ تحقيقَ العبوديةِ للهِ على كل حالٍ من أحوالِك وفي كلِّ شأنِ من شئونك، تحققُّ العبوديةَ للهِ في المسجدِ وفي بيتِك، وتحققُّ العبوديةَ للهِ متجرك أو وظيفتك، تحققُّ العبوديةَ للهِ في حضَرِكَ وسفرِكَ، وتحققُّ العبوديةَ في علاقتكَ مع ربكَ وحُسنِ خُلُقكَ مع الناسِ منْ حولِكَ.
إنكَ خُلقتَ وهُيِّئتَ منْ أجلِ أن تكونَ خليفةً في الأرضِ تعمُرُها بذكرِ الله، وتحرثُ الأرضَ فيكونُ المحصولُ غذاءً للناسِ لِيَتَقَووْا به على طاعةِ الله، وتتخذُ مصانعَ لتنتجَ من الآلياتِ والسلاحِ ما يُستعانُ به على تحقيقِ الدَّنيوية لله، لا من أجلِ أن يكونَ سلاحًا يُدمرَ البشريةَ ويهلكَ الحرثَ والنسل، تتعلمُ العلمَ ليكونَ دليلَكَ إلى اللهِ وليقودَك إلى الإيمانِ بالله .. فالعلمُ الحقُّ يدعو للإيمان ..
إنَّ البشريةَ حينَ تضلُّ في مسارها عنِ العبوديةِ للهِ تغدو الحياةُ مسرحًا تتهارشُ عليه الذئاب، وتتصارعُ فيها القوي، فلا ينتصرُ الأقوى حتى يدمرَ مَنْ دونَهُ من الضعفاء .. أفبهذا يُعمَّرُ الكونُ .. وهل تُحقَّقُ العبوديةُ للهِ بهذا اللونِ من الظلم؟
إنَّ على المسلمينَ الذينَ يقرأونَ القرآنَ فيجدونَ فيه تسبيحَ الكونِ بأحيائهِ وجماداتهِ للهِ .. عليهم أنْ يدركوا هذه الحقائقَ وأنْ يصلحوا ذواتِ أنفسِهم، ثم ينتقلوا بالإصلاحِ والدعوةِ إلى أممٍ أخرى بلغَتْ من العلمِ الماديِّ والحضارةِ والتقنيةِ مبلغًا عظيمًا .. لكنها أميةٌ في تحقيقِ العبوديةِ لله، وضالةٌ أو مغضوبٌ عليها بسببِ تجاهلِها لرسالاتِ السماء، ألا فابدأ بنفسِك أيها المسلم، وتأملْ هذا الكونَ ومنْ خَلقَهُ ولماذا خَلَقَه؟ وستجدُ الجوابَ في مثلِ قولهِ تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَاّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (1).
(1) سورة الأنبياء، الآيات 16 - 18.
وفي مثلِ قولهِ تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَاّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (1).
وفي مثل قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (2).
أخي المسلم: وبقيتْ همسةٌ في أذنِك .. هل تقرأُ القرآنَ، وما وِرْدُكَ فيه؟ وإذا قرأتَ، هل تتأملُ هذه المعانيَ وأمثاَلها في القرآن، إني أعظُكَ ونفسي أنْ تكونَ ممنْ قالَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم عنهم، {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (4) .. فإياكَ وهجرَ القرآنِ .. تلاوةً أو تدبرًا أو علْمًا أو عمَلًا؟
(1) سورة الحجر، الآية:85.
(2)
سورة الملك، الآية:2.
(3)
سورة ص، الآيتان: 27 - 28.
(4)
سورة الفرقان، الآية:30.