الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحِيلَ
(1)
الخطبةُ الأولى:
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه، اللهم صلِّ وسلمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عنْ الصحابةِ أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا.
عبادَ الله: الحِيلُ والتحيُّلُ مما عَمَّتْ بهِ البَلْوى في هذا الزمنِ، والمسلمُ الحقُّ هو الذي يخافُ اللهَ ويراقبُه في كلِّ ما يعملُ أو يذَر، وحينَ يغيبُ الخوفُ من عقابِ اللهِ أو منْ عقوبةِ الدنيا، ويُفتنُ الناسُ بالدنيا فلا يُبالي المرءُ بما جمعَ أمِنْ حلالٍ أو منْ حرام، وحينَ تضيعُ الحقوقُ وتُنسى الواجباتُ وتهدرُ كراماتُ بني آدم، هنا يروجُ سوقُ الحِيَل وترتفعُ أسهمُ المحتالين، بل ربما انتكستِ الفِطرُ، فينظرُ إلى منْ يتورعُ عن الحيلِ بأنه إنسانٌ بسيطٌ أو مسكينٌ لا يجيدُ التعاملَ مع الناسِ، ولا يستفيدُ منَ الفُرَصِ .. أو نحوِ ذلكَ منْ عباراتٍ تُطلَقُ جُزافًا وتروّجُ للمنكر، وتوسعُ دائرةَ الحيلِ والمحتالين.
ومن هنا فلا بدَّ من التنبيه على مثلِ هذه الحيلِ وأنواعِها، وموقفِ الشرعِ منها، فما معنى الحيل؟ وما ضابطُها، وما أنواعُها؟
(1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 27/ 7/ 1423 هـ.
ومن أقصرِ التعاريفِ للحِيَل: أنها جمعُ حيلة، وهي ما يتوصلُ به إلى مقصودٍ بطريقٍ خَفِيٍّ (1).
وضابطُها: إنْ كانت للفرارِ من الحرامِ والتباعدِ من الإثم فحسن، وإنْ كانت لإبطالِ حقِ مسلمٍ فلا، بلْ هي إثمٌ وعدوان (2).
وأقسامُها- عند العلماء- بحسبِ الحاملِ عليها:
1 -
فإنْ تُوصِّلَ بها- بطريقٍ مباحٍ- إلى إبطالِ حقٍّ أو إثباتِ باطلٍ فهي حرام، أو إلى إثبات حقٍّ أو دفعِ باطلٍ فهي واجبةٌ أو مستحبة.
2 -
وإنْ تُوصِّلَ بها- بطريقٍ مباح- إلى سلامةٍ من وقوعٍ في مكروه فهي مستحبةٌ أو مباحة، أو إلى تركِ مندوبٍ فهي مكروهة (3).
أيها المسلمون: وتقعُ الحيلُ في البيعِ والشراءِ والنكاحِ والطلاقِ والزكاةِ والصدقة، والتعاملِ بين الرجلِ والمرأة، والهبةِ والشُّفعة، وهدايا العمال .. ونحو ذلك من أنواع الحِيَل.
ولكنْ دعونا نقفْ على ثلاثةِ أنواعٍ من الحيل تتعلقُ بالبيعِ والشراءِ والنكاح، واحتيالِ العمَّالِ في أعمالهم ..
أما الحِيلُ في البيعِ والشراءِ فكثير، منْ إخفاءِ العيب، والكذبِ في الحديث، والنَّجَشِ، واستقبالِ الرُّكْبان، والتحايلِ على الرِّبا وتسميتهِ بغيرِ اسمهِ وهكذا ..
وفي الحيلِ في البيوع بوّبَ البخاريُّ في «صحيحه» (بابُ ما يُكره منَ الاحتيالِ في البيوع، ولا يُمنعُ فضلُ الماءِ ليمنعَ به فضلَ الكلأ).
(1) ابن حجر، الفتح 12/ 326.
(2)
الفتح 12/ 326.
(3)
السابق 326.
ثمَّ ساقَ الحديثَ عنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُمنعُ فَضْلُ الماءِ ليَمْنعَ بِه فَضْلَ الكلأ» (1).
وعنْ معنى هذه الحيلةِ قالَ العلماء: المرادُ بالحديث: رجلٌ كانَ له بئرٌ وحولَه كلأٌ مباحٌ، فأراد الاختصاصَ به، فيمنعُ فضلَ ماءِ بئرِه أن تَرِدَه نَعَمُ غيرهِ للشُّرب، وهو لا حاجةَ به إلى الماءِ الذي يمنعُه، وإنما حاجتُه إلى الكلأ، وهو لا يقدرُ على منعهِ لكونهِ غيرَ مملوكٍ له، فيمنعُ الماءَ فيتوفرُ له الكلأ، لأن النَّعمَ لا تستغني عن الماء، بلْ إذا رعتِ الكلأَ عطشتْ، ويكونُ ماءُ غيرِ البئرِ بعيدًا عنها فيرغبُ صاحبُها عن ذلك الكلأ فيتوفرُ لصاحبِ البئرِ بهذه الحيلة (2).
وتمامُ هذا التحيلِ في البيع- أن صاحبَ هذه البئرِ حينَ يمنعُ الرعاةَ منْ فضلِ ماءِ ليحتاجَ من احتاجَ إلى الكلأ أنْ يشتريَ منه ماءَ بئروهِ ليسقيَ ماشيته (3).
وفي بابٍ آخرَ- عند البخاري- قال: بابُ ما يُنهي من الخِداعِ في البيوع، وقالَ أيوب: يخادعونَ اللهَ كأنما يُخادعونَ آدميًا، ولو أَتَوْا الأمرَ عِيانًا كانَ أهونَ عليّ.
ثمَّ ساقَ الحديثَ عنْ ابن عمرَ رضي الله عنهما أنَّ رجلًا ذكرَ للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يُخدعُ في البيوعِ، فقال:«إذا باعيتَ فقلْ: لا خِلَابةَ» (4).
ومعنى قولِه صلى الله عليه وسلم: «لا خِلَابةَ» أي: لا تخدعوني، فإنَّ ذلك لا يحلُّ، أي إنْ ظهرَ في العقدِ خِداعٌ فهو غيرُ صحيح (5).
(1) ح 6962.
(2)
الفتح 12/ 335.
(3)
الفتح 12/ 335.
(4)
ح 6964.
(5)
الفتح 12/ 336.
هذه -معاشرَ المسلمين- نماذجُ للحيلِ والخداعِ في البيوعِ حذَّرَ منها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ووضعَ الاحتياطَ لها .. فهلْ يتقي اللهَ الباعةُ والمشترون فيما يبتاعون ويشترون، فيصدُقون مع اللهِ ومع خلقِه ليباركَ اللهُ لهمْ في بيعِهم وشرائِهم، فالرسولُ صلى الله عليه وسلم يقولُ:«فإنْ صدَقا وبيَّنا وبورِك لُهما في بَيْعِهما، وإن كذَبا وكتَما مُحِقَتْ بركةُ بَيْعهما» .
إنَّ الخداعَ في البيعِ والشراءِ ليس من النَّجابة والذَّكاءِ .. لكنه ضعفٌ في الدِّيانة، ولؤمٌ في المعاملة، وخِداعٌ للهِ ولخَلْقِه، فهل ينتهي المخادعونَ وأصحابُ الحيلِ المحرَّمةِ؟
أيها المسلمون: ومنْ حِيَل البيعِ والشراءِ، إلى حِيَل النكاحِ، كأنْ يُغرَّرَ بالمرأةِ عن الرجل بخلافِ واقعِه، أو يغرَّرَ بالرجلِ عن المرأةِ بخلافِ حالِها .. أو نحوِ ذلك.
وفي «البخاري» : (بابُ الحيلةِ في النكاحِ)، ثمَّ ساقَ به النهيَ عن الشِّغَارِ، فعنْ عبدِ الله بنِ عُمرَ رضي الله عنهما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى عنْ الشغار.
قلتُ لنافع: ما الشِّغارُ؟ قال: يَنكِحُ ابنةَ الرَّجُلِ، ويُنكِحُهُ ابْنَتَه بغيرِ صَدَاقٍ، وَينكِحُ أختَ الرجلِ، ويُنكِحَهُ أختَه بغيرِ صَدَاقٍ .. » (1).
ومما ذكرهُ العلماءُ منْ عللِ النهيِ لهذا النوعِ منَ النكاحِ (الشِّغار): أنهُ جعلَ بَضْعَ كلِّ واحدةٍ مهرًا للأخرى، وهي لا تنتفعُ به، فلمْ يرجعْ إليها المهرُ، بل عادَ المهرُ إلى الوليِّ، وهو مِلْكُه لبَضْعِ زوجتِه بتمليكِه لبَضْعِ موليتهِ، وهذا ظلمٌ للمرأتينِ، حيثُ لم تنتفِعا بمهرِهما (2).
(1) ح 6960.
(2)
فقه السنة. سيد سابق 2/ 55.
ومنَ الحِيلِ المحرَّمةِ في النكاح: زواجُ التَّحليل، وهوَ أنْ يتزوجَ الرجلُ المطلقةَ ثلاثًا بعدَ انقضاءِ عِدَّتِها، أو يدخلَ بها، ثم يطلقَها ليُحِلَّها للزوجِ الأول .. وهذا النوعُ من الزواجِ كبيرةٌ من كبائرِ الإثمِ والفواحش، حرَّمه اللهُ ولَعَنَ فاعلَه (1).
قال صلى الله عليه وسلم: «لعنَ اللهُ المُحَلِّلَ والمحلَّلَ له» (2).
وفي حديثٍ آخرَ سمى النبيُّ صلى الله عليه وسلم صاحبَ هذهِ الحيلةِ بالتيسِ المُستعار.
قال ابنُ القيمِ رحمه الله: ولا فرقَ بينَ اشتراطِ ذلك بالقولِ أو بالتواطئ والقصد، فالأعمالُ بالنيات (3).
إخوةَ الإسلام: ومنْ حيلِ البيعِ والشراءِ وحيلِ النكاحِ إلى حيلِ العمالِ وأخذِ الهدايا- وإنْ شئتَ فقل: (الرِّشاوى) والخَطْبُ فيها أعظمُ!
ثمَّ ساقَ الحديثَ عنْ أبي حُميدٍ الساعديِّ رضي الله عنه قال: استعملَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رجلًا على صدقاتِ بني سُليم يُدعى ابنَ اللُّتْبيَّةِ، فلما جاءَ، حاسبَه، قال: هذا مالكُم وهذا هدية، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«فهلا جلستَ في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتُك إن كنتَ صادقًا» ، ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ، فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أَفَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ! وَاللَّهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
(1) فقه السنة 2/ 46.
(2)
رواه أحمد بسندٍ حسن.
(3)
انظر: فقه السنة 2/ 47.
فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ» ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ وقال «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ » (1)
عبادَ الله: كمْ بُليَ نفرٌ منَ المسلمينَ بهذهِ الهدايا والرِّشاوى؟ وكمْ ضاعتْ حقوقُ من لا يستطيعونَ أو يتورَّعونَ عنْ دفعِ هذهِ الهدايا والرِّشاوى .. إنَّ علينا أن نتقيَ اللهَ في مطعمِنا كما نَتَّقيهِ في منكحِنا وفي بيعِنا وشراءنا، أعوذُ بالله من الشيطانِ الرَّجيمِ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (2).
(1) ح 6979.
(2)
سورة التوبة، الآية:119.