الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبةُ الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والعاقبةُ للمتقينَ، ولا عدوانَ إلا على الظالمينَ، ومَنْ يُهِنِ اللهُ فما لهُ منْ مُكرِمٍ.
إخوةَ الإسلامِ: ونحنُ هذهِ الأيامَ أمامَ هجمةٍ شرسةٍ بكلِّ المقاييسِ وأنواعِ الهجومِ، وفي ظلِّ أزمةٍ لا يعلمُ مَداها إلا اللهُ فالمستقبلُ مظلمٌ، ومؤشِّراتُ الملاحمِ والفتنِ تملأُ الآفاقَ، والمصيبةُ أنَّ المسلمينَ في غفلةٍ عنْ هذا، على حينِ يتحرَّكُ الأعداءُ ويجتمعونَ ويخطَّطونَ، والبوارجُ الكبرى تمخرُ عُبابَ البحرِ محمَّلةً بأنواعِ الأسلحةِ .. وأساطيلُ الجوِّ تتحرَّكُ منْ مغربِ الأرضِ إلى مشرقِها .. والمناوراتُ العسكريةُ منْ قِبَلِ جنودِ النصارى واليهودِ على أشُدِّها، أيستحقُ العراقُ كلِّ هذهِ الحشودِ؟ وما هيَ الخطوةُ الأخرى بعدَ العراقِ؟ وهلْ يسوغُ أنْ يظلَّ المسلمونَ يتفرَّجون والعدوُّ يحتل بلادَهمْ، ويقتلُ أبناءَهمْ، ويسيطرُ على مقدَّراتِهم؟ تلكَ أسئلةٌ كثيرًا ما تُثارُ .. فمنْ يجيبُ عنها بصدقٍ؟
لقدْ أصيبَ المسلمونَ بُذلٍّ، وهمُ الأعزّاءُ، وتفرَّقتْ كلمتُهمْ وهمُ الأمّةُ الواحدةُ .. وأصبَحوا هدفًا للغزوِ بعدَ أنْ كانوا قادةَ الفتحِ، والإسلامُ لا خوفٌ عليهِ ولكنَّ الخوفَ على المسلمينَ، فاللهُ يقولُ:{وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (1) فإلى متى يظلُّ المسلمونَ هدفًا لمخططاتِ الأعداءِ؟
إنَّ الإسلامَ يأبى الذوبانَ في المِللِ الأخرى .. بلْ يظلُّ مدُّه حتى في الأزماتِ .. واليومَ يشهدُ الناسُ أنَّ دينَ اللهِ يسيحُ في أرضِ اللهِ رغمِ المطاردةِ والتهمِ والإرجافِ والإرهاب، وفي بلادِ الغربِ نفسِها نطالعُ كلَّ يومٍ خبرًا عنْ
(1) سورة محمد، الآية:38.
إسلامِ مجموعةٍ منْ غيرِ المسلمينَ، ولمْ يَعُدِ الأمرُ قصرًا على الرجالِ بلْ شملَ النساءَ ناهيكَ عنْ مدِّهِ في آفاقِ الأرضِ كلِّها.
ولعلَّ هذا المدَّ الإسلاميَّ بشكلٍ عامٍّ أحدُ المخاوفِ الكبرى التي أثارتِ الغربَ فرأَوا تعجيلَ الضربةِ للمسلمينَ قبلَ أنْ يكتسحَهم الإسلامُ .. أمّا في البلادِ الإسلاميةِ فتستمرُّ ثمارُ الصحوةِ لتغطّيَ مساحةً أوسعَ ولتشمل كافةَ القطاعاتِ المدنيةِ والعسكريةِ وعلى مستوى الرجالِ والنساءِ .. ولعلَّ هذهِ الحملاتِ الغربيةَ .. وتلكَ الصورَ اليهوديةَ المأساويةَ لإبادةِ المسلمينَ تزيدُ مِنْ تنامي الصحوةِ وتعجِّلُ بيقظةِ المسلمينَ .. وهكذا يمكرُ الأعداءُ ويمكرُ اللهُ واللهُ خيرُ الماكرينَ، وكلَّما ظنُّوا أنهمْ أوشكوا على القضاءِ على المسلمينَ وإذا بالإسلام يُثبِّتُ أقدامَهم، ويُوقظُ عزائمَهمْ.
أيها المسلمونَ: والنصرةُ للمسلم حقٌ مشروعٌ، والرسولُ صلى الله عليه وسلم يقولُ:«انصْر أخاكَ ظالمًا أوْ مظلومًا» .. وحينَ يُبيتُ شعبُ العراقِ المسلمُ (مظلومًا) منْ ليلٍ أو نهارٍ فلا يسوغُ للمسلمينَ أن يَسكتوا .. ومنْ حقِّهمُ الدفاعُ عنْ أنفسِهمْ وإخوانِهم بكلِّ ما يستطيعونَ.
إخوةَ الإيمانِ: وإذا أصرَّ المتجبِّرونَ على طغيانِهم وحقَّقوا ضربتَهم، فلعلَّها أن تكونَ بدايةَ النهايةِ .. وعساها أنْ تكونَ مرحلةً لضعفِ القوةِ ونهايةِ الظُّلمِ والغطرسةِ .. وسُننُ اللهِ ماضيةٌ في الفناءِ والهلاكِ على كلِّ مستكبرٍ ظالم غشومٍ جاحدٍ بآياتِ اللهِ:{فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئون} (1).
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَاّ
(1) سورة الأحقاف، الآية:26.
قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (1).
أيها المسلمونَ: هلْ تُوقِظُ هذهِ الملاحمُ والفتنُ المتوقَّعةُ ضمائرَ المسلمينَ فيحاسبوا أنفسَهمْ ويعودوا إلى بارئِهمْ .. ويبادروا بالأعمالِ الصالحةِ كما أوصاهم حبيبُهمْ وناصحُهم ونبيُّهمْ صلى الله عليه وسلم إذ يقولُ: «بادِرُوا بالأعمالِ فِتَنًا كقِطَعِ الليلِ المُظلِمِ» .
وهلْ تدعوهمْ هذهِ الأزماتُ وتجمعُ الأعداءِ إلى نّبْذِ الفُرقةِ واجتماعِ الكلمةِ وتوحيدِ الهدفِ، فتلكَ القوةُ التي لا تُغلَبُ.
ومنْ مخارجِ الأزمةِ: الإيمانُ باللهِ واليقينُ بنصرِه والتوكلُ عليهِ وحْدَه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (2).
أجلْ حسبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، قالَها إبراهيمُ عليه السلام حينَ أُلقيَ في النارِ، فكانَ الجوابُ:{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} (3).
وقالها المؤمنونَ معَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم حينَ قيلَ لهمْ: إنَّ الناسَ قد جَمَعوا لكمْ فاخشَوْهم، في حمراءِ الأسدِ، فكانَ الجوابُ:{فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (4).
وما زالَ التوكلُ على اللهِ واليقينُ بنصرهِ سلاحًا يتدرَّعُ بهِ المؤمنونَ كلَّما
(1) سورة القصص، الآية:58.
(2)
سورة آل عمران، الآية:173.
(3)
سورة الأنبياء، الآيتان: 69، 70.
(4)
سورة آل عمران، الآية:174.
اشتدتِ الأَزماتُ وتكالبَ الأعداءُ، ولكنْ لا بدَّ معَ الإيمانِ منْ عملٍ، ومعَ اليقينِ منْ جهدٍ يُبتلى فيهِ الإيمانُ ويتميَّزُ الصادقونَ من الكاذبين:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (1).
إنَّ منْ معوِّقاتِ النفسِ عن الجهادِ: حبَّ الآباءِ والأبناءِ والإخوانِ والأزواجِ والعشيرةِ والأموالِ والتجارةِ التي يُخشى كسادُها، والمساكنِ التي تُرضى، وإيثارَ السلامة والإخلادِ للراحةِ والدَّعَةِ .. وتلكَ التي حذَّرَ اللهُ منها المؤمنينَ بقولِهِ:{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (2).
إنَّ ما عند اللهِ خيرٌ وأبقى .. وهذهِ الحياةُ الدنيا متاعٌ، والآخرةُ هيَ دارُ القرارِ.
وماذا بعدَ أنْ تُهانَ كرامةُ المسلمينَ ويُسخَرَ بديِنِهمْ ونبيِّهم، ويُهدَّدوا بالاحتلالِ في قعرِ ديارِهمْ .. إنَّ المسلمينَ وُعِدوا إحدى الحسنَييْن: فإمّا النصرُ وإمّا الشهادةُ.
مَنْ لمْ يمُتْ بالسيفِ ماتَ بغيرِهِ
…
تنوَّعتِ الأسبابُ والموتُ واحدُ
فإمّا حياةٌ تسرُّ الصديقَ
…
وإمّا مماتٌ يّغيظُ العِدا
ولنْ تموتَ نفسٌ حتى تستكملَ رزْقَها وأجلَها، لقدْ أصيبَ المسلمونَ بالوهنِ، وطغى عليهم حبُّ الدنيا وكراهيةُ الموتِ، ومن عجبٍ أنَّ غيرَ المسلمينَ باتوا يُفادُونَ بأنفسِهمْ وهمْ على الباطلِ، ويَرحلونَ منْ بلادِهم ويهاجِمونَ دونَ هدفِ
(1) سورة آل عمران، الآية:142.
(2)
سورة التوبة، الآية:24.
خيرٍ، على حينِ يبخلُ المسلمونَ بأنفسِهم، وهمْ على الحقِّ .. ويَعجزونَ عنِ الدفاعِ عن أنفسِهمْ وإخوانِهم وبلادِهمْ ومقدَّساتِهم، وهمْ يُهاجَمونَ .. وللهِ في خَلْقِه شئونٌ .. ومهما بلغتْ قوةُ الأعداءِ .. ففيهمْ منَ الرعبِ والخوفِ والضعفِ والَخوَرِ .. ما اللهُ بهِ عليمٌ .. فلوْ صدقَ المسلمونَ لأرهبوهمْ، ولوِ اجتمعتْ كلمتُهمْ لأخافوهمْ .. ولوْ دافعوا عنْ دينِهمْ وحُرُماتِهم لدافعَ اللهُ عنهمْ.
اللهمَّ انصرْ دِينَكَ، وعبادَكَ .. وانتقمْ ممنْ أرادَ بالمسلمينَ سوءًا، يا عزيزُ يا جبَّارُ.