الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبةُ الثانية:
الحمدُ للهِ مُستحقِّ الحمدِ وأهلِ الثناء، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، يدعوكم للطاعةِ ليغفرَ لكمْ ذنوبَكم ويرفعَ درجاتِكم، والموفَّقُ منِ استجابَ للدعوة:{وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} (1).
وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، كانَ يدلُّ الأمةَ على الخيرِ ويسبقُهم إلى فِعْلِه، وكذلكَ كانَ ينافسُ أصحابُه في الصالحاتِ اقتداءً به .. اللهمَّ صلِّ وسلمْ عليهِ وارضَ عن أصحابه ..
إخوةَ الإسلام:
يومُ عرفةَ من الأيامِ الفاضلةِ في هذا العَشْرِ، لأنهُ يومُ مغفرةِ الذنوبِ والتجاوزِ عنها ويومُ عيدٍ لأهلِ الموقف، ويُستحبُّ صيامُه لأهلِ الأمصار، وفي صيامِهِ تكفيرُ سنتين، وهذا اليومُ يومٌ أكملَ اللهُ به الدينَ، وأتمَّ بهِ النعمةَ على المسلمين ..
وعنْ عمرَ رضي الله عنه أنَّ رجلًا منَ اليهودِ قال: يا أميرَ المؤمنين، آيةٌ في كتابِكم، لو علينا- معشرَ اليهود- نزلتْ لاتَّخذْنا ذلكَ اليومِ عيدًا، قال: أيُّ آيةٍ؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} (2)، قالَ عمر: قدْ عرفنا ذلكَ اليومَ والمكانَ الذي نزلتْ فيهِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهوَ قائمٌ بعرفةَ يومَ الجمعة (3).
(1) سورة الأعلى، الآيتان: 11، 12.
(2)
سورة المائدة، الآية:3.
(3)
رواه البخاري 45، ومسلم 3017.
وفي روايةٍ عندَ الطبريِّ أنَّ السائلَ كعبُ الأحبار، وفيها أنَّ عمرَ قال: نزلتْ في يومِ جمعةٍ ويوم عرفةَ، وكلاهم بحمدِ اللهِ لنا عيدٌ (1).
تُرى هلْ يُقدِّرُ المسلمونَ هذا اليومَ حقَّ قدْره، فيبتهلُ الحجاجُ فيه إلى اللهِ بالذكرِ والدعاء، «وخيرُ الدعاءِ دعاءُ عرفةَ، وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيونَ منْ قَبْلي: لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ وهوَ على كلِّ شيءٍ قدير» (2).
قالَ ابنُ عبدِ البرِّ رحمه الله: «وفي الحديثِ دليلٌ على أنَّ دعاءَ يومِ عرفة مُجابٌ في الأغلب، وأنَّ أفضلَ الذكرِ لا إله إلا الله .. » (3).
وإذا كانَ الحُجَّاجُ يتهيءُ لهمْ فضلُ عرفةَ بعرفة، فغيرُ الحُجَّاجِ منْ الصائمينَ يجتمعُ لهمْ فضلُ الصيامِ مع فضلِ عرفة، وهمْ كذلكَ حريُّونَ بإجابةِ الدعاء.
فلنحرصْ جميعًا حجَّاجًا كنا، أو غيرَ حُجّاج. على استثمارِ هذا اليومِ وخاصةً في الدعاءِ لنا ولوالدينا وأولادِنا وأهلِينا والمسلمين (الأحياءِ منهم والميتين).
أيها المسلمون: ويومُ النحرِ يومُ الحجِّ الأكبر، وفي الحديث:«إنَّ أعظمَ الأيامِ عندَ الله تعالى يومُ النحرِ ثمَّ يومُ القَرِّ» ، ويومُ القَرِّ هوَ اليومُ الحادي عشرَ منْ ذي الحجة، لأنَّ الناسَ فيه يقِرُّون بمنى، قاله صاحبُ «النهاية» (4).
وأيامُ التشريقِ كذلكَ أيامٌ فاضلةٌ عندَ الله، وهيَ منْ أيامِ عِيْدنا، قالَ صلى الله عليه وسلم:«يومُ عرفةَ ويومُ النحرِ وأيامُ التشريق عيدُنا أهلَ الإسلام» أخرجه أبو داودَ
(1) تفسير الطبري، تحقيق أحمد شاكر 9/ 526، الفوزان: مجالس عشر ذي الحجة/ 93.
(2)
أخرجه مالك، والترمذي، والبيهقي، وهو في السلسلة الصحيحة للألباني 4/ 6.
(3)
التمهيد 6/ 41.
(4)
4/ 37.
والترمذيُّ والنسائيُّ، وهوَ حديثٌ صحيح (1).
عبادَ الله؛ أهلَ الإسلام: وفضلُ اللهِ علينا في هذه الأيامِ يمتدُّ .. وقُرُباتُه تكثرُ .. وإذا كانَ الحُجَاجُ يتقربونَ إلى اللهِ بذبحِ النُّسُك، فغيرُ الحُجّاجِ يتقربونَ إلى اللهِ بذبحِ الأضاحي .. والأضاحي مشروعةٌ بالكتابِ والسُّنةِ والإجماع، قال تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2).
ومنْ هَدْيهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ لمْ يَدَعِ الأُضْحيةَ، قالَ عبدُ الله بنُ عمرَ رضي الله عنهما: أقامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ عشرَ سنينَ يُضحِّي. رواهُ أحمدُ والترمذيُّ وسندهُ حسن (3).
ومنْ هَدْيهِ صلى الله عليه وسلم اختيارُ الأضحيةِ واستحسانُها، وسلامتُها من العيوب، وهوَ القائل:«أربعٌ لا تُجزئُ في الأضاحي: العوراءُ البيِّنُ عَوَرُها، والمريضةُ البيِّنُ مرضُها، والعرجاءُ البيِّنُ عرجُها، والكسيرة (التي لا تُنقي، والعجفاءُ التي لا تنقي» -أي منْ هُزالِها لا مخَّ فيها (4).
ومنْ هَدْيهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يضحي بالمصلِّى، وفي «الصحيحين» وغيرِهما: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يذبحُ وينحرُ بالمصلَّى (5).
قال ابنُ بطال: الذبحُ بالمصلى هو سنةٌ للإمامِ خاصةً عند مالك، وقال: إنما يفعلُ ذلكَ لئلا يذبحَ أحدٌ قبلَه، زادَ المهلبُ: وليذبحوا بعدَهُ على يقين، وليتعلموا منهُ صفةَ الذبح (6).
(1) الفوزان، المجالس 96.
(2)
سورة الكوثر، الآية:2.
(3)
المجالس، 69.
(4)
رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وإسناده صحيح. زاد المعاد 2/ 321.
(5)
زاد المعاد 2، 322.
(6)
زاد المعاد 2، 322، 323 هامش رقم 3.
ومنْ هَدْيهِ صلى الله عليه وسلم أنَّ الشاةَ تجزئُ عنِ الرجلِ وعنْ أهلِ بيتهِ ولوْ كثرَ عددُهم (1) لكنْ منْ قدرَ منَ الزوجةِ والأولادِ على الأضحيةِ بمالهِ فإنُه يُضحي عنْ نفسه، لأنها قربةٌ، والأصلُ في الأضاحي أنها عنِ الأحياء، ولهمْ أنْ يشركوا في ثوابِها منْ شاءوا منَ الأحياءِ والأموات، وأما الظنُّ بأنَّ الأضحيةَ للأمواتِ فقط، فهذا خطأٌ- ومع ذلك- فالأضحيةُ عن الميتِ عملٌ طيبٌ لأنها نوعٌ من الصدقة، والأمواتُ بحاجةٍ إلى الثواب، وثوابُ الأضحيةِ عن الميتِ أفضلُ من الصدقةِ بثمنها، كذا اختار ابنُ تيميةَ في «الاختيارات الفقهية» (2).
وينبغي للمسلمِ والمسلمةِ المضحِّي أنْ يختارَ أضحيتَه، وتطيبَ نفسُهُ بها مهما غلا ثمنُها، قالَ ابنُ تيميةَ رحمه الله: والأجرُ في الأضحيةِ على قدرِ القيمةِ مطلقًا.
ومنَ السُّنةِ أنْ يتولى المضحِّي نحرَ أضحيتِه، ولو كانت امرأةً، قالَ البخاري: أمرَ أبو موسى بناتِهِ أنْ يُضحينَ بأيديهن» (3).
وتجوزُ الاستنابةُ في الذبح، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذبحَ ثلاثًا وستين بَدَنةً بيده، واستنابَ عليًا رضي الله عنه في نحرِ ما بقيَ منْ بُدْنِهِ (4).
وعند الذبحِ يسمي اللهَ وجوبًا بقوله: بسمِ الله، ويكبرُ (استحبابًا) قائلًا: اللهُ أكبر، ولا تُشرعُ الصلاةُ على الرسولِ صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع، ولا زيادة:(الرحمنِ الرحيم) في البسملة.
ويسنُّ لهُ أنْ يأكلَ ويُهدي ويتصدقَ، قال تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (5).
(1) السابق 2/ 323.
(2)
ص 120، انظر: الفوزان، المجالس 71، 73.
(3)
الفتح 10/ 19.
(4)
أخرجه مسلم، الفوزان، المجالس/ 88.
(5)
سورة الحج، الآية:28.
ويجوزُ أنْ يُعطى الكافرُ منها لفقرهِ أو قرابتهِ أو جوارِه أو تأليفِ قلبه، وهذا منْ محاسنِ الإسلام (1).
أمةَ الإسلام: اشكروا اللهَ على نعمهِ يزدْكم، وتذكروا إخوانًا لكمْ يحتاجونَ للأضاحي فلا يجدونَ ما به يضحون، فأشرِكوهم في فرحةِ العيدِ يومَ النحر، واجعلوا منْ هذه الأضاحي وسيلةً للصلةِ بهمْ والعطفِ عليهم، وهناكَ- بفضل الله- مؤسساتٌ وهيئاتٌ إسلاميةٌ توصلُ أضاحيكم وصدقاتِكم لهؤلاءِ المحتاجينَ منَ المسلمين، وبثمنٍ يسير، وبحدودِ المائة أو المائتين- والحمدُ لله.
أيها المسلمون: واتَّخِذوا منْ أيام العيدِ فرصةً للصلةِ والزيارةِ والذِّكرِ والشكر، فهي أيامُ أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله.
نسألُ اللهَ أنْ يعيدَ أعيادَنا والأمةُ المسلمةُ ترفلُ بأثوابِ العزةِ والكرامة، ورايةُ الإسلامِ خفاقةً في كلِّ مكان، وأنْ يعوِّضَ منْ لمْ يفرحْ بالعيدِ منَ المسلمينَ خيرًا، وأنْ يرفعَ عنهمْ كلَّ محنةٍ وبلوى.
(1) المغني 13/ 381، الفتح 10/ 422، عون المعبود 1461، مفيد الأنام 2/ 504.