الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبةُ الثانية:
الحمدُ للهِ على توافرِ نعمهِ وعظيمِ آلائهِ، وأشكرهُ على فضلهِ ومنتعهِ، وأسألهُ المزيدَ من فَضْلِه، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلمْ عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين.
أيها الصائمون: هنيئًا لكمْ بشهرِ رمضانَ، إذْ تفتح أبوابُ الجنة، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقولُ في الحديثِ المتفقِ على صحته:«إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ» (1).
وهنيئًا لكمْ بالصدقةِ- في كل حين- ولا سيما في رمضانَ، وهي سببٌ لدخولِ الجنةِ، وعن حذيفةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «منْ تصدَّقَ بصدقةٍ ابتغاءَ وجهِ اللهِ، خُتمَ لهُ بها دخلَ الجنة» رواهُ أحمد، وصححَّ إسنادَه العلماءُ كالمنذري والألباني (2).
وهنيئًا لكم معاشرَ المسلمينَ الصائمينَ بالدعاءِ وقبولِه .. وللصائمِ دعوةٌ لا تردُّ، فاسألوا اللهَ من فضلهِ ما شئتم، واسألوهُ الجنةَ ثلاثًا يستجبْ لكمْ، وفي الحديثِ الصحيح:«مَنْ سألَ اللهَ الجنةَ ثلاثَ مراتٍ، قالتْ الجنةُ: اللهمَّ أدْخِلْهُ الجنةَ، ومنْ استجارَ منَ النارِ ثلاثَ مراتٍ قالتِ النارُ: اللهمَّ أجِرْهُ من النار» (3).
وهنيئًا لأهلِ التوبةِ بدخولِ الجنةِ، واللهُ يقول: {إِلَاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
(1) خ 1898، م 1079.
(2)
صحيح الترغيب والترهيب 1/ 412.
(3)
رواهُ الترمذي والنسائيُّ وابنُ ماجه والحاكمُ وصححه، ووافقهُ الذهبي، وحسَّنهُ في «السير» ، وصححهُ الألباني. المستدرك 1/ 534، سير أعلام النبلاء 8/ 252، صحيح الجامع رحمه الله 6275.
فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} (1).
فتوبوا إلى اللهِ جميعًا أيها المؤمنونَ لعلكم تفلحون .. وإذا نوديَ أهل الإيمانِ للتوبةِ فغيرهمْ بالدعوةِ أَحْرى، وبالتوبةِ أَوْلى.
ورمضانُ فرصةٌ واسعةٌ للتوبة، وعونٌ للتائبين، فهل من مُدَّكِر؟
أيها المؤمنون: وهاكمْ خِصالًا تُدخلُ الجنةَ، فقدْ جاءَ أعرابيٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، علِّمْني عملًا يُدْخِلُني الجنةَ، قال صلى الله عليه وسلم:«لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَالخطبةُ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ، أَعْتِقْ النَّسَمَةَ، وَفُكَّ الرَّقَبَةَ» قَالَ: أَوَلَيْسَتَا بِوَاحِدَةٍ؟ قَالَ: «لَا، إِنَّ عِتْقَ النَّسَمَةِ أَنْ تَفَرَّدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكَّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا، وَالْمِنْحَةُ الْوَكُوفُ (وهي غَزِيرةُ اللَّبن)، وَالْفَيْءُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ القاطع (أي العطفُ عليهِ والرجوعُ إليه بالبرِّ)، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَاكَ فَأَطْعِمْ الْجَائِعَ، وَاسْقِ الظَّمْآنَ، وَمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلَّا مِنْ الْخَيْر» (2).
ألا ما أعظمَ فضلَ الصدقةِ في كلِّ حين! وفضلُها يزدادُ في رمضانَ، وحينَ تشتدُّ حاجةُ المسلمينَ إليها في أيِّ مكانٍ وفي أيِّ لونٍ ونوعٍ من الدَّعم، فلنحرصْ على مواساةِ إخوانِنا المسلمينَ والمشاركةِ لهمْ في هُمومِهم لتخفيفِ معاناتِهم، والمسلمُ للمسلمِ كالبنيانِ يشدُّ بعضُه بعضًا.
يا مسلمُ يا عبدَ الله، وإياكَ أن تُذادَ عنْ الجنةِ بسوءِ عملِكَ .. وهل عملتَ سَعَةَ أبوابِ الجنةِ؟ وبينَ المِصْراعيْنِ منْ مصاريعِها مسيرةُ أربعينَ عامًا، وليأتينَّ
(1) سورة مريم، الآية:60.
(2)
أخرجهُ الطيالسيُّ وأحمدُ وابنُ حبان- واللفظ له- وصححه الهيثمي والألباني (مجمع الزوائد 4/ 240)، (الاحسان 1/ 296 ح 375)(مشكاة المصابيح رحمه الله 3384).
عليهِ يومٌ وإنه لكظيظ. أخرجهُ أحمدُ ورجالُه ثقات (1).
وفي «البخاري» : «إنَّ ما بينَ المصراعينِ منْ مصاريعِ الجنة، لكما بينَ مكةَ وهجَر أو هجرَ ومكة، أو كما بينَ مكةَ وبُصرى» (2).
وفي روايةِ ثالثة: «البابُ الذي يدخلُ منهُ أهلُ الجنةِ مسيرةُ الراكبِ المجوِّد ثلاثًا، ثمَّ إنهمْ ليضَّطغطونَ عليه حتى يكادُ مناكبُهم تزول» (3) وقال ابنُ القيم: وهذا مطابقٌ للحديثِ المتفقِ على صحته (كما بينَ مكةَ وبصرى).
يا عبدَ الله، وحينَ تعلمُ أنَّ الجنةَ درجاتٌ فاجتهدْ في بلوغِ أعلاها منزلةً في العملِ والدعاء، فقدْ صحَّ الخبرُ أنَّ في الجنةِ مائةَ درجة، ما بينَ كلِّ درجةٍ ودرجةٍ كما بينَ السماءِ والأرض، والفردوسُ أعلاها درجةً، منها تفجَّرُ أنهارُ الجنةِ الأربعة، ومنْ فوقها يكونُ العرشُ، فإذا سألتمُ اللهَ فاسألوهُ الفردوسَ (4).
وفي مثلِ هذا الشهر- بصيامِ نهارهِ وقيامِ ليلهِ وزيادةِ البرِّ والخيرِ فيه- فرصةٌ للعملِ والدعاء، فلا تكُ منَ المحرومينَ أو الكسالى.
آهٍ ثم آهٍ على منْ فرّطَ في سلعةِ اللهِ الغالية، ولطالما امتدتْ إليها الأعناقُ، وتقربَ إليها المُشَمِّرون بصنوفِ الطاعاتِ، فهذا مجاهدٌ في سبيلِ الله يحملُ سلاحَه بيد، ومنيَّتُه بالأخرى ينتظرُ الشهادةَ والجنةَ، وآخرُ قانتٌ آناءَ الليلِ ساجدًا وقائمًا يحذرُ الآخرةَ ويرجو رحمةَ ربِّه، وثالثٌ أواهٌ مُخبتٌ مُنيبٌ صادقٌ في نيتهِ
(1) حادي الأرواح ص 89.
(2)
خ 3340، 3361.
(3)
حادي الأرواح/ 90.
(4)
أخرجه الترمذي، جامع الأصول 10/ 500، قال المحقق صحيح، وهو عند البخاري بأتم منه.
وعملهِ، ورابعٌ لا يفترُ عنْ ذكرِ الله قائمًا وقاعدًا وعلى جَنبهِ، وخامسٌ له همةٌ في الصدقةِ والإحسان .. وهكذا منْ ضروبِ العبادةِ والجهاد .. وحَقٌّ على كلِّ مجتهدٍ يبتغي الجنةَ أن يسعى ما وسعهُ الجهدُ فالمقامُ هناكَ طويلٌ .. والحبورُ كثيرٌ .. والفوزُ عظيمٌ والخسارةُ فادحةٌ، روى مسلمٌ في «صحيحه» منْ حديثِ أبي سعيدٍ وأبي هريرةَ رضي الله عنهما عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«يُنَادِي مُنَادٍ يا (أهلَ الجنة) إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا» فَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1)» (2).
أيها المسلمون: يا أهلَ القرآن لا تغرنَّكُمُ الحياةُ الدنيا ولا يغُرنَّكُمْ باللهِ الغرور، ولا تقعدْ بكمُ الشهواتُ الزائلةُ عنْ الجنانِ العاليةِ والأنهارِ الجاريةِ والحورِ والسعادةِ الحَقَّةِ، والموتُ هناك يُنحرُ، وعلائمُ الفرحةِ أو الحسرةِ تظهرُ
…
عبادَ الله: والطريقُ إلى الجنةِ- مع أنه محفوفٌ بالمكاره- إلا أنه يسيرٌ على من يسَّرهُ اللهُ عليه، وجاهدَ نفسَه في الصبرِ عليه، وأختمُ الحديثَ هنا بذكرِ طريقينِ للجنةِ أحدُهما في العلمِ وآخرُ في العمل، قال صلى الله عليه وسلم عنِ الأول: «مَنْ سَلَكَ
(1) سورة الأعراف، الآية:43.
(2)
مسلم 2837.
(3)
مسلم 2849.
طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّة» (1)، وعنِ الثاني قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ حَتَّى يَخْتِمَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّة» (2).
(1) رواه مسلم 2699.
(2)
أخرجه أحمد في «مسنده» ، وحسنه الألباني في «السلسلة» 589، وصححه في «صحيح الجامع الصغير» 6472.