الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بشارتان وختام التوبة
(1)
الخطبةُ الأولى:
الحمد لله {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (2)، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، يُجزلُ المثوبةَ ويغفرُ الخطيئةَ ويفرحُ بتوبةِ عبدهِ إليهِ وهوَ غنيٌّ عنْ عبادته، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، كانَ يستغفرُ ربَّهُ في كلِّ يومٍ أكثرَ منْ سبعينَ مرةً، وهوَ المغفورُ له ما تقدَّمَ منْ ذنبهِ وما تأخَّر، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وإخوانهِ .. ورضيَ اللهُ عنِ الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ ومنْ تبعهمْ بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اتقوا الله معاشرَ المسلمين، فتقوى اللهِ أقومُ وأقوى، وتقوى الله مخرجٌ من الكروب، وفيها تكفيرٌ للسيئاتِ والذنوب، وهي وصيةُ اللهِ للأولين وللآخرين.
حجاجَ بيتِ اللهِ الحرام، تقبلَ اللهُ حجَّكمْ وغفرَ ذنبَكُمْ وجعلَ الجنةَ مثواكم، أيها المقيمون، تقبلَ اللهُ طاعتِكمْ، وآجرَكمْ وجعلَ الجنةَ متقلَّبَكُمْ ومثواكم.
أيها المسلمون: ومنْ فضلِ اللهِ ورحمتهِ بكمْ أنَّ مشاريعَ الخيرِ لا تنقطعُ، والطرقَ الموصلةَ إلى الجنةِ لا تُوْصَدُ في كلِّ حين .. فأينَ المشمِّرونَ وأينَ المقبلونَ على الله؟ ومنْ تقربَ إلى اللهِ شبرًا تقربَ إليهِ ذراعًا، ومنْ جاءَ إليه يمشي أتاهُ يُهروِل، ومنْ تقربَ إلى اللهِ بفرائضهِ أحبَّهُ اللهُ، ومنْ أكملَ بالسننِ والنوافلِ سدَّدَ ما في الواجباتِ منْ نقصٍ وتقصير، ألا وإنَّ التوبةَ تجُبُّ ما قبلَها، ومنْ يستغفرِ اللهَ يجدِ اللهَ غفورًا رحيمًا.
(1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 20/ 12/ 1423 هـ.
(2)
سورة غافر، الآية:3.
إخوةَ الإسلام: وإليكمْ أسوقُ بشارتين: إحداهما على شكلِ قصةٍ لرجلٍ فيمنْ كانَ قبلَنا، وأخبرَ عنها رسولُنا، والأخرى على هيئةِ خبرٍ أخبرَ به الصادقُ المصدوقُ صلى الله عليه وسلم، واستحلفَ عليه عمرُ بنُ عبدِ العزيز رحمه الله الراويَ له ثلاثًا .. ولكنَّ البشارتين كلتيْهما تَسُرَّانِ ولا تغران، وتُحفِّزانِ على التوبةِ ولا تُقْعدانِ عنِ العمل.
أما الأولى: فقد روى الإمامُ مسلمٌ رحمه الله في «صحيحه» عنْ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه، أنَّ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:«كانَ فيمنْ كانَ قبلَكم رجلٌ قتلَ تسعةً وتسعينَ نفسًا، فسألَ عنْ أعلمِ أهلِ الأرض، فدُلَّ على راهبٍ فأتاه، فقال إنهُ قتلَ تسعةً وتسعينَ نفسًا، فهلْ لهُ منْ توبة؟ فقالَ: لا، فقتلَه، فكمَّل به مئةً، ثم سألَ عنْ أعلمِ أهلِ الأرض فدُلَّ على رجلٍ عالمٍ، فقالَ إنهُ قتلَ مئةَ نفسٍ فهلْ لهُ منْ توبة؟ فقال: نعم، ومنْ يحولُ بينهُ وبينَ التوبة؟ انطلِقْ إلى أرضِ كذا وكذا، فإنَّ بها أُناسًا يعبدون اللهَ فاعبدِ اللهَ معهم، ولا ترجعْ إلى أرضِك فإنها أرضُ سوءٍ، فانطلَقَ حتى إذا نَصَفَ الطريقَ أتاهُ الموتُ، فاختصمتْ فيهِ ملائكةُ الرحمةِ وملائكةُ العذاب، فقالتْ ملائكةُ الرحمةِ: جاء تائبًا مقبلًا بقلبهِ إلى الله، وقالتْ ملائكةُ العذاب: إنهُ لمْ يعملْ خيرًا قطّ، فأتاهمْ مَلَكٌ في صورةِ آدميٍّ فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بينَ الأرضيْن فإلى أَيَّتِهما كانَ أدنى فهوَ له، فقاسوا فوجدوهُ أدنى إلى الأرضِ التي أراد فقبضتْهُ ملائكةُ الرحمة» (1).
أيها المسلمون: ولنا على هذا الحديثِ أكثرُ منْ وقفة:
الأولى: فضلُ اللهُ وسَعَةُ رحمتهِ مهما كانَ ذنبُ العبد، فاللهُ تعالى يغفرُ الذنوبَ جميعًا .. وهو يقبلُ توبةَ العبدِ ما لم يُغرْغِر، ومَنْ حَجَبَ المذنبَ عنْ
(1) ح 2766.
رحمةِ الله وأَيَّسَهُ مِنَ التوبةِ فهوَ مخطئٌ في حقِّ نفسهِ وحقِّ غيره، ومهما كانتْ ذنوبُ العبدِ فعفوُ اللهِ أوسعُ .. ولكنَّ الحبلَ الموصلَ إلى هذهِ الرحمةِ هوَ التوبةُ الصادقةُ والإنابةُ إلى الله، والشعورُ بعِظَمِ الذَّنْبِ.
الثانية: فضلُ العالمِ على العابد، فالمسئولُ الأولُ راهبٌ متعبدٌ غاَبت عنه سعةُ رحمةِ الله، فأفتى هذا القاتلَ بعدمِ قبولِ توبتهِ فقتَلَهُ مكمِّلًا به المائة، ولكنْ حينَ استفتى العالِمَ فتحَ لهُ آفاقَ التوبةِ، وأرشدَهُ إلى ما يُعينهُ إلى ذلك .. وكانَ سببًا في نجاةِ نفسهِ وفي تخليصِ هذا المذنبِ من ذنوبه، وفي هذا تأكيدٌ على فضيلةِ العلمِ وقدرِ العلماء، وفضلُ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكب.
الوقفةُ الثالثة: حاجةُ المذنبِ التائبِ إلى تغييرِ البيئةِ التي مارسَ فيها جرائمَهُ .. وحاجتُه كذلكَ إلى تغييرِ الخِلّانِ الذين كانوا سندًا له في ارتكابِ الموبقات .. فالقرينُ مؤثِّرٌ، والصاحبُ ساحبٌ، ومنْ جالسَ المُصلينَ صلَّى، ومنْ عاشَ مع الغافلينَ أعرضَ وتولى .. ولذا قالَ العالمُ لهذا التائب:(انطلِقْ إلى أرضِ كذا وكذا، فإنَّ بها أناسًا يعبدونَ اللهَ فاعبدِ اللهَ معهم، ولا ترجعْ إلى أرضكَ فإنها أرضُ سوء).
نعم، إنَّ كثيرًا مِنَ التائبينَ الذينَ يعودونَ إلى ما كانوا عليهِ إنما عادوا لأنهمْ لمْ يَصْدُقوا في توبتهم، ولم يهجُروا أصحابَ السوءِ منْ أقرانهم، فلا يزالُ بهمْ هؤلاءِ الأقرانُ يوسوسونَ لهمْ ويتهمونَهم على توبِتهم حتى يَنْكُصُوا على أعقابِهم .. ويعودوا إلى سالفِ منكراتهم، ولذا قالَ العلماءُ تعليقًا على هذا الحديث:
وفي الحديثِ استحبابُ مفارقةِ التائبِ المواضعَ التي أصابَ بها الذنوب، والأخْدانَ المساعدينَ لهُ على ذلك، ومقاطعتِهمْ ما داموا على حالِهم وأنْ
يستبدلَ بهمْ صحبةَ أهلِ الخيرِ والصلاحِ والعلماءِ المتعبدينَ الورعينَ ومنْ يُقتدى بهم ويُنتفعُ بصحبتهمْ وتتأكدُ بذلكَ توبتُه (1).
إنَّ قرينَ السوءِ لنْ ينفعَ نفسَه، فأنَّى لهُ أنْ ينفعَ غيرَه، وكمْ منْ عزيزٍ كريمٍ غَرّهُ خِلّانُ السوءِ فأوْقعوه وأرْدوه، وإذا تذكرتَ- يا أخا الإسلام- أثرَ قرينِ السوءِ فلا تقعدْ بعدَ الذكرى معَ القومِ الظالمين.
الوقفة الرابعة: والحديثُ يطيبُ عن التوبةِ في كلِّ حين، والدعوةُ إلى التوبةِ لم يُستثنَ منها المؤمنون، والله يقول:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2).
وغيرُ المؤمنين بالتوبةِ أولى وهمْ إليها أحوجُ .. ولكنَّ التوبةَ يطيبُ التذكيرُ بها في مثل هذه الأيام التي تُكَّفرُ بها السيئاتُ وتعودُ الصحائفُ بيضاءَ نقيةً على إثرْ حجِّ بيتِ اللهِ الحرام، أو على إثرِ عملِ الصالحاتِ في الأيامِ الماضيةِ وما فيها منْ تكفيرٍ للسيئات، فالحاجُّ الموفقُ يرجعُ منْ ذنوبهِ كيومِ ولدَتْهُ أُمُهُ، والصائمُ ليومِ عرفةَ يكفرُ اللهُ عنهُ بهِ سنتين.
كما يطيبُ الحديثُ عن التوبةِ في نهايةِ عامٍ حملَ كلُّ واحدٍ منا ما حملَ من الآثام والسيئات .. وما أجملَ العامَ يُختمُ بالتوبةِ والاستغفار، واللهُ تعالى يبسطُ يَدَهُ بالليلِ ليتوبَ مسيءُ النهار، ويبسطُ يَدَهُ بالنهارِ ليتوبَ مسيءُ الليل، والأعمالُ بالخواتيم، وفرقٌ بينَ منِ استحضرَ عظمةَ الله، وأدركَ عفوَهُ وسعةَ رحمتهِ فأناب وتابَ واستغفرَ مدركًا أنهُ لا يغفرُ الذنوبَ إلا الله، ومنْ لجَّ في عَمَاه واستغواهُ الشيطانُ وهواه .. فاستمرَّ يُحاددِ اللهَ بمعاصيهِ وختمَ عامَهُ بأقبحِ
(1) النووي شرح مسلم 17/ 83.
(2)
سورة النور، الآية:31.
ما عنده، وإذا كنتَ يا عبدَ الله تغارُ على محارمِك، فاللهُ يغارُ على حُرماتِه، وفي الحديثِ الصحيحِ قال صلى الله عليه وسلم:«إنَّ اللهَ يغارُ، وإنَّ المؤمنَ يغارُ، وغَيْرَةُ اللهِ أنْ يأتيَ المؤمنُ ما حَرَّمَ عليه» (1).
(1) مسلم ح 2761.
(2)
سورة التحريم، الآية:8.