الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأخوَّة الإسلامية
(1)
الخطبةُ الأولى:
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله.
اللهم صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابة أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون: مظهرٌ عظيمٌ من مظاهرِ قوتِنا، وسِمةٌ جليلةٌ من سماتِ وحدتِنا، وتعبيرٌ صادقٌ لتكافُلِنَا ومودَّتِنَا .. لا يتوفرُ مثلُها عندَ غيرِنا منَ الأمم، ولم تحفلْ بها الشرائعُ والأديان كما احتفل بها الإسلامُ .. إنها الأُخوَّةُ الإسلاميةُ، نزلَ تشريعُها منْ فوقِ سبعِ سماوات {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (2)، وتمثَّلها المسلمونَ واقعًا علميًا، بل ضربوا بها أروعَ الأمثلةِ محبةً وإيثارًا حتى خلّدَ القرآنُ ذكرَهم، وأثنى على صنيعِهم، قال تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (3).
كَمْ للأخوّةِ منْ فضائلَ ومزايا حَرِيةّ أن نعيَها ونعملَ بها، وكمْ لها منْ مقاصدَ نبيلةٍ وآدابٍ راقيةٍ، وحقوقٍ مشروعةٍ، وكم لها من مفاسدَ وآفاتٍ .. وحَريٌ بنا أن نعلم هذا أو ذاك، فهي موثقةٌ لعُرى الإيمان «أوثقُ عُرَى الإيمانِ الحبُّ في اللهِ والبغضُ في الله» .
(1) ألقيت هذه الخطبةُ يوم الجمعة الموافق 24/ 4/ 1423 هـ.
(2)
سورة الحجرات، الآية:10.
(3)
سورة الحشر، الآية:9.
وهيَ منْ كمالِ الإيمانِ قالَ صلى الله عليه وسلم: «من أحبَّ للهِ وأبغضَ للهِ، وأعطى للهِ ومنعَ للهِ فقد استكملَ الإيمانَ» (1).
بالأخوةِ تُستجلبُ محبةُ الله «وجَبَتْ محبَّتي للمتحابين فيَّ والمتجالسينَ فيَّ والمتزاورينَ فيَّ» حديث قدسي (2)، وبالأخوة يُظلُّ المتآخونَ المتحابونَ تحت ظلِّ إلا ظلُّه، فأحدُ السبعةِ منْ هؤلاء، رجلانِ تحابَّا في اللهِ، اجتمعا عليهِ وتفرَّقا عليه.
وبهذهِ الأخوَّةِ ولوازمِها تُحَتُّ الخطايا وتُغفرُ الذنوبُ؛ قالَ صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ مسلِمَيْن يلتقِيانِ فيتصافَحان إلا غَفَرَ اللهُ لهما قبلَ أنْ يَفْتَرْقا» (3)
والأخوَّةُ- لمنْ وُفِّقَ لأداءِ حقوقِها- طريقٌ إلى الجنَّة، ففي الحديث الصحيح:«من عاد مريضًا أو زار أخًا له في الله ناداه منادٍ: أن طبتَ وطاب مَمْشاك وتَبوَّأتَ من الجنةِ منزلًا» (4)
معاشرَ المسلمين: كمْ نُفرِّط في هذه المعاني واللوازم للأخوَّة، وفضلُها وآثارُها كما علِمْتم! وكَمْ نحن سعداء بهذه الأخوِّة، في الدنيا والآخرة! فهل نَسْتشعِرها، هلْ نُدْرك مقاصِدها؟
إنَّ منْ مقاصدِ الأخوَّة الإسلاميةِ التعاونَ على الإيمانِ والبرِّ والتقوى والتواصي بالحق والصّبر، وإذا خَسِرَ بنو الإنسانِ، فأُولئكَ هُم الفائزوِن.
وثَمَّةَ مقصدٌ آخرُ للإخوة، ألا وهو الاستعانةُ بالأخوَّةِ على نوائب الدّهر
(1) رواهُ أبو داود (4681) وصحَّحهُ الألباني، صحيح الجامع ح 5965.
(2)
رواه أحمد في المسند 5/ 223.
(3)
أخرجه أبو داود (ح 5112) وأحمد (4/ 289) وصحَّحه الألباني في الصحيحة (ح 525).
(4)
صحيح الجامع ح 6387.
وحاجاتِ الزمَان، وأوقات الشدائد، ومنْ مأثورِ قولِ العارفين:«إنَّا نَحْتاج إلى إخوانِ العُشرةِ لوقتِ العُسْرة» (1).
فهل نُثمِّنُ هذه المقاعد للأخوة، ويكونُ الأخُ إنما صادقًا في زمنِ الرخاء والشِّدة، ناصِحًا ومشيرًا، وفازِعًا ومُنقِذًا؟ وإذا كانَ إخوانُ الرَّخاءِ كَثْرةً، فهُمْ أقلُّ في زمنِ الشدائد.
على أنَّ مقاصدَ الأخوَّة تتجاوزُ الفردَ إلى الجماعةِ، بلْ وتصلُ إلى الأمةِ المسلِمَة بأسرِها، وتلكَ التي عبرَّ عنها الرسولُ صلى الله عليه وسلم بقوله:«مثلُ المؤمنينَ في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفهِم، كَمَثل الجسدِ الواحدِ إذا اشتَكى منه عُضْوٌ تَدَاعى له سائرُ الجسَدِ بالسَّهرِ والحُمَّى» رواه البخاري.
إنَّ هذا المقصدَ للأخوةِ مظهرٌ منْ مظاهرِ قوَّتِنا وترابُطِنا وتعاونِنا.
معشرَ المسلمين: وتلكَ إذا حقَّقْناها مُغيظةٌ لأعدائِنا مرهْبةٌ لِقُوى الكفرِ المتربِّصين بنا .. إنَّ المسلمَ حينَ ينصرُ أخاه المسلمَ، ويشعرُ بآلامه يُقوّي أخاهُ ويُضعفُ منْ هَيْبِة أعدائه، ويستجيب لدعوةِ نبيهِ صلى الله عليه وسلم:«انصُرْ أخاكَ ظالِمًا أو مظلومًا» .
أيها الأخوةُ المؤمنون: وحينَ نعلَمُ فضائل الأخوةِ وشيئًا منْ مقاصِدِها لا بدَّ أنْ نعلمَ شيئًا من حقوقِ الأخوَّةِ، ولا بدَّ أنْ نعلمَ شيئًا من حقوقِ الأخوَّةِ، ولا بدَّ أَنْ نُساءِل أنفُسنا: هلْ قُمنا بها أو بمُعْظَمِها، أم فرَّطْنا فيها أو بمعظمها؟
إنَّ منْ حقوقِ الأخوّةِ إفشاءَ السلام .. وكَمْ لإفشاءِ السلامِ مِنْ أثرٍ في مجتمعِ المسلمين؛ عنْ عبدِ الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اعبُدوا الرحمن، وأطعِموا الطعامَ، وأفشوا السلامَ، تدخلوا الجنانَ» (2).
(1) الصعلوكي، سير أعلام النبلاء (17/ 208).
(2)
رواهُ البخاريُّ في «الأدب المفرد» وصحَّحهُ الألباني، صحيح الأدب المفرد/ 377.
إن خير المتهاجرين من بدأ صاحبه بالسلام وأبخل الناس من يبخل بالسلام (1).
ومِنْ حقوقِ الأخوّة: عيادة المريض- وليس يَخْفى ما فيها من الأَجرِ والمغنم، فَضْلًا عن إيناسِ المريضِ والتسْرِية عنه.
واتباعُ جنازة المسلم حقٌ من حقوقهِ، وكذا تشميتُهُ إذا عَطَسَ وحَمَدَ اللهَ. ونصرة المظلوم، وإجابةُ الدعوةِ، وبذلُ النصيحةِ له، وقبولُها منه .. كلُ ذلك من حقوقِ الأخوَّة الإسلاميةِ.
إنها حقوقٌ تُشيعُ المحبةَ وتنشرُ التكافلَ، وتُعَمِّمُ الخيرَ، وتوسِّعُ دائرةَ النُّصْحِ، تُسرِّي وترفعُ الضَّيْمَ .. وما أروعَ خُلُقَ المسلمِ وهو يشاركُ أخاه في أفراحِهِ ومسرَّاتِهِ، ويشاركُهُ في أَتْراحِهِ ويخفِّفُ مِنْ آلامِهِ وأَحْزانِهِ ..
نَعَم، إنَّ دينًا يَجْزي على الابتِسامةِ في وجهِ المسلمِ ويعتبرُها صدقةً من الصدقاتِ لَدِينٌ عظيم، فكيفَ إذا فرّجَ عنهُ كربةً أو شاركَهُ في نازِلةٍ، أو نَصَرهُ في مَظْلَمةٍ ظُلِمَها؟ !
يا أخا الإسلام، لا تَحقِرنَّ مِنَ المعروف شيئًا، ولا تَقْصُرْه على القريب- وإنْ كانَ أَوْلى- ولا على الحبيبِ- وإنْ كانتِ النفسُ تميلُ إليهِ ميلًا- ولكنِ احرصْ على نشرِ الخيرِ والإحسانِ جَهدَك، ومَنْ لَمْ تستَطِعْ أن تُقدِّمَ له عَوْنًا بمالِكَ فبِجاهِك، أو بِحُسنِ خطابكَ ولطفِ استقبالِكَ ولا تَنْسَ الدعاءَ لإخوانِكَ المسلمين فهوَ لا يكلِّفُك شيئًا، بل يُجيبُك مَلَكٌ: ولَكَ بِمِثْلِ ما دَعوتَ به، فلا تحرِمْ نفسَك وإخوانَكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ، واقصِدْ من وراءِ ذلكَ كلِّه وجْهَ اللهِ!
أيها المسلموِن: وهناكَ آدابٌ للأخوّة لا بدَّ كذلكَ مِنْ مُراعاتِها فاعْلَمْها واحرصْ على التأَدُّبِ بها، ومِنْ هذه الآداب:
(1) صحيح الأدب المفرد/ 397.
الحرصُ على أدب الحديثِ؛ وذلكَ بجميلِ العبارةِ، فاللهُ يقول:{وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1).
والاستماعُ بأدبِ الحديث دونَ مقاطعةٍ أو تسفيهٍ أو ازدِراء.
ومِنْ آدابِ الأخوةِ الصفحُ عنِ العثرةِ والتجاوزُ عن الزَّلَّةِ، فَمَنْ حاسَب إخوانَه عندَ كلَّ زلَّةِ أمسى وأصبحَ ولا إخوان له، فكلُّ ابن آدم خطَّاءٌ، ومَنْ ذا الذي تُرْضى سَجَاياه كلها- كفى المرءَ نُبْلًا أن تُعدَّ معايبهُ، ومنْ آدابِ الأخوّةِ إحسانُ الظنِّ بالأخِ، وحمْلُه على المحاملِ الطَّيِّبةِ، فتلك تضيِّقُ مسالِكَ الشيطانِ وتُديمُ حبْلَ الودِّ.
ومِنْ هذه الآدابِ: إخبارُكَ لأخيكَ أنَّكَ تُحبُّهُ في الله، فذلك يُعمِّقُ الأخوَّة ويشيعُ المحبَّةَ ويزيدُ في الأُلفَةِ، وفي الهَدْي النبويِّ:«إذا أحبَّ أحدُكُمْ أخاه في الله، فَلْيُعْلِمْهُ، فإنَّه أَبْقى في الأُلفَةِ، وأَثْبتُ في المودّةِ» (2).
وفي لفظ: «إذا أحبَّ أحدُكُمْ صاحِبَه فَلْيأتِهِ في منزِلِه، فليُخْبِرْه أنهُ يحِبُّهُ في الله» (3).
ومنْ آداب الأخوةِ: المشاورُ والمناصَحة، والانبساط وحُسْنُ العشرةِ، والهديَّةُ والدعوةُ الصادقة، وحسن الطَّوِيَّة، والبعدُ عنْ كل ما يُنَغِّصُ المودةَ أو يقطعُ حبل الأخوة؛ تعفو إذا أخطأ عليك، وتَعْتذرُ حينَ يقعُ الخطأُ منكَ، وإياكَ
(1) سورة الإسراء.
(2)
صحيح الجامع (1/ 137).
(3)
صحيح الجامع (1/ 137).
أَنْ تبلُغَ في طلبك لهُ مبلغَ الإحراجِ، فلا يستطيعُ تلبيةَ طلبكَ ويستحي منْ مصارحَتِك، كُنْ أبِيًّا شَهْمًا، لَمَّاحًا أريِبًا، تبذلُ حين تسأل، وتشكرُ حينَ تُعطي.
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1)
(1) سورة التوبة، الآية:71.