الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإنسان قوة بين ضعفين
(1)
الخطبةُ الأولى:
إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ، ومنْ يضْلِلْ فلا هاديَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليْهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلينَ، وارْضَ اللهُمَّ عنِ الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ وتابعيهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا.
عجبًا لكَ يا ابن آدمَ كَمْ تطْغَى وتتكبَّرُ! وكَمْ تُفسدُ وتفسُقُ! تمشي في الأرض مَرَحًا، وتَنْسَى أصلَ خلقِكَ، وتتمرَّدُ على العبوديةِ لربِّك وفي مُحْكَم التنزيلِ:{قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} (2).
يا ابن آدمَ تأمَّلْ في بدايةِ خَلْقِكَ ومنتَهاهُ، وتأمَّلْ في أحوالِكَ وأطوار حياتِكَ تَرَى الضعفَ لكَ ملازِمًا وصدَقَ اللهُ:{وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} (3)، فما هي مظاهرُ ضعفِنا؟ والأهمُّ من ذلك: ماذا يسْتَدْعي منا هذا الضعفُ؟ وما العبرةُ والدرسُ؟
أيها المسلمونَ: إن منْ يتأملُ حياةَ الإنسانِ ومراحلَهُ، وأحوالَه يَرى الضعفَ ظاهِرًا .. أجلْ، ضعفٌ في النشأةِ وضعفٌ في الهَرَمِ، وضعفٌ في حال الصحةِ والسّقمِ، وفي حالِ الجوعِ والشِّبعِ، ضعفٌ في الإقامةِ وضعفٌ في السفرِ،
(1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 3/ 6/ 1424 هـ.
(2)
سورة عبس، الآيات: 17 - 19.
(3)
سورة النساء، الآية:28.
ضعفٌ في حالِ الغنى، وضعفٌ في حالِ الفقْرِ، وضعفٌ عندَ شدةَّ الحرارةِ، وضعفٌ عندَ شدَّةِ البرودَةِ .. إلخ مظاهرِ الضعفِ، فإنْ قُلتَ: فكيف هذا الضعفُ؟ وما هيَ مظاهرُهُ؟ أجبتُ بما يلي:
أما الضعفُ في حالِ البدْءِ والنهايةِ فقدْ كشفَ القرآنُ الكريمُ عنْها بقولِهِ تعالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (1)، والآية وإنْ كانَ معناها واضحًا ومُدْركًا منْ خلالِ الواقعِ المُشاهَدِ، ومنْ خلالِ أطوارِ الإنسانِ ومراحِلهِ التي لا يمكنُ لأحدٍ أنْ يتجاوزَها .. أو يُخالفَ سُنةَ اللهِ فيها.
إلا أنَّ الحكمةَ الإلهيةَ هُنا أنْ يَرى العبدُ ضعفَهُ، وأنَّ قوتَه محفوفةٌ بضَعفَيْن وأنهُ ليسَ لهُ من نَفْسِه إلا النقصُ، ولولا تقويةُ اللهِ لهُ لما وصَلَ إلى قوةٍ وقدرةٍ، ولو استمرَّتْ قوَّتُه في الزيادةِ لطَغَى وبَغَا وعَتَا (2).
إنَّ الإنسانَ يبدأُ حياتَه معتمدًا- بعدَ اللهِ- على الآخرينَ، وتنتهي حياتُه كذلكَ وهو غيرُ مستغْنٍ عنِ الرعايةِ والإعانةِ منَ الآخرين إنَّهُ يخرجُ إلى الدنيا لا يعلمُ شيئًا .. وقبلَ أن يودِّعَ الدنيا يعودُ مرةً أخرى لا يعلمُ بعدَ علمٍ شيئًا .. تأملوا ذلك في آيتين من كتابِ اللهِ يقول تعالى عن المرحلة الأولى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} (3)، ثُم يقولُ عن المرحلةِ النهائيةِ:{وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} (4).
أما واقعُ الناسِ فيقولُ: إنَّ المرءَ قد يَعُولُ ابنَهُ الصغيرَ وأباه الكبيرَ في آنٍ
(1) سورة الروم، الآية:54.
(2)
السعدي، تفسير كلام المنان (6/ 142).
(3)
سورة النحل، الآية:78.
(4)
سورة النحل، الآية:70.
واحدٍ .. هذا محتاجٌ للرعايةِ في طفولتِهِ وصِغَرِه وهذا محتاجٌ للرعايةِ في شيخوختِهِ وهرمِهِ!
إنَّ في ذلكَ لَعِبرةً: غيابٌ في البدايةِ وغيابٌ في النهايةِ وما بينَهُما سنواتٌ وأيامٌ معدودةٌ؟
أيُّها المسلمونَ: وحتى في مرحلةِ القوةِ وبلوغِ الأشُدِّ .. لا يكادُ الضَعفُ يفارقُ الإنسانَ .. أوليسَ {خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَاّ الْمُصَلِّينَ} (1)، وإلا منِ اتَّصفَ بصفاتِ الإيمانِ واليقينِ- كما جاءَ في الآياتِ المتمِّمةِ لهذه الآيةِ- وهو ضعيفٌ في حالةِ السفرِ والإقامةٍ، فهو يملُّ الإقامةَ، والسفرُ يُرهقُه.
وهو كذلكَ ضعيفٌ في حالِ النومِ واليقظةِ- فإنْ كَثُرَ نومُهُ فهو مؤشِّرٌ إلى المرضِ والتعبِ، وإنْ قلَّ نومُه فهو القلقُ والضجرُ؟
يا ابْنَ آدمَ أَلَسْت ضعيفًا في حالِ الغِنَى والفقرِ، فالغِنى يُطغِي ويُلهي ويدْعو للتعالي والكبرياء {كَلَاّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (2) إلا منْ رحمَ اللهُ وآتى المالَ على حبِّهِ مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا.
والفقرُ يُضعِفُ وُيذلُّ وكادَ الفقرُ أنْ يكونَ كفرًا؟ إلا منْ صبرَ واحتَسَب.
ابنَ آدمَ زمهريرُ البردِ يؤذيكَ، وشدةُ حرِّ الهواجرِ تُضايقُك! وأنتَ حينَ تجوعُ تظلُّ تتلوَّى، وربّما أذْهَبَ الجوعُ سمعَك وأضعفَ من بصرَكَ ورؤيتَكَ وأنتَ في حال الشِّبَعِ تثقلُ وتَصعُبُ عليكَ الحركةُ وتميلُ إلى النومِ والراحةِ، وربّما لم تسلَمْ من أَمراضِ التُّخمَةِ وأعراضِ السِّمَنِ؟
(1) سورة المعارج، الآيات: 19 - 22.
(2)
سورة العلق، الآيتان: 6، 7.
ألا فاعرفْ قَدْرَكَ، وقدِّرْ ضعفَكَ، واستعِنْ بخالقِكَ، واستثمرْ قوَّتَك، واعلَمْ أنَّ الحياةَ أطوار .. ضعفٌ وقوةٌ، وطفولةٌ وشيبةٌ، غنًى وفقرٌ، وعُسرٌ ويسرٌ، شرٌّ وخيرٌ، سرّاءُ وضرّاءُ، محنٌ وبلايا .. نومٌ ويقظةٌ، ومهما طالَ عمُرُك فالموتُ يطلبُكَ والأجَلُ يحاصرُكَ .. فكُنْ على استعدادٍ ويقظةٍ .. وإياكَ والغَفلةَ والاستكبارَ والطغيانَ والفسادَ.
أعوذُ بالله منَ الشيطانِ الرجيمِ: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (1).
نفعني اللهُ وإياكم بهَدْي كتابِه ..
(1) سورة النحل، الآيات: 53 - 55.