الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا تسرفوا
(1)
الخطبةُ الأولى:
الحمدُ للهِ أَمَرَ بالعدلِ والبرِّ والقوامِ والإحسانِ، ونهى عنِ الفحشاءِ والمنكرِ والمَخِيلةِ والإسرافِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، جاءتْ شريعتُه آمرةً بكلِّ خيرٍ، دالةً على كلِّ معروفٍ ناهيةً عن المجاوزةِ والفسوقِ والعصيانِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أَمَرَ بالقِسْطِ والإحسانِ، وجاءتْ سيرتُه نموذجًا للزهدِ والاعتدالِ، «فما أكلَ آلُ محمدٍ أكلتَيْنِ في يومٍ واحدٍ إلا وأحدُهما تمرٌ» (2)، وقالَ للناسِ كافّةً:«مَنْ أصبحَ آمِنًا في سِرْبِه، معافًى في جسدهِ، عندَهُ قُوتُ يومِه فكأنما حيزتْ لهُ الدنيا» (3). اللهمَّ اجعلْنا لك شاكرين ذاكرين .. وصلى اللهُ وسلَّمَ على نبيَّنا محمدٍ ..
إخوةَ الإسلامِ: ظاهرةٌ اجتماعيةٌ تتفشَّى، وعادةٌ منَ العوائدِ باتَ الناسُ يتنافسونَ فيها، لمْ يَسلمْ منها الرجالُ فضلًا عنِ النساءِ، فلهنَّ فيها قَدَحٌ مُعلّى، ولمْ تكنْ قصرًا على الأغنياءِ، بلْ باتَ الفقراءُ يُشاركون غيرَهمْ فيها .. نهى عنها دينُنا، وحذَّرَنا منها نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، وفي القرآنِ الكريمِ مواضعُ عِدّةٌ في النهيِ عن الإسرافِ وذمِّ المسرفينَ، ومنها عبارةٌ محدودةٌ لكنها جامعةٌ:{وَلَا تُسْرِفُوا} (4).
عبادَ اللهِ: وعينُ الناظرِ المتأمِّل لا تكادُ تُخطئُ مظاهرَ الإسرافِ، ومجالاتِ
(1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 10/ 6/ 1424 هـ.
(2)
رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها.
(3)
رواه الترمذي وابن ماجه.
(4)
سورة الأعراف، الآية:31.
الهدرِ في حياتِنا، إسرافٌ في المأكلِ والمشربِ، وإسرافٌ في الملبسِ والزينةِ، إسرافٌ في الولائمِ والمناسباتِ، وهدرٌ للأموالِ وإضاعةٌ للجهودِ والطاقاتِ، وفي عالمِ النساءِ والأطفالِ أنواعٌ ومستحدَثاتٌ منَ اللباسِ يُبالَغُ في ثمنِها، ويَقلُّ استخدامُها، وفَتشْ عنْ شيءٍ منْ ذلكَ تجدْهُ ظاهرًا أكثرَ في حفلاتِ الزواجِ ولقاءاتِ المناسباتِ. كلُّ ذلك وغيرُه أنواعٌ منَ الإسرافِ الحسّيِّ المادّيِّ .. وثمّةَ أنواعٌ منَ الإسرافِ المعنويِّ.
أيُّها المسلمون: تقرأون في كتاب رَبِّكم: {وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (1).
قالَ ابنُ عباسِ رضي الله عنهما: أحلَّ اللهُ في هذهِ الآيةِ الأكلَ والشربَ ما لمْ يكنْ سرفًا أو مَخِيلةً، فأمّا ما تدعُو الحاجةُ إليهِ، وهُوَ ما سدَّ الجوعةَ وسكّنَ الظمأَ فمندوبٌ إليهِ عقلًا وشرعًا، لمَا فيهِ منْ حفظِ النفسِ وحراسةِ الحواسِّ .. إلى أنْ قالَ: وليسَ لمنْ مَنَعَ نفسَه قدْرَ الحاجةِ حظٌّ منْ بِرٍّ ولا نصيبٌ منْ زهدٍ؛ لأنَّ ما حَرَمَها مِنْ فعلِ الطاعةِ بالعجزِ والضعفِ أكثرُ ثوابًا وأعظمُ أجرًا (2).
قالَ العارفونَ: في قِلةّ الأكلِ منافعُ كثيرةٌ، منها: أنْ يكونَ الرجلُ أصحَّ جسمًا وأجودَ حفظًا، وأزكى فهمًا، وأقلَّ نومًا، وأخفَّ نَفْسًا، وفي كثرةِ الأكلِ كظُّ المَعِدة ونَتَنُ التُّخمةِ، ويتولَّدُ منهُ الأمراضُ المختلفةُ فيَحتاجُ منَ العلاجِ أكثرَ ممّا يحتاجُ إليهِ القليلُ منَ الأكلُ.
وفي هَدْيِ النبوّةِ دواءٌ وشفاءٌ وتوجيهٌ وإرشادٌ، وهُوَ القائل صلى الله عليه وسلم: «ما ملأَ ابنُ آدمَ وعاءً شرًا من بطنٍ، بحَسْبِ ابنِ آدمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَه، فإنْ كانَ لا مَحَالةَ
(1) سورة الأعراف، الآية:31.
(2)
تفسير القرطبي للآية، 7/ 191.
فثُلثٌ لطعامِه وثلثٌ لشرابِهِ وثُلثٌ لِنَفَسِه» (1).
قالَ العلماءُ: لوْ سمعَ (بُقراطُ) هذه القسمةَ لعجبَ منْ هذهِ الحكمةِ (2).
وحينَ قيلَ لأحدِ الأطباءِ النصارى: ما في القرآنِ والسُّنّةِ منْ آياتٍ وأحاديثَ تفوقُ ما وصفَهُ الأطباءُ، عَجِبَ منْ ذلكَ، ثمَّ قالَ: ما تركَ كتابُكمْ ولا نبيُّكمْ لجالينوس طِبًّا (3).
وقالَ عليه الصلاة والسلام، مادحًا حالَ المؤمنِ في الزهدِ والقناعةِ فيما يأكلُ:«الكافرُ يأكلُ في سبعةِ أمعاء، والمؤمنُ يأكُلُ في مِعيَ واحدٍ» (4).
والمعنى كما قالَ العلماءُ: حضٌّ على التقليلِ منَ الدنيا والزهدِ فيها، فهُوَ يتناولُ دونَ شِبَعهِ ويُؤثِرُ على نفْسِهِ، ويُبقي منْ زادِه لغيرِهِ، فيقنعُه ما أَكلَ (5).
أمّا العربُ فكانتْ تُمتدحُ بقلّةِ الأكلِ وتُذَمُّ بكثرتهِ، كما قالَ قائلُهمْ (أعشى باهِلةَ .. ):
تكفيهِ فَلِذَةُ كَبْدٍ إنْ ألمَّ بها
مِنَ الشِّواءِ ويَرْوي شُرْبَه الغُمَرُ (6)
والمعتمدُ في ذلكَ ما جاءَ في «صحيحِ» البخاريِّ (معلِّقًا): «كُلوا واشربوا والبَسوا وتصدَّقوا في غيرِ إسرافٍ ولا مَخِيلةٍ» (7).
إخوةَ الإيمانِ: يُروى أنَّ أبا جُحيفةَ (وهبَ بنَ عبد اللهِ السُّوائيَّ) رضي الله عنه أكلَ
(1) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم بسند صحيح، «صحيح الجامع» .
(2)
تفسير القرطبي 7/ 192.
(3)
تفسير القرطبي 7/ 192.
(4)
أخرجه مسلم.
(5)
تفسير القرطبي 7/ 193.
(6)
الغمر: القدح الصغير.
(7)
البخاري «كتاب اللباس» .
ثَريدًا بلحمٍ سَمينٍ، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهوَ يتجشَّى (والتجشؤُ: تَنَفُّسُ المَعدةِ عندَ الامتلاءِ).
فقالَ لهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أكفُفْ عليكَ منْ جُشائِكَ أبا جُحيفةَ، فإنَّ أكثرض الناسِ شِبَعًا في الدنيا أطولُهم جُوعًا يومَ القيامةِ» ، فما أكلَ أبو جحيفةَ بملءِ بطنهِ حتى فارقَ الدنيا، وكانَ إذا تغدَّى لا يتعشَّى، وإذا تعشى لا يتغدى (1).
ويُروى كذلكَ منْ وصايا لقمانَ لابنهِ: يا بنيَّ لا تأكلْ شبعًا فوقَ شبعٍ، فإنكَ إنْ تَنْبِذْه للكلبِ خيرٌ منْ أنْ تأكلَه (2).
ولقدْ قيلَ: منَ السرفِ أنْ تأكلَ كلَّ ما اشتهيتَ؛ لأنَّ كثرةَ الأكلِ تدعو إلى كثرةِ الشرب، وذلكَ يُثقلُ المَعِدةَ، ويُثبطُ الإنسانَ عنْ عبادةِ ربِّه، والأخذِ بحظِّهِ منْ نوافلِ الخيرِ، فإنْ تعدَّى ذلكَ إلى ما فوقَه ممّا يمنعُه القيامَ بالواجبِ عليهِ حُرّم عليهِ، وكانَ قدْ أسرفَ في مطعمِهِ ومشربهِ (3).
أيُّها المسلمونَ: لقدْ أسرفْنا في مأكولاتِنا ومشروباتِنا. مُقبِّلاتٌ قبلَ الطعامِ، وأنواعٌ منَ الطعامِ، وأشكالٌ منَ اللحومِ: مشويٌّ، ومضبيٌّ، وأحمرُ وأبيضُ، وكبابٌ ورِيَشٌ .. وأنواعٌ أخرى، وأَصنافٌ من (الزلطاتِ) والمشروباتِ، وفي الختامِ لا بدَّ من حلوى ومُهضِّماتٍ!
ومَنْ يرقُبْ حالَ الناسِ وأعدادَ المراجِعينَ للمستشفياتِ يَرَى عَجبًا .. فمَعَ تقدُّمِ الطبِّ، إلا أنّ أعدادَ المرضى في تزايدٍ، وأنواعَ الأمراضِ في تصاعدٍ، تعرفُ منها وتُنكِرُ، حتى ظهرتْ أسماءُ أمراضٍ لمْ تكنْ معروفةً منْ قبلُ .. ولا
(1) تفسير القرطبي 7/ 194.
(2)
السابق 7/ 195.
(3)
تفسير القرطبي 7/ 194.
شكَّ أنَّ الإسرافَ في المأكولاتِ والإخلادَ إلى الراحةِ والكسلِ .. والشَّرَهَ في استخدامِ المعلَّبات والمستورَداتِ سببٌ منْ أسبابِ انتشارِ هذهِ الأمراضِ، ومِنَ الحِكَمِ النافعةِ:(المعدةُ بيتُ الأدواءِ، والحِمْيةُ رأسُ كلِّ دواءٍ، وأعط كلَّ جسدٍ ما عودتَهُ).
عبادَ اللهِ: والأمرُ أدهى وأمرُّ حينَ يتجاوزُ أثرُ الإسرافِ في المطعمِ والمشرب مَرَضَ الأبدانِ إلى مرضِ القلوبِ، فيتثاقلُ المسلمُ عنِ الواجباتِ المفروضةِ، ومِنْ أهمِّها الصلاةُ، فلا يأتيها إلا متأخِّرًا كسولًا، وربِّما أكلَ وشَبعَ واستغرقَ به النومُ حتى فوَّت الفريضةَ عنْ وقتِها، أو حَرَمَ نفْسَه أجرَ الجماعةِ والحضورِ للمساجدِ، وربما أسرفَ في الإنفاقِ ومَنَعَ الواجبَ منَ الزكاةِ أو المأمورِ به منَ الصدقاتِ، أو يزيدُ في الإسرافِ فينتهكُ محارمَ اللهِ بأكلِ محرّمٍ أو شربِ محرَّمٍ، أو يمتدُّ على أريكتهِ- بعدَ أنْ شَبعَ منْ نِعَمِ ربِّه- ليُسمعَ أذنَيْهِ الحرامَ منَ الغناءِ .. أو يُريَ عينيهِ مشاهدَ العُهرِ والفجورِ .. وربما تجاوزَ فاستحلَّ الفروجَ المحرَّمةَ وهَتَكَ الأستارَ واستهترَ بالقيَم.
أهكذا يكونُ الشكرُ يا عبادَ اللهِ؟ ! أفيُنعِمُ عليكَ ربُّك بنِعَمِه ثمَّ تجاهرُه بالمعصيةِ؟ أيقاَبلُ الإحسانُ بالإساءةِ، والعطاءُ بالجحودِ والنكرانِ؟ ليستْ تلكَ منْ شِيَم الكرماءِ العقلاءِ فضلًا عن المسلمينَ وأهلِ القرآن، أمَا يَخشى المسرفونَ العقوبةَ في الدنيا والآخرةِ، واللهُ يقولُ:{وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (1).
(1) سورة طه، الآية:127.