الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبةُ الثانية:
الحمدُ للهِ، أزمَّةُ الأمورِ بيدِه، وأمورُ الكونِ والخلقِ لا تخرجُ عن قدرتِه ومشيئتِه، وأشهدُ أنْ لا إله اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه وخيرتُه من خلقِهِ، اللهمَّ صلِّ وسلمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين.
عبادَ الله:
8 -
وثمةَ أمرٌ بالغ الأهميةِ في تحقيقِ النصرِ للمسلمين ألا وهوَ صدقُ التوكلِ على الله وحدَه، وصرفُ الخوفِ منهُ وحدَه. نعمْ، إنَّ الناسَ في حالِ الرخاءِ يرددونَ هذه المعاني ويعقلونها، ولكنَّ الخللَ يحدثُ حينَ تقعُ الأزماتُ وحينَ يستشري العدوُّ ويُهددُ ويُزبد، ويزدادُ القلقُ أكثرَ حينَ تُحاطُ الأمةُ بأعداءَ مِنَ الخارجِ والداخل، وحينَ يقلُّ النصرُ، ويضعفُ المُعين ..
هنا وفي ظلِّ هذه الظروفِ الحرجةِ يُساورُ النفوسَ الضعيفةَ الشكوكُ، ويستولي عليها الخوفُ مِنَ البشر، فيضعفُ يقينُها بالله، ويخفُّ ميزانُ التوكلِ على اللهِ وحدَه.
والقرآنُ يُطمئِنُ المؤمنين، بلْ يربطُ بين هذه المعاني وبينَ الإيمانِ ويقولُ تعالى {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (1).
والمرسلونَ ما فتئوا يعلِّمونَ الناسَ التوكلَ على اللهِ، لا سيما في الشدائد، وتأملْ توجيهَ موسى عليه السلام لقومِهِ على إثرِ تخوفهمْ منْ فرعونَ وعُلوِّه.
واللهُ يقول: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَاّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن
(1) سورة آل عمران، الآية:175.
يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ، وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ، فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (1).
والمؤمنونَ مع محمدِ صلى الله عليه وسلم حين خُوِّفوا بجمع الكافرين وتهديدِهم لجئوا إلى سلاح التوكل وآووْا إلى ركنٍ شديد {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} ثم قالَ مبيِّنًا مصدرَ الخوفِ مِنْ غيرِ الله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (2).
وخرجَ المسلمون إلى حمراءِ الأسدِ ومصابُهم كبيرٌ في أُحد، وجراحاتُهم تثعبُ دمًا .. لكنه الصدقَ مع اللهِ والخوفَ منهُ وحدَه .. والصبرَ والتحملَ في ذاتِ الله .. الأمرُ الذي أرهبَ العدوَّ فولَّوْا مدبرين.
كمْ نحنُ بحاجةٍ إلى إحياءِ هذه المفاهيم- حينَ تحزُبُ الأمورُ- ليكونَ الخوفُ كلُّه من الله، وليكونَ التوكلُ جميعُه على الله، لا أنْ تكونَ هذه المفاهيمُ نرددُها في حالِ السراءِ، ثم تغيبُ عنّا- أو عنْ بعضِنا- في حالِ الضراء!
أيها المسلمون: ومنْ عجبِ أنَّ المؤمنينَ الصادقينَ لا تزيدُهم الشدائدُ إلا قوةً وإيمانًا وتسليمًا، بخلافِ غيرهمْ ممن يَفرَقونَ عندَ أدنى مصيبة، بلْ ويحسبونَ كلَّ صيحةٍ عليهم. ودعوني أقفُ وإياكمْ على قصةِ المسلمين حين دهمَتْهم الأحزابُ في المدينة، لا كما تعرضُها كتبُ السيرةِ، فتلك مطوَّلة وإن كانت مفيدةٌ، ولكنْ
(1) سورة يونس، الآيات: 83 - 86.
(2)
سورة آل عمران، الآيات: 173 - 175.
كما يعرضُها القرآنُ فهم أخصرُ وأبلغُ في التعبير.
نعم، لقد زُلزلَ المؤمنون لهذا التجمعِ العداونيِّ الغاشم، وزاغتِ الأبصارُ وبلغتِ القلوبُ الحناجرَ .. ولكنَّ الله تعالى اعتبرَها نعمةً على المؤمنين فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ} (1) الآية، وهلْ تكونُ البليةُ نعمةً؟ نعم لأنَّ بها يزدادُ رصيدُ المؤمنين وينكشفُ المنافقون ويُردُّ بأسُ الكافرينَ، ويتنزلُ نصرُ اللهِ ورحمتُه بعدَ البلاءِ والتمحيص.
أما المؤمنون- فرعمَ هولِ الموقفِ وزلزلته- فقدْ استبشروا باللقاءِ والكربِ لأنه طريقٌ إلى النصر {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَاّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (2).
لقد اتخذَ المؤمنونَ من شعورِهم بالزلزلةِ سببًا في انتظارِ النصر، ذلكَ أنهم صدَّقوا قولَ الله من قبل:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (3).
إخوةَ الإسلام: ومهما قيل عنْ أسبابِ النصرِ وعواملِ التمكينِ للمسلمينَ في الأرض، فالإيمانُ الحقُّ بدؤُها ونهايُتها وأولُها وآخرها، هو ضمانةٌ للنصر {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (4).
ووعدٌ محققٌ بهِ للنصر {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (5) بسلاحِ الإيمانِ
(1) سورة الأحزاب، الآيات:9.
(2)
سورة الأحزاب، الآية:22.
(3)
سورة البقرة، الآية:214.
(4)
سورة الصافات، الآية:173.
(5)
سورة الروم، الآية:47.
ولوازمهِ، وبيقظةِ المسلمينَ يُرهبُ الأعداءُ، قديمًا وحديثًا؛ وهنا أسوقُ لكم خبرًا وتعليقًا جاء في إذاعة «إسرائيل» ونصّهُ:«أنَّ على اليهودِ وأصدقائِهم أنْ يدركوا أنَّ الخطرَ الحقيقيَّ الذي تواجههُ «إسرائيلُ» هو خطرُ عودةِ الروحِ الإسلاميةِ إلى الاستيقاظ من جديد
…
وإنَّ على المحبينَ لإسرائيلَ أنْ يبذلوا كلَّ جُهدِهم لإبقاءِ الروحِ الإسلاميةِ خامدةً؛ لأنها إذا اشتعلتْ منْ جديدٍ فلنْ تكونَ إسرائيلُ وحدَها في خطر، ولكنَّ الحضارةَ الغربيةَ كلَّها ستكونُ في خطر» (1).
فهل يدركُ المسلمونَ مكمنَ القوةِ عندهم، فيستعلُموا بإيمانِهم ويجدِّدوا في توبتِهم إلى بارئِهم مُستحبيبين لنداءِ الرحمن {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2).
كمْ نحنُ بحاجةٍ إلى التوبةِ أفرادًا وشعوبًا ودولًا، توبةً مما يعلَمُه الناسُ عنا، وتوبةً مما لا يعلمُه إلا اللهُ عنْ كلِّ أحدٍ منا، لا بدَّ من التوسلِ إلى اللهِ في كلِّ حينِ والتضرع إليه حينَ الخطوبِ، والخروجِ منْ وَحَلِ الموبقاتِ وتطهيرِ الأنفسِ من السيئاتِ .. لعلَّ الله أنْ يرحمَنا ويدفعَ عنّا ويصرفَ عنْ إخواننا المسلمين ما حلَّ بهم من الضراءِ والكربات .. فهو وحدَه فارجُ الكُرباتِ، وهو وحدَه كاشفُ البليَّاتِ .. هوَ حسبُنا ونعمَ الوكيلُ، على اللهِ توكلْنا وعليه فليتوكلِ المؤمنون .. اللهمَّ فارجَ الكرباتِ .. فرّجْ عنا وعنْ إخوانِنا كلَّ كرب وانصرنا على عدوكّ وعدونا.
(1) ليالي تحت القمر، علي بن محمد المسعود/ 46.
(2)
سورة النور، الآية:31.