الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسكنات في الأزمات
(1)
الخطبةُ الأولى:
الحمدُ للهِ مُغيثِ اللَّهفاتِ، فارجِ الكُرباتِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، ما منْ دابةٍ في الأرضِ إلا عليهِ رِزْقُها ويعلمُ مُستقرَّها ومستودَعها، كلُّ ذلكَ في كتابٍ مبين، لا يُغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها.
وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه آمنَ وصدَّقَ، وجاهدَ وصبرَ، ونشرَ اللهَ رسالتَهُ في العالمين، وأوحى إليهِ ربُّه {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (2)، وأوحى إليهِ ومنْ معَهُ منَ المؤمنين {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} (3).
اللهمَّ صلِّ وسلمْ عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين.
أيها المسلمون: منْ يتأملُ واقعَ العالمِ اليومَ يرى أحداثًا تتسارعُ وقوى تتصارع، شحناءُ وبغضاء، تهديدٌ وإرجاف، هَرْجٌ ومَرْجٌ، أهدافٌ مُعلنةٌ وأخرى مُبيَّتة، فُرْقةٌ واختلاف، وفتنٌ تموجُ ومستقبلٌ مجهول، يطغى صوتُ الحمقى، ويغيبُ أو يُغيَّبُ صوتُ العقلاء، وإذا كانَ العالمُ كلُّه قلقًا ومنكِرًا لهذهِ الحماقاتِ التي ربَّما دمرتِ الأخضرَ واليابس .. فما حالُ المسلمِ في ظلِّ هذه الأزماتِ المتلاحقة، وهلْ منْ مُهدئاتٍ ومُسكناتٍ ومبشرات؟
(1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 23/ 2/ 1424 هـ.
(2)
سورة الزخرف، الآية:43.
(3)
سورة هود، الآيتان: 112، 113.
إنَّ المسلمَ الذي يرتبطُ باللهِ خالقِ الكونِ ومُدبِّره، ويعرفُ حقيقةَ الحياةِ الدنيا وطبيعتها والآخرةَ ونعيمَها، ويؤمنُ بالقدرِ خيرهِ وشرِّهِ .. ينبغي أنْ يختلفَ عنْ غيره، فلا يقلقُ ولا يضجر، ولا ييأسُ ولا يَقْنطُ، وهوَ- وإنْ أحسَّ كغيرهِ بالقلقِ وفكَّرَ وقدَّرَ بالعواقب- فثمةَ مهدِّئاتٌ إيمانيةٌ تخففُ منْ رَوْعِه، وتُجيبُ على تساؤلاته، وتمنحهُ الهدوءَ والطمأنينةَ والراحةَ النفسية، بلْ وتدفعُه للعملِ المثمرِ.
وتعالوا بنا- معشرَ المسلمين- إلى شيءٍ من هذه المُسكِّناتِ الإيمانيةِ نعلمها ونتعاملُ معها، كلَّما حدثتْ أزمةٌ، أو أطلّت فتنةٌ، أو ضاقتْ علينا أنفسُنا.
أولًا: ترسيخُ مفاهيمِ العقيدةِ الحقَّةِ في نفوسنا، ومنْ قضايا التوحيدِ والعقيدةِ التي يجبُ ألا تغيبَ عنِ المؤمنِ أبدًا قضيةُ الربوبية، وأنَّ اللهَ تعالى بيدهِ الأمرُ كلُّه، وإليهِ يرجعُ الأمرُ كلُّه، فالخلقُ والرزق، والإحياءُ والإماتة والنفعُ والضُّر، والرفعُ والخفضُ .. كلُّها بيدِ الله، والخلقُ كلُّهمْ وعلى مختلفِ رُتَبِهِمْ وقوَّتِهِمْ لا يملكونَ منَ الأمرِ شيئًا {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (1).
وهذا صفوةُ الخلقِ يعلنُها حقيقةً إيمانيةً ويقول- وهوَ الكريمُ على الله-: {قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ} (2) ويوجهُ الخطابَ صريحًا وعامًا: ألَّا أحدَ يملكُ الضُرَّ أو النفعَ إلا الله {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَاّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (3).
(1) سورة الطلاق، الآية:3.
(2)
سورة الأعراف، الآية:188.
(3)
سورة الأنعام، الآيتان: 17، 18.
أما البشرُ فهمْ مهما امتلكوا منْ قوةٍ ضُعفاءُ، بلْ يتناهى ضعفُهم إلى حدٍّ قولهِ تعالى:{وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَاّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (1).
2 -
إخوةَ الإيمان: ومنْ توحيدِ الربوبيةِ إلى توحيدِ الأسماءِ والصفاتِ مُسَكِّنٌ ثانٍ، وتوحيدُ الأسماءِ والصفاتِ هو الإقرارُ بأنَّ اللهَ بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وعلى كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنهُ الحيُّ القيومُ لا تأخُذُهُ سِنَةٌ ولا نوم، لهُ المشيئةُ النافذةُ، والحِكمةُ البالغةُ، وأنهُ سميعٌ بصيرٌ رؤوفٌ رحيم، على العرشِ استوى، وعلى الملكِ احتوى، وأنه الملكُ القدُّوس السلامُ المؤمنُ المهيمنُ العزيزُ الجبارُ المتكبرِّ، سبحانَ اللهِ عمَّا يشركون .. إلى غيرِ ذلكَ منْ أسماءِ اللهِ الحسنى، وصفاتِه العلى (2).
إن استشعارَ المسلمِ لأسماءِ الله، وتصوُّره لصفاتهِ يمنحهُ الرِّضى بما قضى، والطمأنينةَ بما قدَّر، ولمِ القلقُ واللهُ علّامُ الغيوب، ورحمتُهُ وسِعَتْ كلَّ شيء، وبيدهِ وحدهُ مفاتيحُ الرحمةِ ومغاليقها؟ ! {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} (3) ولمَ الَخَوَرُ والضجرُ وأزِمَّةُ الأمورِ كلِّها بيدِ الله؟ ! فهوَ العليمُ وهوَ الحكيمُ وهوَ الخبيرُ وهو اللطيف، وهوَ السميعُ البصير، وهوَ الجبَّارُ القادرُ المتكبر، وقدْ صحَّ الخبر:«إنَّ للهِ تسعةً وتسعينَ اسمًا، مَنْ أحصاها دخلَ الجنة .. » متفقٌ عليه، وقدْ قيلَ في معنى إحصائها: أي مَنْ أطاقَ القيامَ بحقِّ هذهِ الأسماء، والعملَ بمقتضاها، وهوَ أنْ يعتبرَ معانيها فيلزم نفسَه بموجباتها، فإذا قال: الرزاق وثِقَ بالرزق، وكذا سائرُ الأسماء (4).
(1) سورة الحج، الآية:73.
(2)
تيسير العزيز الحميد، سلمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب 19.
(3)
سورة فاطر، الآية:2.
(4)
معارج القبول، الحكمي 1/ 84.
3 -
ومُسكِّنٌ ثالثٌ يتمثلُ في صدقِ الدعاءِ والتضرعِ لله: {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1)، {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} (2).
ومنْ هَدْيِ النبوةِ قبسٌ ودعاءٌ يُذهبُ الهمَّ والغمَّ، ففي «المسند» و «صحيح أبي حاتم» منْ حديثٍ عبد اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ما أصابَ عبدًا همٌّ ولا حَزَنٌ فقال: اللهمَّ إني عبدُك ابنُ عبدِك، ابنُ أَمَتِك، ناصِيَتي بيدِكَ، ماضٍ فيَّ حكُمكَ، عدلٌ فيَّ قضاؤُك، أسألُكَ بكلِّ اسمٍ هوَ لك، سميتَ بهِ نفسَكَ أو أنزلتَهُ في كتابك، أو علَّمْتَهُ أحدًا منْ خلقكَ أو استأثرتَ بِهِ في علمِ الغيبِ عندك، أنْ تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي، ونورَ صدري وجلاءَ حُزْني وذهابَ همِّي وغمِّي، إلا أذهبَ اللهُ همَّهُ وغمَّهُ وأبدلَهُ مكانهُ فرحًا» ، قالوا: يا رسولَ الله، أفلا نتعلمهن؟ قال:«بلى، ينبغي لمنْ سمعهنَّ أنْ يتعلمهن» (3).
فهل نعلمُ هذا الدعاء؟ وهل نعملُ به؟ وهلْ نجدُ لهُ أثرًا في حياتنا؟
4 -
أما المسكِّن الرابعُ فهوَ النظرُ بتفاؤلٍ للمستقبل، وعدمُ حبسِ النفسِ تحتَ ضغطِ الواقعِ المؤلم، إذْ كثيرًا ما يتضايقُ المرءُ ويقلقُ ويضجرُ نتيجةَ ما يراهُ حاضرًا منْ أحداثٍ مؤلمة، لكنهُ حينَ يتجاوزُ الحاضرَ ويتفاءلُ بالمستقبلِ يُسرِّي عنْ نفسهِ ويقودُها للعملِ والإنتاجِ والبهجةِ والسرور، فالأحزانُ لا تدوم، والضيقُ يعقبهُ الفرجُ، والصبرُ جسرٌ يعبرُ عليهِ الصابرون من حالٍ إلى حال، وهذا رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم حينَ ضاقتْ على أصحابهِ المهاجر، وجاءوا إليهِ يشكونَ ما
(1) سورة الأنعام، الآية:43.
(2)
سورة النمل، الآية:62.
(3)
الفوائد/ 33.
يلقونَ منْ عَنَتِ المشركين، وقالَ قائلُهم: ألا تستنصرُ لنا، ألا تدعو لنا؟ فتحَ لهمْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بابَ الأمل، وبشَّرهمْ بمستقبلٍ مشرق، بعدَ ترويضهمْ بالبصرِ واليقين:«واللهِ ليُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يسيرَ الراكبُ منْ صنعاءَ إلى حضرموتَ، لا يخافُ إلا اللهَ والذئبَ على غَنمِه، ولكنكمْ تستعجلون» .
5 -
ومن المسكِّناتِ في الأزماتِ: كثرةُ العبادةِ والاستمرارُ على الطاعة؛ إذ الأنفسُ تُشْغَلُ، والقلوبُ تضعُف، والذهنُ يتشتَّت (1)، والمؤمنُ الذي يداوي ذلكَ بكثرةِ العبادةِ لا شكَّ موفَّقٌ مروِّضٌ لنفسِه، ولهذا ندبَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم المسلمينَ إلى العبادةِ في الهَرْجِ وعظَّمَ أمرَها فقال:«العبادةُ في الهَرْجِ كهجرةٍ إليَّ» .
ولا ريبَ- معاشرَ المسلمين- أنَّ منْ فعلَ ما يوعَظُ بهِ آنسَهُ اللهُ وثبَّته، {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} (2).
6 -
والدعوةُ للخيرِ في الأزماتِ كذلكَ مفتاحٌ لحلِّها بإذنِ الله، وفي ذلكَ إشغالٌ للنفسِ بما ينفعُ، أجل، إنَّ الفارغَ منَ العملِ المثمرِ يقضي وقتهُ بالتفكرِ والتحسرِ السلبي، لكنْ إذا صرفَ هِمَّتَهُ للدعوةِ ونَفْعِ الناسِ نفعَهُ الله، ونفعَ الناسَ به، ومنْ تأملَ سيرةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنينَ معَهُ وجدَهمْ في أشدِّ الضيق والأذى يمارسونَ الدعوةَ إلى الله، وعجِبَتْ قريشٌ وهيَ تضايقُهم، وأفرادٌ منَ المعدودينَ فيهمْ يستجيبونَ للدعوةِ وينضمونَ لقافلةِ المؤمنين .. ومن أبرزِ هؤلاء: حمزةُ وعمرُ بن الخطابِ وغيرُهمْ كثيرٌ رضي الله عنهم أجمعين، بلْ ومنْ خارجِ مكةَ أمثال: أبي ذرٍ الغفاري، والطُّفيلِ بن عمرو الدَّوْسيِّ وغيرِهما رضي الله عنهم أجمعين.
(1) وربما انشغل الناس بالقيل والقال وفتر عن عبادة ربه.
(2)
سورة النساء، الآية:66.
فهلْ يا تُرى ينشطُ المسلمونَ في الدعوةِ إلى اللهِ في وقتِ الأزماتِ خاصةً، ليغيظوا الكفارَ والمنافقينَ منْ جانب، وليطردوا عنْ أنفسِهم الضيقَ والضجرَ واليأسَ والإحباطَ منْ جانبٍ آخر.
7 -
والصدقةُ والإحسانُ سبيلٌ لرفعِ الأزماتِ والكروب، كيفَ لا وقدْ صحَّ الخبرُ أنَّ «صنائعَ المعروفِ تقي مصارعَ السُّوء، والصدقةُ خَفيًّا تطفئُ غضبَ الربِّ، وصلةُ الرحم زيادةُ في العمر، وكلُّ معروفٍ صدقةٌ، وأهلُ المعروفِ في الدنيا همْ أهلُ المعروفِ في الآخرة» (1).
والصدقةُ برهانٌ على حبِّ الخير، وهي شارحةٌ للصدر منفِّسةٌ للكَرْب، مبعِدةٌ للشُّحِّ- وفي القرآن- مُذهبةٌ للخوفِ والحزن {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2).
الصدقةُ يُداوى بها المرضى وينتفعُ بها الموتى، ويُتَّقى بها منَ الشُّحِّ والبخلِ والأثَرةِ للأحياء، فأينَ المتصدقون يواسونَ إخوانَهم المسلمين، وبها يُداوونَ مرضاهم ويُحسِنون إلى أنفسِهمْ وموتاهم، واللهُ تعالى يجزي المتصدقينَ ويُخلِف على المنفِقين.
(1) رواه الطبراني في «الأوسط» وصححه الألباني. صحيح الجامع 3/ 24.
(2)
سورة البقرة، الآية:262.