الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثلاثة الذين خلفوا
(1)
الخطبةُ الأولى:
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله،
اللهم صلِّ وسلمْ عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عنِ الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ وتابعيهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ وسلمْ تسليمًا كثيرًا.
إخوةَ الإيمان: لكلِّ أمةٍ رجالٌ تفخرُ بهمْ وتكثرُ مناقبُهم، ويحلو الكلامُ في سِيَرهم، وما منْ نبيٍّ إلا كانَ له حواريونَ وأصحابٌ، يؤمنونَ بما جاءَ به، ويجاهدونَ معه، وإنْ كانَ يوجدُ النبيُّ الذي يأتي يومَ القيامةِ وليسَ معهُ أحد؟
ولكنَّ رجالَ هذهِ الأمةِ الأوَّلينَ فاقوا غيرَهم .. وكُثَر عددُهم، وشهدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على خيريَّتِهمْ فقال:«خيرُ الناس قَرْني» ، وأثنى اللهُ عليهمْ في أكثرَ منْ موضعٍ منْ كتابهِ العزيز، منْ مثلِ قولهِ تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2).
ومن السنةِ- كما يقولُ الإمامُ أحمدُ رحمه الله في كتابه «السنة» : ذكرُ محاسنِ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كلِّهمْ أجمعين، والكفُّ عنِ الذي جرى بينهم، فمنْ سبَّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحدًا منهمْ فهوَ مُبتدعٌ رافضيٌّ .. إلى أنْ قالَ
(1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 4/ 1/ 1424 هـ.
(2)
سورة التوبة، الآية:100.
الإمام: حبُّهمْ سُنَّةٌ، والدعاءُ لهمْ قُرْبةٌ، والاقتداءُ بهمْ وسيلةٌ والأخذُ بآثارهمْ فضيلة (1).
أخوةَ الإسلام: وصحابةُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جاهدوا بأموالهمْ وأنفسِهمْ في سبيلِ الله، وفدَوْا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأرواحهم، وحملوا الإسلامَ إلى أصقاعِ الأرض، وهمْ يحملونَ أرواحهمْ على أكُفِّهم، فمنهمْ منْ قضى نحبَهُ في ساحاتِ الجهادِ ومنهمْ منِ انتظرَ حتى توفاهُ اللهُ وما بدَّلوا تبديلًا.
كانوا قِمَمًا في إيمانهمْ وصِدْقِهم، وكانوا كذلكَ قِمَمًا حين يخطئونَ فيتوبون، وحديثُ اليوم عن الثلاثةِ الذينَ خُلِّفوا، جاءَ ذكرهمْ في القرآنِ وأفاضتِ السيرةُ النبويةُ في تفصيلِ خبرهمْ- وإنْ لمْ نجدْ في كتب الطبقات والتراجم مزيدَ تفصيل عن حياتهم- وهم: كَعبُ بنُ مالك- وهوَ أصغرُهمْ سنًا وأشهرهمْ ذِكرًا- ومُرارةُ بنُ الربيعِ العمريِّ، وهلالُ بن أميةَ الواقفيُّ، والثلاثةُ من الأنصارِ، والاثنان الأخيران بَدْرِيَّان.
أما كعبٌ فهوَ خزرجيٌّ عَقَبيٌّ أُحُديّ- يعني منَ الخزرجِ وشهدَ العقبةَ وأحدَ، كانَ منْ أهلِ الصُّفَّة- كما قالَ ابنُ أبي حاتم (2)، شهدَ العقبةَ وبايعَ بها، وتخلَّفَ عنْ بدر- ولمْ يعاتب الرسولُ صلى الله عليه وسلم منْ تغيّبَ عنها وشهدَ أحدًا وكانَ لهُ موقفٌ فيها، ثمَّ شهدَ ما بعدَها، وتخلَّفَ في تبوكَ، وقصتُهُ وصاحباهُ مشهورةٌ فيها (3).
كان كعبٌ أحد شعراءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم المشهورينَ وهم: حسانٌ، وابنُ رواحةَ وكعبٌ، وخدمتُهمْ للإسلامِ في شعرهمْ لا تُنكر، قالَ ابنُ سيرين: أما كعبٌ فكانَ
(1) العباد، الانتصار للصحابة الأخيار ص 133.
(2)
الجرح والتعديل 7/ 160، 161.
(3)
الإصابة 8/ 304، 305 بتصرف.
يذكرُ الحربَ يقول: فعلنا ونفعلُ ويتهدَّدُهم، وأما حسانٌ فكانَ يذكرُ عيوبَهمْ وأيامهم، وأما ابنُ رواحةَ فكان يُعيِّرُهمْ بالكفر (1).
ولقدْ تأثرَ كعبٌ رضي الله عنه حينَ نزلَ في القرآنِ ما نزلَ في ذمِّ الشعراء، فجاءَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسولَ الله، قدْ أنزلَ اللهُ في الشعراءِ ما أنزل، فقالَ له النبيُّ صلى الله عليه وسلم مطمئنًا:«إنَّ المجاهدَ مجاهدٌ بسيفهِ ولسانه، والذي نفسي بيدهِ لكأنما ترمونهمْ بهِ نضحُ النَّبْلِ» (2).
شهدَ كعبٌ أحدًا فارتُثَّ فيها، بل جُرح فيها سبعةَ عشرَ جرحًا، وهوَ أولُ منْ عرفَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وبشرَّ به المؤمنين حيًّا سويًّا، ودعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كعبًا بلأمَتِه، وكانتْ صفراءَ، فلبسها كعبٌ وقاتلَ يومئذٍ قتالًا شديدًا حتى جُرحَ سبعةَ عشرَ جرحًا (3).
أيها المسلمون: وكما جاهدَ كعبٌ المشركينَ بسيفه، جاهدهمْ كذلكَ بلسانه، وكانَ لشعرهِ أثرٌ بالغٌ عليهم، بلْ أسلمتْ لهُ دَوْسٌ لبيتينِ قالهما كعبٌ والخبرُ كما ذكرهُ ابنُ سيرين: قالَ كعبٌ بيتينِ كانا سببَ إسلامِ دَوْس، والبيتانِ قالهما كعبٌ حينما انصرفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم منْ حُنينٍ وأجمعَ المسيرَ إلى الطائف، والبيتانِ هما- كما ذكرَ ابنُ هشام-:
قَضَيْنا منْ تهامةَ كلَّ ريبٍ
…
وخيبرَ ثمَّ أجمَعْنا السُّيوفا
نُخيِّرُها ولو نطقتْ لقالتْ
…
قواطعهنَّ دَوْسًا أو ثقيفا (4)
(1) سير أعلام النبلاء 2/ 525.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (20500) وعند أحمد في «مسنده» (6/ 387) بسند صحيح، سير أعلام النبلاء 2/ 525.
(3)
سير أعلام النبلاء 2/ 525.
(4)
السيرة لابن هشام 4/ 171.
فلما بلغَ ذلكَ دَوْسًا قالوا: خذوا لأنفسكم، لا ينزلُ بثقيف (1).
قالَ الذهبي: وقدْ أسلمتْ دوسٌ فَرَقًا منْ بيتٍ قَالهُ كعبٌ .. نخيِّرها ولو نطقَتْ لقالت: قواطعهنَّ دَوْسًا أو ثقيفا (2).
وفي الحديثِ عنْ شعرِ كعب، قالَ لهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«ما نسيَ ربُّكَ لكَ، - وما كانَ ربُّك نسِيًا- بيتًا قلتَه» ، قال: وما هو؟ قال: «أنشِدْه يا أبا بكر» فقال:
زَعَمتْ سخينةُ أن ستغلِبُ ربَّها
…
وَلَيُغْلَبنَّ مُغالبُ الغلاب
والسخينةُ لَقَبٌ لقريشٍ كانت تُعَّير به (3).
قالَ الذهبي: مات كعبٌ سنةَ خمسين (4).
وقالَ ابنُ حجر: ولمْ نجدْ لهُ في حربِ عليٍّ ومعاوية- رضي الله عنهما خبرًا (5).
أما مرارةُ بنُ الربيع، وهلالُ بنُ أمية فهما كما قالَ صاحبهما كعب: قدْ شهدا بدرًا وفيهما أسوةٌ (6).
وهلالُ بنُ أميةَ- كما تقولُ امرأتُه-: شيخٌ ضائعٌ وما به حِراكٌ إلى شيءٍ، وما زالَ يبكي منذُ كانَ من أمرهِ في تبوكَ ما كان (7).
كان هلالٌ قديمَ الإسلامِ وشهدَ بدرًا وأُحدًا، وكانَ يكسرُ أصنامَ بني واقف،
(1) الإصابة 8/ 305.
(2)
سير أعلام النبلاء 2/ 525.
(3)
سير أعلام النبلاء 2/ 526.
(4)
المستدرك 3/ 440.
(5)
الإصابة 8/ 305.
(6)
أخرجه البخاري ح 4418.
(7)
البخاري مع الفتح 8/ 115.
وكانتْ معهُ رايتُهمْ يومَ الفتح (1).
والثلاثةُ كلُّهم- كعبٌ وهلالَ ومرارة- امتُحنوا حينَ تخلَّفوا في غزوةِ تبوك إلى الحدِّ الذي أخبرَ اللهُ عنهمْ في كتابهِ بقوله: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَاّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2).
وأخبرَ أحدُهمْ (كعبٌ) عن المعاناةِ التي عاشوها والضيقِ الذي لازمهمْ طيلةَ خمسينَ ليلةً إذْ يقول: ونهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمينَ عن كلامنا، فاجتنبَنَا الناسُ وتغيَّروا لنا، حتى تنكرتْ في نفسي الأرضُ، فما هيَ التي أعرفُ، فلبثْنا على ذلكَ خمسينَ ليلةً، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنتُ أشبَّ القومِ وأجلَدَهم، فكنتُ أخرجُ فأشهدُ الصلاةَ مع المسلمين، وأطوفُ في الأسواقِ ولا يكلِّمُني أحدُ، وآتي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأسلمُ عليهِ وهوَ في مجلسهِ بعدَ الصلاةِ فأقولُ في نفسي: هلْ حرّكَ شَفَتَيهِ بردِّ السلامِ عليَّ أم لا؟ ثمَّ أصلي قريبًا منه، فأسارِقُهُ النظرَ، فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبلَ إليَّ وإذا التفتُّ نحوَهُ أعرضَ عني، حتى إذا طالَ عليَّ ذلكَ- من جَفْوةِ الناس- مشيتُ حتى تسوَّرتُ جدارَ حائطِ أبي قتادةَ، وهوُ ابنُ عمي وأحبُّ الناسِ إليَّ فسلمتُ عليه، فواللهِ ما ردَّ عليَّ السلامَ، فقلتُ: يا أبا قتادةَ: أنشُدُكَ بالله، هل تعلَمُني أُحِبُّ اللهَ ورسولَه؟ فسكتَ، فعُدتُ له فنشَدْتُهُ فسَكتَ، فعُدْتُ له فنَشَدْتُه. فقال: اللهُ ورسولُهُ أعلم، ففاضتْ عيناي ..
إنها قمةُ المعاناةِ يعيشها الثلاثةُ ويُعبرُ عنها كعب .. فالأصحاب يَهْجرونَ
(1) ابن الأثير: أسد الغابة 5/ 406.
(2)
سورة التوبة، الآية:118.
والأرضُ تتغير، والأسواقُ وحشةٌ وهجر، وفي المسجدِ إعراضٌ وهَجْر، والصديقُ الحميمُ يتردَّدُ في البوحِ بأدنى تزكية .. وحُقَّ للثلاثةِ أنْ يتأثروا لهذهِ المحنةِ وأنْ تجيبَ العينانِ بالبكاءِ قبلَ ما يمكنُ أنْ يعبِّرَ عنه القلبُ ويترجمُه اللسانُ!
وهكذا يُبتلى العظماءُ، ويُمحَّصُ المؤمنون، وتكونُ العاقبةُ حميدةً والبشارةُ سارةً .. والرسولُ صلى الله عليه وسلم يقولُ لكعب- حينَ نزلَ القرآنَ بتوبتهم:«أبشرْ بخيرِ يومٍ مرَّ عليكَ منذُ ولدَتْكَ أمُّكَ» (1).
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (2).
(1) البخاري، السابق.
(2)
سورة التوبة، الآية:119.