الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ظاهرةٌ، وموسم
(1)
الخطبةُ الأولى:
الحمدُ لله أَمَرَنا بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القُرْبى، ونهى عن الفحشاءِ والمنكرِ والبغيِ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، حرَّمَ الظلم على نفسِه وجعله بين عبادِه محرَّمًا، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، جاءت شريعتُه بحفظِ الأنفُس والأموالِ والأعراض، والمفلِسُ من أُمّته من جاء يومَ القيامة وقد سفكَ دمَ هذا وضربَ هذا وأخذ مالَ هذا. اللهم صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائر النبيين.
عبادَ الله: ظاهرةٌ اجتماعيةٌ مقلِقةٌ، يتفاقمُ خَطَرُها، ويكثُر جَرْحاها وقتلاها، وتعمُّ ببلواها فتتجاوزُ الفاعلين إلى الأبرياءِ الآمنين، نشتركُ جميعًا في مسئوليتها، ولا بدَّ أن نتعاونَ جميعًا في علاجِها .. ضحيتُها أولادُنا، ووَقودُها أموالُنا، إنها تستفزُّ مشاعرَنا، وتحرقُ أعصابَنا، وطاقَمُها في بيوتِنا وأبطالُها المتهوِّرون فَلَذَاتُ أكبادِنا، كم أيتمتْ، وأرملتْ، وأقعدتْ وشلّتْ، وكم أحزنتْ وأبكتْ، وآلمتْ وفرّقتْ وآثارُها مزيجٌ من الدماءِ النازفةِ، والأشْلاءِ المتناثرةِ، والجثثُ الهامدة هنا وهناك، فهل عرفتُم هذه الظاهرةَ؟
إنها ظاهرةُ حوادثِ السياراتِ عمومًا .. وأخصُّ منها تلك التي تَحدُث نتيجةَ تهوُّرٍ في القيادة، واستخفافٍ بالأنفُس البشرية، وتطاوُلٍ على الأنظمة المروريّة كسرعةٍ جنونية، أو قَطعٍ للإشارة دون مبالاتٍ بالنتيجة، أو نوعٍ من القيادة ذاتِ الحَرَكات البهلوانية والتي تؤدِّي إلى الإضرارِ بالآخرين، وقد يكون هذا القائدُ
(1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 28/ 11/ 1423 هـ.
المتهوِّرُ أولَ الجرحى، وربما كان أولَ واحدٍ في عِدَاد الموتى.
وهذه الظاهرةُ الأخيرة- أعني ظاهرةَ ما يُسمَّى (بالتفحيط) - هي المقصودةُ بحديثِ اليوم، لأن سُوقَها يَرُوج- أكثرَ- في أيامِ الامتحانات، وعلى مشارفِ الإجازات .. ولقد فُتِنَ بها أبناؤُنا حتى شكَّلوا جمهورَها المتفرِّج، وتفنَّن بها أبناؤنا (المتهوِّرون) حتى عاد مِقودُ السيارةِ بأيديهم أشبهَ بمُسدسٍ في يدِ مهووسٍ أو مجنون؟
والسؤالُ الذي يطرَحُ نفسَه: ما دورُنا- نحن الأولياءَ- في هذه الظاهرةِ وجودًا أو عدمًا؟ وما دَورُ المؤسساتِ التربويةِ والتعليميةِ- قبل الأَمنية- تربيةً وتعليمًا ونُصحًا، ثم أين دورُ الجهاتِ الأَمنية الفاعل تجاهَ هذه الظاهرةِ رصدًا ومتابعةً وتوعيةً ومنعًا؟
أيها الآباءُ .. وأيها المربُّون، ويا رجالَ الأمنِ- تعالَوْا بنا نضعُ النِّقاطَ على الحروفِ في سبيل علاجِ هذه الظاهرة، وتجنيبِ مجتمعِنا وأبنائنا من كوارثَ تُهِيل فيها لغةُ الأرقام .. ويُصدَم الغافلُ حين يطَّلعُ على إحصاءاتِ الحوادثِ وعددِ الموتى، فضلًا عن المعاقِينَ والمشلولينَ وأصحابِ العاهاتِ الأخرى .. ولقد ذَهَلتُ حين طالعتُ في إحدى صحفِنا المحلية جريدةِ الرياض في يوم الثلاثاء 25 م 11/ 1423 هـ- وبها مقالٌ يتحدَّثُ عن آثارِ الحوادث ونسبتِها وكثرتِها، ويُحصي المقالُ حوادثَ هذا العامِ الذي نودِّعُه 2002 م وتقول: إن عددَ الحوادثِ زاد ليصلَ إلى ثلاثمائة وعشرين (320) ألفَ حادثٍ، بمعدَّل ثمانمائةٍ وعشرين (820) حادثًا في اليومِ الواحدِ، مع ستٍّ وثمانين إصابةً، وثلاثةَ عشرَ (13) وفاةً في اليومِ ثم يقولُ الكاتبُ معلقًا: هذه المعلوماتُ والأرقامُ والحقائقُ كشفَتْها إحصائياتٌ رسمية أُعلِنَ عنها في الصحفِ، وكَشفتْ الإحصائياتُ أرقامًا مُروِّعةً ومخيفةً لعدد القتلى والمصابين جرَّاءَ الحوادثِ
المروريةِ الناتجة عن السرعة واللامبالاةِ والتهوُّر في القيادةِ وقَطْع الإشارات، وفوقَ كلِّ هذا لا يزال للأسفِ حصادُ الأنفُسِ مستمرًا، بل وفي تصاعدٍ مُذهِل (1).
أيها الناسُ: ودعونا نقفْ على لونٍ واحدٍ من هذه الممارسات الخاطئةِ في القيادةِ وما يُسمَّى بـ (التفحيط) أو (حربِ الشوارع) ولنبدأْ بدَوْرِ الأسرةِ وممثِّلِها الأول (الأب) وأَكتفي هنا بطرحِ عددٍ من الأسئلةِ على الآباء، وكلٌّ يختارُ الإجابةَ التي يراها مناسبةً له ولأولادِه وللمجتمعِ من حولِه.
فهل ابنُكَ- أساسًا- مؤهَّلٌ للقيادةِ وأهلٌ لتحمُّل مسئوليةِ السيارة؟ وإياك أن تقول: هذه مسئوليةُ رجالِ الأمن وحدَهم .. فأنت بكلّ تأكيدٍ أدرى وأعرفُ بابنِك من غيرِك، لا سيَّما في تعقُّلِه وتحمّلهِ للمسئولية، وتقديرِه لمصلحة نفسِه والآخرين، وإذا لم يبقَ إلا قدرتُه على القيادةِ فنيًّا فتلك مسئوليةُ رجالِ الأمن .. لكنْ إياك أن تشفعَ أو توسِّط أو تضغطَ عليهم للتجاوزِ عن شروطٍ لا بدَّ منها للقيادة.
وهل ينتهي دورُك- أيها الأبُ- عند شراءِ السيارةِ ثم تسليم الابنِ مقاليدَها دون شرطٍ أو قيد، ودون معرفةِ أين يذهبُ، ومن يصطحبُ .. وأين يُمضِي سَحابةَ النهار وعتمةَ الليل على هذه السيارةِ، هل لديك متابعةٌ وسؤالٌ ومعرفةٌ وتوعيةٌ؟ أم أنك محاسِبٌ تدفع فاتورةَ الوَقُود .. وقد يحرق نفسَه أو غيرَه بهذا الوقود.
هل ابنُك أصلًا محتاجًا للسيارةِ أم أنك تُباهي أن في البيت عددًا وأنواعًا من السياراتِ، بقطعِ النَّظَر عن مدى الحاجةِ إليها، وبِصرفِ النظر عن من يقودُها.
(1) جريدة الرياض، عدد 12636 في 25/ 11 / 1423 هـ؟ .
إن العاطفةَ قد تأخذُنا- أحيانًا- لتوفيرِ السيارة للابنِ .. وقد نُدفَعُ من داخلِ البيت- ممن قد لا يُقدِّرون العواقبَ- فهل نحتاطُ لذلك كلِّه؟
وحين تتابعُ- أيها الأبُ- أبناءَك .. وتُعلِّم وتحذِّر، وتُنذِر .. فهل يصعبُ عليك أن تسحبَ السيارة من ابنِكَ حين لا يسمعُ لنُصحِك .. وتَكثُر الشكاوَى عليه من الآخَرين .. أم تظنُّ أن هذا الحقَّ من اختصاصِ رجالِ الأمنِ فقط؟
وبالجملةِ فعلينا معاشرَ الآباءِ كِفلٌ من مسئوليةِ هذه الآثار التي نتوجَّعُ لها، ولا يكفي أن نُرحِّلَ المشكلةَ إلى غيرِنا .. بل نقومُ بدورِنا ثم نطالبُ الآخرين بدَورهم، أما المَحاضنُ التربوية- وفي طليعتها المدارسُ- فهي تملك التوعيةَ لهؤلاءِ الشبابِ قولًا وفعلًا .. فالندوةُ والمحاضرةُ عن آثارِ الحوادثِ .. ودَوْرِ الشبابِ الفاعلِ في أُمتهم.
وفي طابورِ الصباح كلمةٌ مختصَرةٌ أو قُصاصةٌ معبِّرة من جريدةٍ أو مجلَّة، أو قصيدةٍ مُوحِيَة .. أو تجرِبة مذكِّرة وهكذا .. من ألوانِ التوعية وأساليبِها المؤثِّرة، وتستطيعُ المدرسةُ أن تتابعَ المتهوِّرين في القيادةِ فتتحدَّثُ إليهم على انفراد .. فإن نفعَ أسلوبُ اللِّينِ والترغيب .. وإلا فالتلويحُ بالترهيب والعقوبة .. وقد يصلُ الأمرُ إلى التهديدِ بالفَصْل من المدرسة إنِ استمرَّ هذا المتهوِّرُ في تهوُّره .. والمنعُ من دخولِ الامتحان يسبِقُه كعقوبةٍ أوَّلية رادعةٍ، ودرجاتُ (السلوك) المهمَّشةُ ينبغي أن يُعادَ لها اعتبارُها ويَشعُر الطالبُ بأثرِها في معدَّلِه، وأثرِها في قَبُولِه في المرحلةِ اللاحقة لمرحلتِه.
ولستُ أدري، ألَا تفكِّرُ مدارسُ البنينِ بإبقاءِ الطلبة بعد الامتحانِ في المدرسة، وتكثيفِ المناشطِ اللاصفِّيّة المقبولةِ والتوعويةِ المؤثِّرة في هذه الفترةِ الضائعة، والتي كثيرًا ما يستغلُّها الشبابُ بالتجمُّعات الفارغةِ والتي لا تخلُو من سلوكياتٍ غير مُرضيةٍ، إن هذه لو فُكِّر فيها بجدٍّ لإفادةِ الطلبة من جهةٍ، ومُنِعت
هذه التجمعاتُ التي ينتظرُها المتهوِّرون في القيادةِ ليستعرِضوا أمامَها .. من جهةٍ أخرى. وفوقَ ذلك كلِّه فقد أصبحت الثقافةُ الأمنيّةُ ضرورةً مُلحَّةً في مناهجِنا التعليمية، بشكلٍ يُسهِم في إيقافِ نزيفِ الدماء، ويقلِّلُ بإذنِ الله من الجَرْحى والموتى.
أمّا أنتم يا رجالاتِ الأمنِ فعلى الرَّغمِ من الجهدِ الذي تقومون به، فالمجتمعُ يلومُكم على عددٍ من الجرائم التي تقعُ في غفلةٍ منكم، والمجتمعُ يتطلَّع إلى جهدٍ أكثرَ وفاعليةٍ أقوى .. وأساليبَ متجدِّدةٍ ومؤثِّرة للتوعية المروريةِ عمومًا، ولمعالجةِ مثل هذه الظاهرة على الأخصِّ، فزيارتُكم للمدارس لا ينبغي أن تُحصَرَ في أسابيع المرورِ لتكون حوليةً .. ولا يكفي أن تكونَ محاضرةً أو ندوةً إلقائيةً مرتَجَلةً وإنشائيةً، فنحن في زمنِ المعلومات .. وفي زمنِ تأثير الصورةِ المرئيّة، وبالتالي فلا بدَّ من لغة الأرقامِ تخاطبون وتحذّرون بها الطلاب، ولا بدَّ من عرضِ الصُّور وإن كانت مفزِعةً ليرى المشاهِدُ كيف تكونُ المأساةُ حين لا تُضبَطُ القيادة، لا بدَّ من قراءةِ الآثار والمعدَّلاتِ الناجمةِ عن الحوادث .. ولا بدَّ من عرضِ الأسبابِ بوضوحٍ ورسمِ العلاج بحَزْمٍ، هل تعجزُ قطاعاتُنا الأمنيةُ عن محاصرةِ هذه الظواهر .. ومعاقبةِ من لا يبالي بالأرواحِ والممتلكات؟ وهل يكفي مطاردةُ هؤلاءِ المتهوِّرين- وقد يَنجُم عنه أضرارٌ أكبرُ- أم أن هناك دراسةً للظاهرةِ وعلاجًا لها بوسائلَ وآلياتٍ جديدةٍ وجيدة وآمنةٍ تقطعُ دابرَ المشكلة، وتمنعُ مشكلاتٍ مماثلةً؟ ألا يُفكَّر في وجودِ نقاط أمنيّةٍ فرعيّة في الأحياءِ الكبيرة، وكذا في الشوارع المزدحمةِ ليَسهُل تعاملُ رجلِ الأمن مع القضايا والحوادثِ الأمنية بشكل عامّ- ومنها هذه الظاهرةُ وظاهرةُ السرقةِ، لا بدَّ من عقوباتٍ رادعةٍ لمن يتكرَّرُ خطؤُه، ولا بدَّ من توعيةٍ مروريةٍ مكثَّفةٍ لتصلَ إلى البيوتِ والمدارسِ تذكِّر وتحذِّرُ وتوعِّي وتُنذِر- وبالجملةِ فبإمكانِنا مجتمعين
ومتعاونين أن نصنعَ شيئًا، وأن نجنِّب أولادَنا ومجتمعَنا من ويلاتِ هذه الحوادثِ المفزِعة.
وهمسةٌ أخيرةٌ في أُذنِ من بُليَ بهذه القيادةِ المتهوِّرة من الشبابِ نقول: فكِّروا في العواقبِ جيدًا، واحمُوا آباءكم وأمهاتِكم ومجتمعَكم .. وأنتم زهورٌ فلا تَذبُل الزهرةُ فجأةً، وأمامَكم المستقبلُ فلا تُضيِّعوه بهذه الممارساتِ الخاطئةِ، وحين تفكِّرون أو يفكِّرُ غيرُكم في كَسْب الزمن في قَطْع الإشارة ففكِّروا كذلك أنكم ربما خَسِرتُم الحياةَ كلَّها، وإذْ كنّا في زمنٍ نحاصَرُ فيه بالأعداء، فهل تكون مساهمتُكم في دفعِ العدوِّ ترويعَ الآمنين وإعلانَ الحربِ على إخوانِكم المسلمين؟ اللهمَّ انفَعْنا بهَدْي القرآنِ وسُنَّةِ محمدٍ عليه الصلاة والسلام، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفر الله لي ولكم ..