الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عظمةُ الخالقِ في خَلْقِه
(1)
الخطبةُ الأولى:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، لهُ الكبرياءُ في السماواتِ والأرضِ وهو العزيزُ الحكيم، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (2)، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (3)
وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدهُ ورسولُه وخِيرَتُه منْ خلقِه، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين.
أيها المسلمون: الكونُ كلُّه بمخلوقاتِه العظمى، وبأحيائه مِنَ الإنسِ والجنِّ والحيوانِ والطيرِ، وبجَماداتِهِ مِنَ الشَّجرِ والحجَرِ والماءِ والزروعِ والثمار، وعالمُ السماءِ بما فيها منْ ملائكةٍ غلاظٍ أشداءَ، وأحياءَ أخرى كلُّ ذلك برهانٌ على عظمةِ الخالقِ، فتباركَ اللهُ أحسنُ الخالقين.
إخوةَ الإيمان: والقرآنُ الكريمُ- لمَنْ تأمَّلَ- يأخُذُنا في جولاتٍ تُعمِّقُ الإيمانَ وتزيدُ في اليقين، نرتادُ آفاقَ السماءَ، ونجولُ في جنَباتِ الأرض، تَقِفُ بنا آياتُ القرآنِ الكريمِ عندَ زهراتِ الحقولِ وجنانِ الأرض، ثم تصعدُ بنا إلى النجومِ في مداراتها وتَسْبحُ بنا عالمِ البحارِ بأعماقِها ومخلوقَاتها، ثمَّ تطوفُ بنا حولَ أنفسِنا وعظيمِ خلْقِها ودقَّةِ تكوينها؛ مشعرةً إيانا بعظمةِ الله وعبوديةِ الكون له.
(1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 2/ 5/ 1423 هـ.
(2)
سورة الأنعام، الآية:38.
(3)
سورة الزمر، الآية:67.
إنهُ حديثٌ طويلٌ في كتابِ اللهِ يُطالِعُكَ في طِوال السُّوَرِ وقصارِها حديثٌ تنْصِتُ له النفوسُ وتخشَعُ له القلوب، يستثيرُ المشاعرَ الحيَّةَ وتستجيبُ له الأحاسيسُ المؤمنة.
كيفَ لا، وفَلْقُ الحبَّةِ والنَّوى، وإخراج الميِّتِ مِنَ الحيِّ وعكسُه، وفَلْقُ الإصباحِ وسكنُ الليل، وحُسْبانُ الشمسِ والقَمَر .. كلُّ ذلكَ يَردُ في أقْصرِ عبارةٍ وأبلغِها:{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (1).
يا أهلَ القرآنِ: وإذا تفاخرتِ الأممُ بأبحاثِها في الفَضاء، وتوصَّلَ باحثوها إلى نتائجَ تَحْتملُ الصحةَ والخطأ، فَدونَكُم القُرآنَ يُحدِّثُكُم العليمُ الحكيمُ عن مشهدِ السحابِ كيفَ يكوِّنُهُ الله، ومَنْ يُصابُ به ومن يُصرَفُ عنه، وعَنْ سَنَا بَرْقِهِ وأَثرِهِ في الأبْصَار .. استمعْ إلى ذلكَ متأمِّلًا خاشعًا لله:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} (2)، ومنْ سحابِ السماءِ إلى سحابِ البحار، ومنْ برْقِ السماءِ الخاطفِ، إلى ظلماتِ البحارِ ولُجِّها ومَوْجِها يأخُذُكَ القرآنُ مُذكِّرًا وهادِيًا:{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (3).
(1) سورة الأنعام، الآيتان: 95 - 96.
(2)
سورة النور، الآية:43.
(3)
سورة النور، الآية:40.
يا أخا الإسلام: وهلْ رفعتَ بصَرَك إلى السماء فتتفكَّرَ في خلق الله، فمَنْ رفَعَ السماءَ بلا عَمَدٍ؟ وكَمْ فيها مِنْ مَلَكٍ راكعٍ لله أو ساجد؟
روى ابنُ مردويه عَنْ أنسٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَطَّتِ السَّماءُ ويحقُّ لها أَنْ تَئِطَّ، والذي نَفْسُ محمدٍ بيدِهِ ما فيها مَوْضعُ شِبْرٍ إلا وفيه جَبْهَةُ مَلَكٍ ساجدٍ يُسبِّحُ اللهَ بحَمْدِه» (1).
والأَطيطُ: صَوْتُ الأَقْتابِ، وأطِيطُ الإبلِ: أصواتُها وحَنِينُها، والمعنى: إنَّ كثْرَةَ ما في السماءِ منَ الملائكةِ أثقَلَها حتى أطَّت، والمرادُ: تقريرُ عظمةِ اللهِ تعالى (2).
فكيفَ إذا تصورتَ عِظَمَ خلْقِ السماواتِ والأرْض، واللهُ يقول:{لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (3)
وكيفَ إذا تصورتَ أبعادَ السماواتِ عنْ بعضِها، وفي الحديثِ الذي رواهُ ابنُ خزيمةَ والبيهقيُّ وصحَّحُه ابنُ القيِّم، عنِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَ السماءِ الدنيا والتي تَليِها خَمْسُ مائة عامٍ، وبَيْنَ كلِّ سَمَاءٍ وسماءٍ خَمْسُ مائة عامٍ، وبينَ السماءِ السابِعَةِ والكرسيِّ خَمْسُ مائة عام، وبَيْنَ الكرسيِّ والماءِ خَمْسُ مائة عام، والعرشُ فوق الماءِ، واللهُ فوقَ العَرْش، لا يَخْفى عليه شيءٌ من أَعْمالِكم» (4).
يا عبدَ الله: والملائكةُ- في السماءِ- خَلْقٌ عَجيبٌ، ومنهمُ الموَكَّلُ بحَمْلِ
(1) صحيح الجامع الصغير 1/ 340.
(2)
ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث 1/ 54.
(3)
سورة غافر، الآية:57.
(4)
الهاملي، الإيمان بالخالق وأثره في سعادة الخلائق/ 8.
العَرْشِ، ومنهمْ خَزَنةُ النَّار، ومِنْهُم الموَكَّلُ بِالعذاب، ومِنهمْ ومِنهم .. وكلُّهم لا يَعْصونَ اللهَ ما أمَرَهُم ويفعَلون ما يُؤْمرون، وحينَ تَسْمعُ عَنْ حَمَلةِ العَرْش، قولَهُ تَعَالى:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (1).
فاسمعْ إلى عظمةِ خَلْقِ هؤلاءِ في خَبَر الذي لا يَنْطِقُ عن الهَوى، إذ يقولُ صلى الله عليه وسلم:«أُذِنَ لي أَنْ أُحدِّثَ عن مَلَكٍ منْ ملائِكَةِ اللهِ تعالى مِنْ حملةِ العرْش، إنَّ ما بَيْنَ شَحْمةِ أُذُنِه إلى عاتِقِه سبْعُ مئةِ سنةٍ» (2).
أيها الناسُ: وهناكَ مشاهدُ كونيةٌ يراها الناسُ بأعينهمْ تتكررُ في الصباحِ والمساء، وهيَ جزءٌ منْ عظمةِ اللهِ في كونه- وآيةٌ على وحدانيتهِ وداعيةٌ إلى العبوديةِ والشكرِ له سبحانه:{وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ، وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ، لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ، سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} (3).
نعم، إنَّ الحياةَ معجزةٌ لا تملكُ يدُ البشرِ أنْ تُجربَها، إنما هيَ يدُ اللهِ تُجري المعجزاتِ، وتبثُّ روحَ الحياةِ في المواتِ، فإذا الجنانُ الوارفةُ، والثمرُ اليانع- يُسقى بماءٍ واحد ويختلفُ في أكلُهِ وطعمِه-، الخالقُ واحدٌ، والمخلوقُ متنوعٌ؛ ذكرٌ وأنثى، حلوٌ وحامضٌ، رطبٌ ويابسٌ، أبيضُ، وأحمرُ، وغرابيبُ سود، {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} (4)، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (5)، {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي
(1) سورة الحاقة، الآية:17.
(2)
رواه أبو داود، عون المعبود 4712، وصححه الألباني في الصحيحة رقم 151.
(3)
سورة يس، الآيات: 33 - 36.
(4)
سورة يس، الآية:36.
(5)
سورة الملك، الآية:14.
الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1).
عبادَ الله: أمَّا قدومِ الليل، والنورُ يختفي والظلمةُ تغشى فمشهدٌ مكررٌ يراه الناسُ كلَّ يومٍ وفي كل بقعةٍ- ما عدا مناطقَ قطبيةٍ قد يدومُ فيها الليلُ أسابيعَ وأشهرًا- أو يدومُ فيها النهارُ كذلك.
إنها آيةٌ ما أكثرَ منْ يراها وما أقلَّ منْ يتأمل عظمةَ اللهِ من خلالها!
يا أخا الإيمانِ: وحينَ تتصورُ حجمَ الشمسِ ثمَّ تدركُ كيف تجري، تدركُ بعدَ ذلك عظمةَ اللهِ في تيسيرِ هذه الكُتلةِ العظيمةِ التي قيلِ أنها تبلغُ نحوَ مليون ضعفٍ لحجمِ الأرضِ التي نعيشُ عليها، وهذه الشمسُ بضخامتها تسيرُ بسرعةٍ حسبَها الفلكيونَ فقدَّروها باثني عشرَ ميلًا في الثانية، وهذا يعني أنها تقطعُ في الدقيقةِ الواحدةِ سبعَ مئةٍ وعشرين ميلًا ..
فكمْ تسيرُ في الساعةِ، وكمْ تقطعُ في اليومِ والليلة؟ !
فمنْ يسيِّرُها ومنْ يضبطُ حركَتَها؟ إنهُ اللهُ العليمُ القدير.
إننا حينَ ندركُ هذا الخلقَ العظيمَ للشمس، وهذه الحركةَ المنضبطةَ في الكونِ وتصريفَ الليلِ والنهارِ، ندركُ طرفًا من قدرةِ اللهِ فيما خلق، وندركُ ضعفَنا وعجزَنا من خلقِ الله، ومن ثَمَّ نعلمُ حاجَتنا إلى عبوديةِ ربنا وشكره {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا
(1) سورة آل عمران، الآية:6.
(2)
سورة يس، الآيات: 37 - 40.
تَسْمَعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ، وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1).
اللهمَّ اجعلْنا لكَ ذاكرينَ شاكرين، ولا تجعلْنا منَ الغافلين.
(1) سورة القصص، الآيات 71 - 73.