الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبةُ الثانية:
أيها المسلمون:
7 -
ومنْ دروسِ قصةِ الثلاثةِ الذين خُلِّفوا: أنَّ الشكرَ قرينُ المؤمن، وأن مقامَ الشاكرينَ مقامٌ عليٌّ وبالشكرِ تدومُ النِّعَمُ وتزداد، وهذا كعبُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه يضربُ لنا نموذجًا يُحتذى في الشكر، فهوَ يسجدُ للهِ شْكرًا حينَ بلغهُ الصوتُ المبُشرُ بالخير، ويقول: يا كعبَ بنَ مالك، أبشر، يقولُ كعبٌ: فخررتُ ساجدًا وعرفتُ أنْ قد جاءَ فَرَجٌ، وحينَ جاءَهُ الرجلُ الذي سمعَ صوتَهُ بالبشرى، نزعَ لهُ كعبٌ ثوبيهِ فكساهما إياهُ لبشارته، وحينَ بلغَ كعبٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وبشّرهُ بخيرِ يومٍ مرَّ عليهِ منذُ ولدته أمُّه .. قالَ كعبٌ: يا رسولَ الله، إنَّ منْ توبتي أنْ أنخلعَ منْ مالي صدقةَ إلى اللهِ وإلى رسولهِ صلى الله عليه وسلم (1).
وهذهِ السلوكياتُ منْ كعبٍ كلُّها تسيرُ في اتجاهِ الشكر والفرحةِ بفضلِ اللهِ وفَرَجِه، وهكذا ينبغي أنْ يكونَ شأنُ المسلمِ شاكرًا، وكلما تذكرَ نعمةً منْ نعمِ اللهِ أتبَعَها بالشكر.
وهنا، وفي مقامِ الشكرِ والشاكرين، لا بدَّ أنْ نتذكرَ أنهُ مقامُ الأنبياءِ بالدرجةِ الأولى منذُ نوحٍ عليه السلام الذي قال اللهُ عنه:{إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} (2) إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي قام حتى تفطَّرت قدماهُ من القيام وهو يقول: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» .
وبينَ هذينِ النبيينِ الكريمينِ أنبياءُ آخرونَ شاكرون، فسليمانُ عليه السلام قال: {رَبِّ
(1) مسلم 4/ 2127.
(2)
سورة الإسراء، الآية:3.
أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} (1).
وآلُ داودَ قالَ اللهُ عنهم: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (2).
وموسى عليه السلام صامَ عاشوراءَ شكرًا للهِ على نُصرةِ المؤمنينَ وهلاكِ الطغاةِ والمستكبرين.
إخوةَ الإسلام: وحينَ يكونُ الحديثُ عنِ الشُّكر في الأيامِ التي وقعَ فيها ما يوجبُ الشُّكرَ- وهو عاشوراء- فلا غَرْوَ أنْ نشيرَ كذلكَ إلى معانٍ أخرى من المعاني العظيمةِ لهذا اليومِ العظيمِ (عاشوراء).
فمَنْ يستنطقْ شهادةَ هذا اليومِ يجدْهُ يُحِّدثُ أنَّ العاقبةَ للتقوى، وأنَّ النصرَ لأولياءِ اللهِ مهما أُوذوا واستضُعفوا، وأنهُ تعالى بقُدْرتهِ يَمُنُّ على الذين استُضعفوا في الأرضِ ويجعلُهمْ أئمةً ويجعلهمُ الوارثين، ويُمكِّن لهمْ في الأرضِ وإنْ كانوا مُشرَّدينّ مطاردين.
أما الكافرُ فهوَ وإن غرَّتَهُ قوتُه، وانخدعَ بمهلةِ الزمان، واستدراجِ الرحمنِ فعاقبتُهُ إلى بَوار، وفي نهايتهِ عبرةٌ لأولي الألباب.
وفي مشهدِ عاشوراءَ عجزَ الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (3) أنْ يعلوَ على الماءِ الذي تعلوهُ أضعفُ الكائناتِ الحيّة، فأغرقَهُ اللهُ، ثمَّ أخرجَهُ ليكونَ لمنْ خَلْفَهُ آيةً. ونسأُلهُ تعالى كما أهلكَ الفراعنةَ الماضينَ أنْ يُهلكَ الفراعنةَ المعاصرين، أولئكَ الذين طَغَوْا وتجبَّروا، وقالَ لسانُ حالِهمْ ومقالِهم {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (4).
(1) سورة النمل، الآية:19.
(2)
سورة سبأ، الآية:13.
(3)
سورة النازعات، الآية:24.
(4)
سورة فصلت، الآية:15.
ومنْ معاني عاشوراءَ أنَّ حَبْلَ الإيمانِ ممدود ومعقودٌ بينَ المؤمنينَ رغمَ فوارقِ الزمانِ وفواصلِ المكان .. فنحنُ اليومَ نصومُ عاشوراءَ لأنَّ موسى عليه السلام صامَهُ .. ولأنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم جدَّدَ صيامَه.
ونحنُ اليومَ نشكرُ الله على نُصرةِ المؤمنينِ السابقين، ونسألهُ أنْ ينصرَ المؤمنينَ اللاحقين، وما أحرى المسلمُ بالدعاءِ- في كلِّ حين- والدعاءُ جيشٌ يمكنُ أنْ ينصرَ اللهُ بهِ المؤمنين، والدعاءُ جيشٌ يقوِّضُ دعائمَ الكافرينَ ويحطِّمُ عروشَهم. ولا سيما إنْ كانَ صائمًا - أنْ ينصرَ دينَهُ وأنْ يخذلَ أعداءه، فذلكَ شعورٌ واعٍ لهذا اليومِ بأحداثِهِ وعِبَرِه، وذلك استثمارٌ أمثلُ لهذه المناسبة.
ويُعلِّمنا عاشوراءُ- فيما يُعلِّمُنا- أنْ لا يأسَ ولا إحباطَ عندَ المسلمِ مهما ادْلهمَّتِ الخُطوبُ، ومهما تجبّرَ العدوُّ وحشدَ قُواه، فالنصرُ منْ عندِ الله، والهزيمةُ طَوْعُ قدرتِه، وحينَ تستحكمُ الحلقاتُ ويصدقُ المؤمنونَ معَ ربِّهم، يُهيءُ لهمْ منْ أسبابِ النصرِ ما لمْ يصنعوه، ويُؤْخذُ المستكبرونَ الظالمونَ منْ حيثُ لمْ يحتسِبوا.
أجلْ، إنَّ لله جنودًا في الأرضِ وجنودًا في السماء، وقدْ يتجاوزُ الظالمُ المعتدي حدودَ البَرِّ فيكونُ البحرُ نهايتَه {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ} (1) وقدْ يعجزُ البشرُ عن مقاومتهِ فيتولَّى ربُّ البشرِ أخذَهُ وتحطيمَ قواه.
كمْ نحنُ بحاجةٍ- يا مسلمون- إلى اليقينِ بنصرةِ اللهِ لأوليائِهِ المتَّقين.
وكمْ نحنُ بحاجةٍ إلى التوكُّلِ لا إلى التواكُل.
نحتاجُ إلى شجاعةٍ دونَ تهوُّرٍ، وشجاعةُ القلبِ مرتبطةٌ بتصوُّرِ عظمةِ اللهِ وقُدْرته، وإلى إيمانٍ لا مجردَ أمانٍ، وإلى إعدادٍ لا مجردَ جَعْجَعة، وإلى صدقٍ
(1) سورة المدثر، الآية:31.
في المواقفِ لا مجردَ مزايدةٍ وتسويفٍ وادِّعاء.
لقدِ انتصرَ المؤمنون الذين قيلَ لهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (1).
وكذلكَ ينتصرُ المؤمنونَ منْ بعدهمْ إذا ساروا على خطاهم ..
(1) سورة آل عمران، الآية:173.