المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌لماذا وكيف ندفع الفتن ؟ (1) ‌ ‌الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه - شعاع من المحراب - جـ ١٠

[سليمان بن حمد العودة]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء العاشر

- ‌الأخوَّة الإسلامية

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية

- ‌عظمةُ الخالقِ في خَلْقِه

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌مظاهرُ صيفية

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌سنة الله في تدمير الظالمين

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌من سنن الله في نصر المؤمنين

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌فكاك الأسير

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌عَشْرُ وَقَفاتٍ في الرؤيا والمُعبرين

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌الحِيلَ

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌الجَنَّةُ حينَ تُزيَّنُ في رمضان

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌رمضانُ مدرسةُ الأخلاق

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌هجمات (التتر) بين الماضي والحاضر

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌مصيبة الأمة ونقفور النصارى

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌أشجُّ بني أمية ومجيبها

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌مكر الأعداء في القرآن الكريم

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌النعمان وفتح الفتوح، والمستقبل للأمة

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌ظاهرةٌ، وموسم

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌وقفات للحجاج وغيرهم وعن الهدي والأضاحي والأيام الفاضلة

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌بشارتان وختام التوبة

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌نهاية العام موعظة وذكرى

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌الثلاثة الذين خلفوا

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌مسكنات في الأزمات

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌هجمة الغرب ونصرة المظلومين في العراق

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌لماذا وكيف ندفع الفتن

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الصلاة بين الأداء والإقامةوصايا وتنبيهات

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانيةُ:

- ‌حرارةُ الصيفِ ذكرَى وعِبرة

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌الإنسان قوة بين ضعفين

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانيةُ:

- ‌ولا تسرفوا

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌(2) الثلاثة الذين خلفوا

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

الفصل: ‌ ‌لماذا وكيف ندفع الفتن ؟ (1) ‌ ‌الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه

‌لماذا وكيف ندفع الفتن

؟ (1)

‌الخطبةُ الأولى:

إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضلَّ لهُ، ومنْ يضلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ وتابعيهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا.

أيُّها المسلمون: عظَّمَ الإسلامُ أمرَ الفتنِ، وحذَّرَ المصطفى صلى الله عليه وسلم منْ آثارِها، وأرشدَ إلى المخرجِ منها بالمبادرةِ للأعمالِ الصالحةِ فقالَ:«بادِرُوا بالأعمالِ فِتَنًا كقِطَع الليلِ المظلمِ، يصبحُ الرجلُ مؤمنًا ويُمسي كافرًا، ويُمسي مؤمنًا ويصبحُ كافرًا، يبيعُ دِينَه بعَرَضٍ منَ الدنيا» (2).

رُوي عنِ الحسنِ أنهُ قالَ في هذا الحديثِ: «يصبحُ الرجلُ مؤمنًا» يعني: مُحرِّمًا لدمِ أخيه وعِرْضِه ومالِه، ويُمسي مُستحلًّا (3).

وما زالَ العلماءُ يُحذِّرونَ منَ الفتنِ حتى بوَّبَ أهلُ الحديثِ في كتابِ (الفتنِ): (بابَ الاعتزالِ في الفتنةِ)، وبه ساقُوا حديثَ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يوشكُ أنْ يكونَ خيرُ مالِ المسلمِ الغَنَمَ، يتَّبعُ بها شَعَفَ الجبالِ، ومواقعَ القَطْرِ، يَفرُّ بدِيِنهِ منَ الفتنِ» (4).

(1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 29/ 3/ 1424 هـ.

(2)

أخرجه مسلم 2/ 118.

(3)

نقله البغوي في «شرح السنة» 15/ 15.

(4)

أخرجه مالك والبخاري وغيرهما (شرح السنة 15/ 21).

ص: 233

أجلْ يا عبادَ اللهِ! إنَّ دِينَ المسلمِ عزيزٌ عليهِ، ويَنبغي أنْ يجتهدَ أنْ يَلقى اللهَ وهُوَ غيرُ مفتونٍ، وأنْ يجاهدَ نفْسَهُ بالحذرِ منَ الفتنِ، وهنا تَرِدُ أسئلةٌ ثلاثةٌ، وأجتهدُ في الإجابةِ عنها:

1 -

لماذا نَحذَرُ ونُحذِّرُ منَ الفتن؟

2 -

ومَنْ يُسهِمُ في إشعالِ فتيلِ الفتنِ؟

3 -

وكيفَ نُساهمُ في دفعِ الفتنِ؟

تلكَ أسئلةٌ ثلاثة أكتفي بعرضِها، وإنْ كانَ ثمَّةَ أسئلةٌ أُخرى لا تقلُّ أهميةً عنها، ولعلَّ اللهَ أنْ يُيسِّرَ لعرضِها والإجابةِ عنها.

أمّا: لماذا نَحْذَرُ ونُحذِّرُ منَ الفتنِ؟

فالعالِمونَ والعارفونَ والعقلاءُ يحذِّرونَ منْ وقوعِ الفتنِ؛ لأنهمْ يُقدِّرونَ ما بعدَها، ويتخوَّفونَ ممّا تصيرُ إليهِ في بَدْئِها أو منتهاها، بعكسِ الجَهَلةِ ومَنْ تغلِبُ عواطفُهمْ عقولَهمْ، ولا يتحسَّبونَ للعواقبِ.

ولهذا أخرجَ البخاريُّ في «صحيحهِ» في بابِ «الفتنة» التي تموجُ كموجِ البحرِ»

: وقالَ ابنُ عيينةَ عن خلفِ بنِ حَوْشَبٍ: كانوا يستحبُّونَ أنْ يتمثَّلوا بهذهِ الأبياتِ عندَ الفتنِ، قالَ امرُؤ القيسِ:

الحربُ أولُ ما تكونُ فتيَّةً

تَسْعَى بزينتِها لكلِّ جَهُولِ

حتَّى إذا اشتعلتْ وشبَّ ضِرامُها

ولّتْ عجوزًا غيرَ ذاتِ حَليلِ

شمطاءَ يُنكَرُ لونُها وتغيّرتْ

مكروهةً للشمِّ والتقبيلِ (1)

قال الحافظُ ابنُ حَجَرٍ: والمرادُ بالتمثلِ بهذهِ الأبياتِ استحضارُ ما شاهَدُوهُ

(1) الصحيح مع الفتح 13/ 47 بكتاب الفتن.

ص: 234

وسمعوهُ منْ حالِ الفتنةِ، فإنهمْ يتذكَّرونَ بإنشادِهمْ ذلكَ، فيصدُّهم عنِ الدخولِ فيها حتى لا يغترُّوا بظاهرِ أمرِها أولًا (1).

ونعودُ لإجابةِ السؤالِ: (لماذا نحذر الفتنَ؟ ) فنقولُ: لعدّةِ أمورٍ، منها:

1 -

لأنَّ الفتنَ توقعُ الفرقةَ والاختلافَ بينَ المسلمينَ، فيضعفُ حَبلُ الإخاءِ، وتضمرُ ميادينُ التعاونِ على البرِّ والتقوى، واللهُ أَمَرَنا بالتعاونِ على الخيرِ، وأوصانا بالأخوّةِ والإصلاحِ، ونهانا عن الفُرقةِ والاختلافِ:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (2).

2 -

ولأنها سببٌ لاختلاطِ الأوراق، وتدسسِ أهلِ الرِّيَبِ، وبُروزِ النفاقِ، وهيَ أجواءٌ للمنافقينَ الذين يسعَوْنَ في الأرضِ فسادًا بلهجةِ الناصحينَ المصلحينَ.

وإذا كانتِ الأمورُ في أيامِ (الفتنةِ الأُولى) في زمنِ الصحابةِ كانَ لها وقعُها وأثرُها في تصدُّعِ الأمّةِ وذهولِها إلى حدٍّ توقفَ معهُ سَيرُ الفتوحِ الإسلاميةِ في ظلِّ تلكَ الأزمةِ، وجيلُ الصحابةِ لا يزالُ موجودًا، فما الظنُّ بغيرِهمْ؟

3 -

والفتنُ تُشغِلُ عنِ العبادةِ والطاعةِ، وتشلُّ حركةَ الاحتسابِ والدعوةِ، إذ الناسُ في شُغلٍ شاغلٍ ونَصَبٍ دائبٍ، وتفكيرٍ بالمُصاب الأعظمِ (الفتنِ وأطرافِها)، والنفوسُ متوترةٌ، والقلوبُ مشحونةٌ، والتوجُّسُ والرِّيبةُ تحلُّ محلَّ الثقةِ والطمأنينةِ .. وهذا بلا شكِّ يُخلِّف آثارًا سلبيةً لا سيَّما على العبادةِ والدعوةِ.

4 -

وفي المقابلِ ففي أجواءِ الأمنِ والسِّلمِ يمتدُّ رِواقُ الإسلامِ، وتُنشَرُ

(1)«الفتح» 13/ 50.

(2)

سورة آل عمران، الآية:105.

ص: 235

الدعوةُ، ويتقاربُ الناسُ، والكسبُ الأكبرُ للإسلامِ وأهلِهِ إذا صدقوا في دعوتِهمْ ونشرِ إسلامِهمْ، ومَنْ تأمَّلَ أحداثَ السيرةِ النبويةِ وَجَدَ ما يُصدِّقُ هذا ويشهدُ لهُ.

ففي (صلحِ الحُدَيبيَةِ) أَبرمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ المشركينَ (معاهدةَ الحديبيةِ) وفقَ شروطٍ لمْ يرضَ عنها طائفةٌ منَ المؤمنين في البدايةِ، حيثُ بدا لهمْ أنَّ الشروطَ مُجحفةٌ للمسلمينَ، وهي لصالح المشركينَ، حتى قالَ عمرُ رضي الله عنه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: ألستَ نبيَّ اللهِ حقًا؟ قالَ: «بلى» ، قالَ: أَلسْنا على الحقِّ وعدوُّنا على الباطلِ؟

فلِمَ نُعطي الدنيّةَ في دينِنا إذًا؟ قالَ: «إني رسولُ اللهِ، ولستُ أعصيَه، وهُوَ ناصري» .

ومَعَ ذلك كانَ الصلحُ بشهادةِ القرآنِ فتحًا مُبينًا، حيثُ نزلَ قولُهُ تعالى:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} (1) والرسولُ صلى الله عليه وسلم في طريقِ العودةِ منَ الحُدَيبيَة إلى المدينةِ، قال عمرُ متعجِّبًا: أَوَفتحٌ هُوَ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: نَعمْ» (2).

قالَ الزهريُّ رحمه الله معلِّقًا على نتائجِ (صلحِ الحديبيةِ): فما فُتحَ في الإسلامِ فتحٌ قبْلَه كانَ أعظمَ منهُ، إنما كانَ القتالُ حيثُ التقى الناسُ، فلمّا كانتِ الهدنةُ ووَضعتِ الحربُ أوزارَها، وآمنَ الناسُ بعضُهمْ بعضًا، والتقَوْا فتفاوَضُوا في الحديثِ والمنازعةِ، فلمْ يُكلَّمْ أحدٌ بالإسلامِ بعقلٍ إلا دخلَ فيهِ، ولقدْ دخلض في تينِكَ السنتينِ مثلُ مَنْ كانَ في الإسلامِ قبلَ ذلكَ (3).

وعلَّقَ ابنُ هشامٍ على هذا قائلًا: والدليلُ على قولِ الزهريِّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1) سورة الفتح، الآية:1.

(2)

رواه مسلم 3/ 1412 ح «1785» .

(3)

ابن هشام، بسند حسن 3/ 447.

ص: 236

خرجَ إلى الحديبيةِ في ألفٍ وأربع مائةٍ في قولِ جابرٍ، ثمَّ خرجَ في عامِ الفتحِ بعدَ ذلكَ بسنتينِ في عشرةِ آلافٍ (1).

5 -

أنَّ الفتنَ- إذا وقعتْ- تُفرحُ العدوَّ المتربِّصَ (في الخارج أو في الداخلِ) منَ الكفار أو منَ المنافقينَ، وتُتيحُ لهُ الفرصةَ وتُهيِّئُ لهُ الأجواءَ المناسبةَ للغارةِ على المسلمينَ وبَلْبلتِهمْ مستغلةً انشغالَ المسلمينَ بما همْ فيهِ منْ أجواءِ الفتنِ، فتُمرَّرُ كثيرٌ منَ الأمورِ السيئةِ على حينِ غفلةٍ وتُقرَّرُ موادُّ الفسادِ، ويَشيعُ أهلُ الريبِ والفسادِ والفحشاءِ والمنكرِ، إذِ الحرّاسُ مشغولونَ، والمحتسِبونَ المطفئِونَ للحرائقِ منهمكونَ في دفعِ الفتنِ النازلةِ .. وهكذا يَحصلُ منَ الضررِ والفسادِ ما يَسوءُ المؤمنينَ ويُفرحُ المتربِّصينَ .. ولا بدَّ منْ وعيِ هذا جيدًا والتعوُّذِ منَ الفتنِ ودفعِها.

6 -

والفتنُ إذا استعرتْ مُناخٌ لظهور الطائفيّةِ والتعصُّبِ المنبوذِ، ويتخذُها أرقّاءُ الدِّينِ مناسبةً لتصفيةِ الحساباتِ وتحقيقِ الثاراتِ، فالحريقُ يمتدُّ هنا وهناكَ، والدعواتُ والنَّعراتُ الجاهليةُ تنشطُ، ويظهرُ الحسدُ والحقدُ والكيدُ والعدوانُ، وهكذا حينَ يغيبُ العقلُ، وتكونُ لغةُ القوةِ هيَ لغةَ التفاهمِ، ويغيبُ الحوارُ الهادئُ والإقناعُ بالحجّةِ والبرهانِ، والدعوةُ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، فهلْ يَرضى عاقلٌ .. فضلًا عنْ صاحبِ الدِّينِ بهذا الواقعِ؟ !

إخوةَ الإسلام: مَنْ يُسهمُ في إشعالِ الفتنِ؟

وبعدَ الإجابةِ عنِ السؤالِ الماضي: لماذا نَحْذَرُ ونُحذِّرُ منَ الفتنِ؟ يَرِدُ سؤالٌ آخرُ، لا يقلُّ أهميةً، وهُوَ كذلكَ محتاجٌ إلى إجابةٍ. والسؤالُ الآخرُ يقولُ: مَنْ

(1) المصدر السابق 3/ 448، مهدي رزق الله، «السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية» 496.

ص: 237

يُسهمُ- مِنْ حيثُ يَشعُر أوْ لا يشعرُ- في إشعالِ الفتنِ؟

وللإجابةِ أسوقُ رأيً يُروى عنْ عمرَ رضي الله عنه حيثُ قالَ: قَصَمَ ظهري رَجُلانِ: فاجرٌ مُتهتِّكٌ، وجاهلٌ مُتنسِّكٌ.

وإذا كانَ الجاهلُ المتنسِّكُ يضرُّ بالدِّينِ ويُسيءُ للمسلمينَ منْ حيثُ يَشعُرُ أو لا يشعرُ .. والحديثُ عنْ هذا الصنفِ كثيرٌ؛ فدعُونا نكتفِ بالصنفِ الآخر:

فلا شكَّ أنَّ الفاجرَ المتهتِّكَ باعثٌ للفتنةِ، لا سيِّما إذا جاوزَ في تهتُّكِهِ محيطَهُ القريبَ، وسلوكياتِهِ الشخصيةَ، إلى الدعوةِ على فجورِهِ، والمدافعةِ عنْ باطلهِ، ورميِ الآخرينَ بالتُّهمِ .. كمَنْ يرمي بيوتَ الآخرينَ وبيتُه منْ زُجاجٍ .. إنَّ التطرفَ- بمفهومِهِ الواسعِ- لا يقفُ عندَ حدودِ (الغلوِّ في الدينِ)، فهذا، وإنْ كانَ خطيرًا، فالشقُّ الآخرُ للتطرُّفِ هُوَ (الغلوُّ في الجفاءِ)، والمبالغةُ في الفسادِ، ومحاولةُ إسقاطِ القِيَمِ، والرغبةُ في التنصُّلِ منْ تكاليفِ الشريعةِ، واعتبارُ حدودِ الإسلامِ ومُثُلِهِ قيودًا لا بدَّ منْ تحطيمِها والخلاصِ منها .. إنَّ هذه السلوكياتِ الجائرةَ على النفسِ وعلى الآخرينَ تُحرِّكُ الساكنَ، وتستفزُّ المشاعرَ وتوسِّعُ دائرة الحريقِ، وربَّما دفعتْ مَن قلَّ عِلْمُه أو ضَعُفَ صبرُه إلى تصرفاتٍ لا تُقَرُّ ولا تُقبلُ، وتُضِرُّ ولا تُبرَّرُ.

إننا لا بدَّ أنْ نستشعرَ جيدًا أنَّ التطرفَ (ضدّ الدِّينِ) كالتطرفِ الدينيِّ، في الإضرارِ بوحدتِنا وأَمْنِنا، والاعتدالُ ودراسةُ الأمورِ برويّةِ بعيدًا عنْ ردودِ الأفعالِ هيَ الكفيلةُ بوصولِنا- بإذنِ اللهِ- إلى شاطئ الأمانِ، وذلك بعلاجِ الخطأِ دونَ أنْ يؤدِّيَ العلاجُ إلى داءٍ جديدٍ (1).

وإذا كنا لا بدَّ أنْ نكونَ صرحاءَ في رفضِ الغلوِّ في الدِّينِ، ورفضِ لغةِ القوةِ

(1) د. عائض الردادي: جريدة الجزيرة 25/ 3/ 1424 هـ.

ص: 238

والتدميرِ والإفسادِ وقتلِ الأنفسِ المعصومةِ، والتأكيدِ على أنَّ ذلكَ بوابةٌ للفتنِ .. فلا بدَّ أنْ نكونَ صُرحاءَ كذلكَ في رفضِ فجورِ المتهتِّكينَ .. الذينَ دأبوا على الإرجافِ والتصيُّد في أجواءِ الفتنِ، فما أَنصَفوا مناهِجَنا، بل عاُبوها واتَّهموها، ونسَبُوا إليها كلَّ قبيحٍ، ومناهجُنا، وإنْ كانتْ منْ جُهدِ بشرٍ يصيبونَ ويخطئونَ، إلا أنها- وبشهادةِ الآخرينَ- منْ أعدلِ المناهجِ وأقومِها، وهيَ تجمعُ بينَ الأصالةِ والمعاصرةِ، ولكنَّ القومَ طالما شَرِقُوا بهذهِ المناهجِ وطالَبُوا بتغييرِها لا تطويرِها، وركَّزوا على المناهجِ الدينيةِ أكثرَ منْ غيرِها، وكلَّما حدثَ أمرٌ صاحُوا مُتستِّرينَ وراءَ الحدثِ لتجديدِ الدعوةِ للهجومِ على المناهجِ، ولكنَّ حكمةَ المسئولِ، ووعيَ المربِّي، وأناةَ المتخصِّصينَ في المناهجِ وقناعتَهمْ بأهميةِ التطويرِ المتعقِّل والمدروسِ بوعيٍ لا بهوًى ..

كلُّ ذلكَ يجعلُ هذهِ الدعواتِ في مهبِّ الريحِ، وما سلمتْ مؤسساتُنا التربويةُ وهيآتُنا الاحتسابيةُ منْ هجومِ هؤلاءِ وصُراخِهمْ، وكأنَّ هذهِ الجهاتِ الرسميةَ نشازٌ في مؤسساتِنا الحكوميةِ، يتَّهمونَ المعلمَ والمعلمةَ داخلَ فصولِهمُ الدراسيةِ، ويستكثرونَ منهمُ الدعوةَ في مدارسهمْ ويستغربونَ إذْ يوجِّهونَ طلَابهمْ ويَلمِزونَ المطَّوِّعينَ منَ المؤمنينَ في الدعوةِ والحِسْبةِ، ويَسخرونَ بمظاهرِ التديُّن، وتُغيظهمُ الصحوةُ، ويَسلمُ منهمُ الشبابُ الضائعونَ في المخدِّراتِ والانحرافاتِ الخُلقيةِ، ويتطيَّرونَ بالمتديِّنينَ منَ الرجالِ والنساءِ، وما سَلِمَ مِنْ أذاهمُ العلماءُ وأصحابُ الدعوةِ الموتى، وأنَّى للأحياءِ، وهمْ يُعيدونَ للأذهانِ مَنْ تطيَّرَ قبْلَهمْ بالصالحينَ، حيثُ قالَ اللهُ عنْ آلِ فرعون:{وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} (1)، ولكلِّ قومٍ وارثٌ (2).

(1) سورة الأعراف، الآية:131.

(2)

الشيخ صالح الفوزان، «التفجيرات وتحليلات المنافقين» ، الجزيرة 25/ 3.

ص: 239

لقدْ تحدَّثَ هؤلاءِ الجاهلونَ عنِ الولاءِ والبَراءِ فما أحسَنوا، وعنِ الجهادِ فأساءوا، وتلمَّسوا الأعذارَ للضالِّينَ، واشتطُّوا في نظرتِهمْ لإخوانِهمُ المسلمينَ، ووَقعوا بأعظمَ ممّا عابُوا!

أتُراهمْ يطمعونَ إلى تغييرِ هُويةِ المجتمعِ المحافظِ بمثلِ هذهِ الطروحاتِ؟

أجَهِلوا أنهمْ في بلادِ الحرمَيْن منبعِ الرسالةِ ومصدرِ الهدايةِ ومَعقلِ الدعوةِ؟ القرآنُ نزلَ فيها، ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم بُعثَ منْ بطاحِها فالإسلامُ والدعوةُ جذورُها وعمقُها التاريخيُّ، وهو مفخرةٌ لأهلِها. لقدْ خابَ وخَسِرَ مَنْ حاربَ ديِنَ اللهِ أوْ سَخِرَ بشيءٍ ممّا جاءَ بهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

تُرى منْ أيِّ بيئةٍ نَهلوا هذا الفكرَ الجانحَ؟ وإلى أيِّ جماعةٍ ينتمونَ ويَركنونَ في هذا الهجومِ الكاسحِ؟ ومجتمعُنا- بحمدِ اللهِ- يمثِّلُ الدِّينُ لُحمتَه، ويَشعرُ الذكرُ والأنثى بالعزةِ إذْ ينتمي للإسلامِ ويتمثَّلُ تعاليمَ الإسلامِ، أجلْ لقدْ قامَ هذا الكيانُ الذي نعتزُّ بهِ على أساسٍ متينٍ منَ الدِّينِ والعلمِ والقِيَمِ، وتعاقدَ الشيخُ (المجدِّدُ) والأميرُ (الإمامُ) على قيامِ الدولةِ، فتأسَّستِ الدولةُ السعوديةُ الأُولى، ثمَّ أعادَ الأحفادُ في الدولةِ السعوديةِ الثالثةِ ما بناهُ الأجدادُ، ولا يزالُ الحديثُ في كلِّ مناسبةٍ عنْ قيمةِ العقيدةِ، وتحكيمِ الشريعةِ، والعزةِ بالإسلامِ، فكيفَ تسلَّلتْ إلينا أفكارُ العَلْمَنِة؟ !

إذا كانتْ تلكَ بعضَ استفزازاتِ القومِ وطروحاتِهم فمَنْ وراءَهم؟ إذا كانَ ولاةُ الأمرِ يتحدَّثونَ بكلِّ صراحةٍ حديثًا غيرَ أحاديثِهم ويُدافعونَ عنِ الجهاتِ المستهدفةِ ويُعلُونَ منْ شأنِها، وأنَّ فصلَ الدِّينِ عنِ الدنيا في بلادِنا أمرٌ غيرُ واردٍ- إلى غيرِ ذلكَ مما جاءَ على لسانِ وزيرِ الداخلية (1) - وفَّقه الله- وغيرِهِ من

(1) جريدة الرياض، الجزيرة وغيرها، الصادرة في 18/ 3/ 1424.

ص: 240

مسئولي الدولةِ فمَنْ يُسندُ هؤلاءِ المتطاوِلينَ المتّهَمينَ المُرجِفينَ؟

إننا نُسَرُّ لمحاسبةِ كلِّ مخطئٍ أيًا كانَ موقعُهُ، ومهما كانَ اتجاهُه وفكرُهُ .. ولكنَّ إقالةَ صحفيٍّ تجاوزَ حدودَ مسئوليتهِ، أوْ مَنْع كاتبٍ شذَّ قلمُه .. ليستْ حلًّا أمثلَ لعلاجِ هذهِ الظاهرةِ المثيرةِ التي تتكرَّرَ بلاؤُنا بها، ولا تكفي لقطعِ دائرِ الفتنةِ المُهيِّجةِ، فالصحفيُّ المُعفى قدْ يَخلُفُه منْ هُوَ مثلُه أوْ أكثرُ منهُ جُنوحًا، والكاتبُ الممنوعُ قدْ يحلُّ محلَّهُ كاتبٌ أكثرَ إثارةً وتهيجًا .. ولكن الحلَّ يَكْمُنُ في نظري في وضعِ أُطُرٍ عامّةٍ لا ينبغي المساسُ بها تتعلَّقُ بالقيَمِ والأخلاقِ وكراماتِ الناسِ وحقوقِهمْ، تمنعُ السخريةَ واللَّمْزَ، وتسدُّ البابَ على المتصيِّدينَ والمتطاولينَ، وتوضَعُ عقوباتٌ رادعةٌ ولجانُ متابعةٍ منصفةٌ، تمنعُ كلَّ ما يثيرُ الفتنَ ويدعو للفرقةِ والشحناءِ ويُخلُّ بأمنِ البلدِ الفكريِّ والثقافيِّ والاجتماعيِّ والقِيَميِّ، ثمَّ تُعطى الفرصةُ للعلاج الهادئ المثمرِ الناجحِ الأمينِ .. ذلكَ مخرجٌ مهمٌّ منْ مخارجِ الأزمةِ، وبدايةُ طريقٍ صحيحٍ لمعالجةِ كلِّ ظاهرةٍ غاليةٍ أو جافيةٍ، وثمَّةَ مخارجُ لدفعِ الفتنِ بشكلٍ عامٍّ، أتوقَّفُ عندَ شيءٍ منها.

إذا كانت آثار الفتن تعم ولا تخص {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال: 25] فدفع الفتن مسئوليتنا جميعًا، ويمكن أن نساهم في دفعها بالوسائل التالية:

1 -

تعليم العلم النافع ونشره، فالعلم مُبصرٌ للناس ومانع لهم من الفتن بإذن الله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

2 -

التحذير من الفتن وآثارها وويلاتها، والنصح لإخواننا المسلمين على كافة المستويات (فالدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).

ص: 241

3 -

الاستمرار في مشاريع الدعوة والاحتساب .. فبنشر الدعوة ينتشر الخير، وينشغل الناس بالنافع المفيد، وتصح القلوب، وتقمع الشرور والفتن، وبالحسبة يحاصر المبطلون وتنطفئ المنكرات، ويشيع المعروف، وتُخفف آثار الفتن.

4 -

عدم التعجل في الفتن (قولًا وعملًا) استرشادًا بهدي النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «ستكون فِتن القاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، من تشرّف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجًا أو معاذًا فليعُذ به» رواه البخاري رحمه الله 7081 (الفتح 13/ 30).

5 -

المساهمة في الإصلاح حيث يقع شيء من الفتن، وتقريبُ وجهات النظر، وردم هوَّة الخلافِ، فالخلافُ شر، والله يقول:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]. ويقول: {لَاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114].

6 -

التنبيه للمتربصين، والتفطن لمن يسعون بالفتنة أو يحاولون استغلالَ أجوائِها لبث شرورهم وباطلهم. فذلك مطلب حتى لا تتسع الفتنة وتعمّ البلبلة.

7 -

تبصيرُ الناس بأحاديث الفتن والموقف المشروع منها، وعدمُ التعجل في تطبيق بعض الأحاديث العامة في الفتن، وتنزيلها على أحداث خاصة- دون علم-.

8 -

التأكيد على أهمية الوحدة والائتلاف وبيان النصوص الشرعية في ذلك، حتى ولو أدى إلى أن يتنازل المرء في سبيل ذلك عن بعض ما يُحبّ- ما لم يكن حرامًا- في سبيل توحيد كلمة المسلمين {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52].

ص: 242

والخلافُ شر، والشيطانُ يئس أن يعبدَ في أرضكم ورضى بالتحريش بينكم. «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» .

9 -

دعوة الناس إلى كثرة العبادة، وتذكيرهم بقيمة التوبة، فما وقع بلاء إلا بذنب ولا رُفع إلا بتوبة {يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126]. «بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم .. » «العبادة في الهرج كهجرة إليّ» {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31].

10 -

المشورة بين العلماء وطلبة العلم والدعاة لدفع الفتن، والنصح للولاة لتجنيب البلاد والعباد آثار الفتن وويلاتها، فالمسلمون أمرهم شورى بينهم، والدين النصيحة، ولا بد من رفض إعجاب كل ذي رأي برأيه، ولا بد من اتهام النفس وتوطينها لقول الحق وقبوله ممن جاء به.

11 -

وعماد ذلك وأساس المخرج من الفتن تحقيق التقوى، والتواصي بالصبر {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] {يِاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إَن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]{وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120]{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]{اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].

ص: 243