الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبةُ الثانية
الحمدُ لله ربِّ العالمين، كما ينبغي لجلالِ وجهِهِ وعظمةِ سلطانهِ، وأشكرهُ على نعَمِه وآلائه، وقَدْ تَأَذَّنَ بالمزيدِ لمنْ شَكَره {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} (1).
وأشهدُ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له في ربوبيَّتِهِ وألوهِيَّته وأسمائِهِ وصفاتِهِ، وأشهدُ أَنْ محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانِه- اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليهِ وعلى آله وصَحْبه ..
إخوةَ الإسلام: ولعِظَم حقوقِ المسلمِ على أخيهِ المسلمِ قالَ صلى الله عليه وسلم: «كلُّ المُسْلِمِ على المُسْلِم حرامٌ؛ دمُه؛ ومالُه، وعِرْضُه» وكانَ يتحدثُ للمسلمينِ بهذا ويخطبُ مذكرًا بهذه الحقوقِ في المجامعِ العظيمةِ كيومِ عرفةَ والنَّحْر.
أيها المسلمُ: وإذا عرفتَ فضائلَ الأخوّةِ، ومقاصِدَها، وحقوقَها وآداَبها، فبقيَ أنْ تعلمَ آفاتِ الأخوةِ وما يُفسدَها.
ومِنْ أوائلِ هذه الآفاتِ والمفسِداتِ للأخوةِ:
1 -
الإخلالُ بحقوقِ الأخوةِ وعدمُ الاهتمامِ بآدابها؛ فحينَ لا تَنْصرُ أخاكَ ولا تَنصحُه ولا تحترمُه ولا تهتمُّ بشئونهِ، وتسيءُ التعامل معهُ بشكلٍ عام- فذلكَ مفسدٌ للأخوةِ قاطعٌ لحبل المودَّة.
2 -
ومنْ مُفسداتِ الأخوةِ أنْ تكون شحيحًا بوقتكَ فلا تصلُه، وبخيلًا بمالِك فلا تساعِدُه، وكمْ تعجبُ حينَ تقرأ في «صحيحِ الأدبِ المُفْردِ» للبخاري: أن سَلْمانَ الفارسيَّ رضي الله عنه زار أخاهُ في اللهِ أبا الدرداءِ، وجاءَ إليهِ منَ المدائِن إلى الشام ماشيًا (2)، وربما عجزَ أو تكاسلَ أحدُنا في زيارةِ أخيهِ
(1) سورة إبراهيم، الآية:7.
(2)
صحيح الأدب المفرد/ 139.
في البلدةِ الواحدة، ومعَ توفرِ السيارةِ الفاخرة.
3 -
ومِنْ مُفسداتِ الأخوّةِ: الإفراطُ في المعاتَبةِ وكثرةُ اللَّوْم، والنظرُ إلى السلْبياتِ فيهِ دونَ الإيجابيات، وعدمُ الاعتذار عنه والتسامحِ معه، قالَ رجاءُ بنُ حَيْوَةَ رحمه الله:(من لم يُؤاخِ إلا مَنْ لا عَيْبَ فيه قلَّ صديقُه، ومنْ لمْ يرضَ مِنْ صديقِه إلا بالإخلاصِ لَهُ دام سُخْطُه، ومنْ عاتبَ إخوانَهُ على كلِّ ذَنْبٍ كثُرَ عدوُّه)(1) وكَمْ نحتاجُ إلى مثلِ هذهِ الكلماتِ في التعاملِ معَ إخوانِنا.
4 -
وسوءُ الظنِّ بالأخِ المسلمِ مفسدٌ للمودَّة، وكَمْ نسجَ الشيطانُ في عقلِ الإنسان أوهامًا عن أخيهِ المسلم، فهَجَرَهُ فترةً من الزمن أو وقعَ بَيْنه وبَيْنه منَ الخصومةِ ما اللهُ بهِ عليم، ثمَّ تبيَّنَ بعدَ حينٍ أنَّ هذا الظنَّ كاذبٌ، وأَنَّ هذا الهجرَ لا مُبرِّر له، فاحذَرْ أخي المسلم سوءَ الظنِّ- واحملْ إخوانَكَ على المحامِلِ الطبِّية ما وجدتَ لذلكَ سبيلًا.
5 -
ومنْ مفسداتِ الأخوةِ اقترافُ المعاصي والذنوب، ومِنْ هديِ النبوة:«ما توادَّ اثنانِ في الله فيُفرَّقَ بينهما إلا بذنبٍ يحدِثُهُ أحدُهما» (2).
6 -
ومنْ مفسداتِ الأخوةِ: الحسدُ؛ فذاك داءُ الأمم، ومنْ باب أولى أن يكونَ داءَ الأفراد، وكمْ قطع الحسدُ مودة، وكَمْ نَغَّضَ مِنْ عيش، فتَعوَّذوا باللهِ مِنَ الحَسَد، واقرءوا معَ وِرْدِ الصباح والمساء:{وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (3).
7 -
ومِنْ مفسداتِها الإفراطُ والغلوُّ في المحبَّةِ وكثرةُ المِزاحِ المفضيَةُ إلى
(1) سير أعلام النبلاء (4/ 558).
(2)
رواهُ البخاريُّ في الأدب المفرد وصحَّحه الألبانيُّ في صحيح الجامع الصغير 5/ 139 ح 5479.
(3)
سورة الفلق، الآية:5.
القَطيعةِ، وما زادَ عنِ الحدِّ انقلبَ إلى الضِّدِّ، وفي الحديث:«أَحْبِبْ حبيبَكَ هَوْنًا ما، عَسَى أنْ يكونَ بغيضَك يومًا ما، وابغِضْ بغيضَك هَوْنًا ما، عسى أَنْ يكون حبيبَك يومًا ما» (1).
إلى غيرِ ذلكَ منْ مفسداتٍ للأخوةِ قدْ تعرفُها أيها الأخ، وتجدُها على صعيدِ الواقع .. والمقصودُ اجتنابُ كلِّ خُلُقٍ وعملٍ يؤدي إلى فسادِ ذات البَيْن بينَ الأخَوَيْن .. ذلكَ أنَّ قطيعةَ الأخوَيْنِ المسلمَيْن عظيمةٌ عندَ اللهِ وعندَ رسولهِ صلى الله عليه وسلم، ويكفي تحذيرًا لذلكَ قولَهُ صلى الله عليه وسلم:«تُعرَضُ أعْمالُ الناسِ في كلِّ جمعةٍ مرتين؛ يومَ الاثنينِ ويومَ الخميس، فيُغفرُ لكلِّ عبدٍ مؤمنٍ إلا عَبْدًا بينَهُ وبينَ أخيهِ شَحْناءُ، فيُقال: اترُكوا هذينِ حتى يَفِيئا» (2).
وإياكَ- أخي المسلم- أنْ يغرَّكَ الشيطانُ فيقولَ لك: صاحبكَ هوَ المخطِئُّ وهوَ الذي يتحملُ الإثمَ وحدَه الإثمَ وحدَه- فإنَّ صاحبَكَ يقولُ في نفسهِ كما تقولُ أنتَ- والرسولُ صلى الله عليه وسلم حَكمٌ بينكما، وقدْ قال:«وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام» فهلْ تكونُ الخيِّرُ أنتَ؟
إخوةَ الإسلام: إنَّ الأخوةَ الصادقة تحتاجُ- بشكلٍ عامٍ- إلى رحابةِ صَدْرِ وسعةِ عَطْفٍ، وبذلِ مالٍ وجاهٍ ووقتٍ، كما تحتاجُ قبلَ ذلكَ وبعدهُ إلى احتساب الأجر عندَ الله .. وحينَ يعي المسلمونَ حقوقَ الأخوةِ ويتمَثَّلوها في واقعهمْ تنقلبُ مجتمعاتُهمْ إلى ميادينَ للحبِّ والوفاء، يُعانُ الضعيفُ ويُنصرُ المظلومُ، وتُكَفكَفُ دموعُ اليتامى، ويُزار المرضى، ويُتَرحَّمُ على الموتى، ويُواسَى المخزون.
(1) رواه الترمذيُّ وهو في «صحيح الجامع» 178.
(2)
رواه مسلمٌ عن أبي هريرة انظر: صحيح الجامع 3/ 2955.
إن الحياةَ كَبَدٌ، فاسقوها بسلسبيلِ الأخوةِ .. والحياةُ غرورٌ زائلٌ فمدُّوها بحبالِ الأخوةِ إلى رحابِ الآخرة .. فهلْ بعدَ هذا منْ جزاءٍ، ألا كمْ تغيبُ هذهِ المعاني الحاصلةُ من الأخوةِ الإسلاميةِ عن المجتمعاتِ الأخرى التي لا تسْتظلُّ بظلِّ الإسلامِ ولا تهتدي بنور القرآنِ والإيمان ..
فلنكنْ- معاشرَ المسلمينَ- نماذجَ تضيءُ في هذا الكونِ بأخوتنا الصادقة ..
بدلَ أنْ تغْدو الحياةُ تهاوُشًا وظلمًا وعُدوانًا، وقطيعةً وشحناءَ.