الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبةُ الثانية:
الحمدُ لله صاحبِ الفضلِ والجُودِ والإحسان، أَحمَدُه تعالى وأشكرُه وأسألُه المزيدَ من فضلهِ، والتوفيقَ لنَفَحَاته، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، أعطى ومَنَع، وهو أحكمُ وأعلم، ومن يَسألِ اللهَ يُوصَل، واللهُ أغنى أكرمُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله .. كان مثالًا للخُلُق الكريم، والجُود العميم، وهو في رمضانَ أَجْودُ، وما فَتِئ يُذكِّر أُمتَه ويدعوها إلى مكارمِ الأخلاق ومعالي القِيَم حتى أتاه اليقينُ، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ النبيين والمرسَلين.
أيها المسلمون: يتفاوت الناسُ في الاستفادةِ من مدرسة الصوم وتطويعِ النفس على الأخلاقِ الفاضلة على الدوام، فمِنَ الناس من لا يستفيدُ- ولا في رمضانَ- في إصلاح خُلُقِه وتزكية نفسِه، وهذا الصنفُ ظنَّ أن الصيامَ إمساكٌ عن الطعامِ والشراب فحسبُ، وجَهِلَ حكمةَ الصيام وتقوى الصيام- وعسى أن تكون هذه الفئةُ قليلةً في مجتمع المسلمين- ومن الناس من يستفيدُ من درسِ رمضانَ ويَنهَلُ من مدرسةِ الأخلاق في شهرِ الصيام لكنه يَضعُف عن المواصلة بعدُ، وربما فَهِمَ خطأ أنَّ تركَ الحرام، أو عدَم التقصير في الواجبات من سِمَات رمضانَ فقط، فإذا انتهى شهرُ رمضانَ عاد إلى ما كان عليه من تَرْكِ الواجباتِ كالمحافظة على الصلواتِ مع جماعةِ المسلمين، ونحوِها من واجبات الدِّين، وإلى فِعْل المحرَّمات كأكل الربا والغِشِّ والخداع والغِيبةِ والنَّميمة والفُحْش والبِذاءِ وشُرْب الدخانِ، وربما تجاوز إلى المخدِّرات .. أو نحوها من المحرَّمات.
ولهؤلاء يُقال: إنّ رمضانَ محطةٌ للتزوُّد، ووسيلةٌ لتربية النفسِ في رمضانَ وبعدَ رمضان، وبئسَ القومُ لا يعرفونَ اللهَ ويَخشَوْنَهُ إلا في رمضانَ.
أما الصنفُ الثالث فهم المُصطَفَوْنَ الأخيار، وهم الذين وفَّقهم الله لتزكية نفوسِهم في رمضان، ثم واصلوا تزكيتَها في سائرِ العام، وكلما مَسَّهم طائفٌ من الشيطان أو ضَعُفت نفوسُهم عن المَعالي، تذكَّروا فإذا هم مبصرون، وتابوا وأنابوا إلى ربِّهم، وما يزالون في جهادٍ لأنفسِهم ومجاهدةٍ لأهوائهم حتى يَلقَوْا ربَّهم.
وهنا لَفْتةٌ وتنبيهٌ وذِكرى للصائمين عن أمرٍ نحتاجُ إليه جميعًا، وهو في عِداد مدرسةِ الصوم والأخلاقِ الفاضلة في رمضان- إنها التوبةُ، وإنما يَحسُن الحديثُ عن التوبةِ في كل حين، ولكنه يَطِيبُ أكثرَ في رمضان، لأنه موسمٌ للرجوعِ والإنابة، والنفوسُ تَجِدُ في هذا الشهرِ عَوْنًا على التوبة من الأخطاءِ والسيئاتِ أكثرَ من غيره، وإلا فكلُّنا وفي كل حينٍ مدعوُّون من ربِّنا للتوبةِ {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1).
ولكنَّ التوبةَ منها ما هي واجبةٌ ومنها ما هي مستحبَّةٌ، فالتوبةُ الواجبةُ هي التي تكون من فِعْل المحرَّماتِ وتركِ الواجباتِ، وهذه لا ينبغي التساهلُ والتأخيرُ فيها، والتوبةُ المستحبَّة إنما تكون من فعل المكروهاتِ وتركِ المستحبَّاتِ، وهذه يليقُ بالمسلم أن يدرِّبَ نفسَه عليها حتى لا تخترقَ المكروهاتِ إلى المحرَّمات، وحتى لا تتجاوزَ في التساهل من المستحبَّاتِ إلى الواجبات.
وإذا دعانا اللهُ إلى (التوبةِ النَّصُوح) فقد قال أهلُ العلمِ عنها: إنها الخالصةُ الصادقةُ، الناصحةُ، الخاليةُ من الشوائبِ والعِلَل، وهي التي تكون من جميعِ الذنوبِ فلا تَدَعُ ذنبًا إلا تناولَتْهُ، وهي التي تدعو صاحِبَها إلى عدم الترددِ والتلوُّمِ
(1) سورة النور، الآية:31.
والانتظار، وهي التي تقعُ لِمَحْضِ خوفِ الله وخَشْيتِه، والرغبةِ والرهبةِ له سبحانه .. (1).
وهنا بُشرى وذِكْرى للتائبينَ، إذ يُقرِّر العلماءُ رجوعَ الحسناتِ إلى التائب بعدَ التوبة، فإذا كان للعبدِ حسناتٌ ثم عمل بعدَها سيئاتٍ استغرَقَتْ حسناتِه القديمةُ وأبطلَتْها، ثم تاب بعدَ ذلك توبةً نَصُوحًا، عادت إليه حسناتُه القديمةُ، ولم يكن حكمُه حكمَ المستأنِفِ لها، بل يُقال له: تُبتَ على ما أسلفتَ من خير، وفي هذا يقول ابنُ القيِّم رحمه الله مبيِّنًا العِلَّةَ في ذلك:«وذلك لأن الإساءةَ المُتَخَلَّلةَ بين الطاعتينِ قد ارتفعَتْ بالتوبةِ وصارت كأنها لم تكن، فتلاقتِ الطاعتانِ واجتمعتا، والله أعلم» (2).
ألَا ما أعظمَ فضلَ الله عل التائبينَ! ألا أن رمضانَ فرصةٌ للتوبة وبابٌ للسعادةِ، ومدرسةٌ للأخلاقِ الفاضلة، ونافذةٌ للفلاحِ والاستقامةِ.
أخي الصائمَ، اربَأْ بنفسِكَ أن يمرَّ عليكَ شهرُ دون أن تستفيدَ من حِكَمِه وأسرارِه، وحَنانَيكَ أن تَقصُرَ هذه الفائدةَ على أيامٍ معدودة، بل اجعل من رمضان فرصةً لزكية نفسِك طِيلةَ العامِ، والله يقول:{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} (3) أي: طَهَّرَها من الذنوبِ ورقَّاها بطاعةِ الله، وعلّاها بالعلمِ النافع والعمل الصالح، واحذَرْ من إخفاءِ نفسِك الكريمةِ وتدنيسِها بالرذائل، واستعمالِ ما يَشِينُها ويدنِّسُها، والله يقول:{وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (4) أي: أخفاها في مزابلِ
(1) محمد الحمد: رمضان دروس وعبر، ص 214.
(2)
عن: محمد الحمد: رمضان دروس وعبر، ص 216.
(3)
سورة الشمس، الآية:9.
(4)
سورة الشمس، الآية: 10، تفسير السعدي 7/ 633.
المعاصي، وأماتَ استعدادَها للخير بالمداومةِ على اتّباع طرقِ الشيطان وفعل الفجور (1).
أيها المسلمُ، أيها الصائمُ: واختِمْ بما ينبغي أن يُختَمَ به، فما هو؟ إذا أردتَ تكميلَ عملِك وترقيعَ خطئِك فعليك بـ (الاستغفار) فاختِمْ به كلَّ عملٍ تؤدِّيه، فقد خُتِم به في الصلاة، والحجّ، وقيامِ الليل، والمجالس، وبه خُتِم عُمرُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وجهادُه {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} (2)، وبه يُختَم شهرُ رمضانَ بالاستغفارِ وصدقةِ الفِطْر» (3).
إن الاستغفارَ يَسِيرٌ في نُطقه، عظيمٌ في مدلولِه وأَثرِه، فقد جَمَعَ اللهُ بينَه وبينَ التوحيدِ كما في قوله تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} (4) وقال شيخُ الإسلام: ومِن هنا رَوَى أبو هريرةَ رضي الله عنه قال: «ما رأيتُ أحدًا أكثرَ أن يقولَ: أَستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليه، من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم» ، فهذا أكملُ الخَلقِ إيمانًا أكثرُهم استغفارًا.
ويُروَى من وصايا لُقْمانَ لابِنه: «يا بنيَّ عَوِّدْ لسانَك الاستغفارَ، فإن لله ساعاتٍ لا يَردُّ فيها سائلًا» (5).
وقال قَتَادةُ رحمه الله: «إنَّ هذا القرآنَ يدلُّكم على دائِكم ودوائِكم، فأما داؤكم فالذنوبُ، وأما دواؤُكم فالاستغفارُ» .
(1) محقق تيسير الكريم الرحمن- تفسير السعدي 7/ 633.
(2)
سورة النصر، الآية:3.
(3)
محمد الحمد: رمضان دروس وعبر، ص 192.
(4)
سورة محمد، الآية:19.
(5)
محمد الحمد: رمضان دروس وعبر، ص 193.
ألا فأكثرِوا من الاستغفارِ معاشرَ المسلمين ليرقعَ أخطاءَكم، وأَكثرِوا من الاستغفارِ معاشرَ الصائمين ليرقعَ ما انخَرَمَ من صيامِكم، وبذِكْر الله عمومًا تطمئنُّ القلوبُ، وبالاستغفارِ تنصرِمُ الذنوبُ.
وبعدُ: فحقٌ على كلِّ صائمٍ إن يسأل نفسَه: وماذا بقي له من آثارِ الصيام؟ وماذا سيخلّفه في حُسْن الأخلاق وكريمِ الخِلَال؟ اختبِرْ نفسَك في الإخلاصِ في رمضانَ وبعدَ رمضان .. وصارحْ نفسَك عن المراقبةِ والحياء، والحِلْم والكَرَم والجِدّ والجهاد والبِرّ والصِّلة، والذِّكرِ والدعاءِ والتوبةِ والاستغفارِ ونحوها .. ما حالُها في رمضانَ وبعدَ رمضان؟
يقول ابنُ تيميَّةَ رحمه الله: شهادةُ الوحيدِ تفتحُ بابَ الخير، والاستغفارُ يُغلِقُ باب الشر (1).
ويُروَى عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: الغِيبةُ تَحرِقُ الصيامَ والاستغفارُ يَرقَعُه، فمنِ استطاعَ منكم أن يأتيَ بصيامٍ مُرقع فليفعل (2).
اللهمّ إنا نستغفرُك ونتوبُ إليكَ من جميعِ الذنوب والخطايا، اللهمَّ أنت ربُّنا لا إله إلا أنت خلقتَنا ونحن عبيدُك ونحن على عهدِك ووعدِك ما استطعْنَا، نعوذُ بك من شرِّ ما صنعْنَا، نَبُوءُ لك بنِعمَتِك علينا ونبوءُ بذنوبِنا فاغفِرْ لنا، فإنه لا يَغفِرُ الذنوبَ إلا أنت.
(1) محمد الحمد: رمضان دروس وعبر، ص 194.
(2)
محمد الحمد: رمضان دروس وعبر، ص 192.