الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالين، أحمده تعالى على مزيد نعمه، وعظيم إحسانه. وأشكره وأسأله المزيد من فضله، وأشهد أن لا إله إلا الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى الآل والأصحاب أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين.
أيها الإخوة المؤمنون، أيتها الأخوات الآمنات، وإذا أردتم أن تزدادوا معرفةً بقيمة الدنيا وحقارتها وهوانها، وعظيم قدر الآخرة، واستحقاقها للسعي وبذل الجهد، فتأملوا في عيش خيار الخلق، وصفوة الأمة وخير القرون.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقول عائشة رضي الله عنها (ما شبع من خبز شعيرٍ يومين متتابعين حتى قبض)(1).
ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويًا، وأهله لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير) (2).
وسئل سهل بن سعد رضي الله عنه: أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي؟ يعني الحواري، فقال سهل: ما رأى رسول الله صلى الله عله وسلم النقي حتى لقي الله، فقيل له: هل كانت لكم مناخل؟ قال: ما كانت لنا مناخل، قيل: كيف تصنعون بالشعير؟ قال: كنا ننفخه فيطير منه ما طار ثم نثريه فنعجنه) (3).
(1) صحيح سنن الترمذي 2/ 276.
(2)
رواه الترمذي وابن ماجه بسند حسن، صحيح سنن الترمذي 2/ 276.
(3)
رواه الترمذي وابن ماجه بسند صحيح، صحيح سنن الترمذي 2/ 277.
والخبز الحواري: هو الذي نخل مرة بعد أخرى (1).
وليس يخفى أنه عليه الصلاة والسلام ربما ربط على بطنه الحجر والحجرين من الجوع، وهو الذي لو شاء وسأل الله أن تتحول له الجبال ذهبًا لأجابه .. ولكنه عرف قدر الدنيا وآثر عليها الآخرة ..
وكذلك كان أصحابه رضوان الله تعالى عليهم، واسمعوا إلى واحد من خيارهم يشخص حالته ونفرًا من أصحابه فيقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: إني لأول رجل أهراق دمًا في سبيل الله، وإني لأول رجلٍ رمى بسهم في سبيل الله، ولقد رأيتني أغزو في العصابة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما نأكل إلا ورق الشجر، والحبلة حتى إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة والبعير (2) ..
وعن فضالة بن عبيد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يخرُّ رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة، وهم أصحاب الصفة، حتى تقول الأعراب: هؤلاء مجانين أو مجانون، فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إليهم فقال:«ولو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقةً وحاجةً» قال فضالة: وأنا يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
أما أبو هريرة رضي الله عنه فَيُحدِّث عن نفسه ويقول: وقد رؤي عليه ثوبان ممشقان من كتان فمخط في إحداهما ثم قال: بخ بخ يمتخط أبو هريرة في الكتان؟ لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجرة عائشة من الجوع مغشيًا عليَّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي يرى أن بي الجنون، وما بي
(1) النهاية في غريب الحديث 1/ 458.
(2)
رواه الترمذي بسند صحيح، صحيح سنن الترمذي 2/ 277،
(3)
رواه الزمني وغيره بسند صحيح، صحيح سنن الترمذي 2/ 278.
الجنون، وما هو إلا الجوع (1).
إخوة الإيمان وما ضرَّ هؤلاء حالهم، ولا انتقص الفقر من أقدارهم، وإذا كُنتُ أسلفتُ أن هناك أغنياء تضيق عليهم الدنيا مع سعتها، ولا تذهب الوحشةَ عنهم أموالُهم رغم كثرتا، فيشهد الواقع أن ثمة طائفة أخرى يعيشون السعادة بكل معانيها، ويحسون بالأمن والطمأنينة بكل ألوانها وليسوا يملكون من الدنيا إلا ما به عن الخلق يستغنون، ولا من العيش إلا ما به يقتاتون .. لكنهم يملكون رصيدًا من الإيمان بالله به يهتدون، ويملكون الرضا والقناعة والزهد في الدنيا وبهذا وذاك يستغنون، وهؤلاء وأولئك يؤكدون قول المصطفى صلى الله عليه وسلم:«من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له» كما سبق الحديث-.
وبعد أيها المسلمون، فهذه الدنيا وقدرها، وتلك نماذج من فهم العارفين بها .. أتستحق الاهتمام إلى درجة ينسى فيها المرء الواجبات المتحتمات، أو يتهاون في سبيلها بالكبائر والمحرمات؟
ألا ما بال أقوام يستهينون في جمعها مما حلَّ أو حرَّم، فلا ينتهون عن الربا، ولا يتورعون عن الغش في البيع والشراء، ولا يبالون بالكذب والخداع، وربما فهموها نوعًا من الشطارة في الأخذ والعطاء.
وما بال أقوام يستغلون الفرص فيرفعون الأسعار، ويزيدون في السلع دون مبرر لهذا أو ذاك، أو ما علم أولئك أن القليل من الحلال يبارك الله فيه، وأن
(1) الحديث رواه البخاري وغيره، انظر الصحيح مع الفتح 13/ 303، وصحيح سنن الترمذي 2/ 277.
الكثير من الحرام يمحقه الله؟ وهل غاب عنهم أن المتضرر إخوانهم، وأنهم يضيفون إلى همومهم همومًا أخرى كان حريًا بإخوانهم أن ينفسوا عنهم وأن يعينوهم، بدل إلحَاق الحيف بهم ومزيد تعنيتهم، ألا فاتقوا الله عباد الله وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، وتراحموا فالراحمون يرحمهم الله.
أيها المسلمون، وإذا كان هذا طرفًا من الحديث عن الفقراء الشاكرين، ومن عوامل الزهد والقناعة في الدنيا دون الدين .... فثمة حديث آخر عن الأغنياء الشاكرين، وعن الموسرين الباذلين، أرجئ الحديث عنه لخطبة لاحقة بإذن الله.