الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، وقدوة البارين، والبر لا يبلى، والديَّان ولا يموت، فكما تدين تدان، اللهم صل على نبينا محمد وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها المسلمون، وإذا كان البر عنوانًا للوفاء، ودليلاً على العقل والمروءة والكرم، وطريقًا للسعادة في الدنيا والآخرة، فإن العقوق نكران للجميل، وهو دليل على دناءة المروءة وخسة الطبع، وهو انتكاس للفطرة السوية، وطريق للشقوة في الدنيا، والهاوية في الأخرى.
ألا يكفي في التحذير من عقوق الوالدين أنه من أكبر الكبائر، وأنه رديف للشرك بالله؟ والصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم، يقول:«ألا أنَبِّئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى، قال ثلاثًا؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس، فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يقولها حتى قلنا: ليته سكت» (1).
يا أيها المخذول، هل حينما كبرا فاحتاجا إليك جعلتهما أهون الأشياء عليك؟ قدَّمت غيرهما بالإحسان، وقابلت جميلهما بالنسيان، شق عليك أمرهما، وطال عليك عمرهما؟ (2).
أما علمتَ أن في بقائهما سعادتك، وفي برهما تتنزل البركات عليك وعلى عقبك، وأنتَ مخذول حقًا، إن لم تنل رضا ربك برضاهما، وتدخل الجنة بسبب برهما.
(1) متفق عليه، (خ: في الأدب، مثلًا: لا الإيمان).
(2)
خطب ابن حميد م 1/ 84.
أنسيت أيام الصبا، أم غرَّتك الدنيا؟ وهل يرد في مخيلتك أنك لم تمر بمرحلة الضعف والطفولة؟ أم تراك أعجبك الشباب والفتوة، وغرَّك التعليم والثقافة، فظننتَ المال والجاه مؤهلين للترفُّع وداعيين للتأفف والتبرُّم؟ !
قل لي بربك ماذا تراك تصنع؟ وبأي نوع من المعروف تكافئ لو قُدِّر أن إنسانًا وجدك في فدفد من الأرض مجردًا من الثياب، خلوًا من الطعام والشراب، قد آلمتك الغربة، وأوحشتك الطفولة، وأنت أضعف من أن تجلب لنفسك سببًا في الحياة، وأهون من أن تدفع عنها الممات، وأنت في تلك الحال لا تملك إلا البكاء، فهدى الله إليك من أشفق عليك، وأنزل رحمته في قلبه لك، فكساك بعد العري، وأطعمك وقد قاربت الممات، ثم استمر يتعهدك بالمطعم والمشرب، وهيَّأ لك السكن تتقي به حر الهواجر، وتستكن به من زمهرير الشتاء- وما زال هذا دأبه يحوطك بالرعاية، ويدفع عنك كل مكروه يستطيع دفعه- حتى اشتد ساعدك، واكتملت قوتك .. أتراك تقابل الإحسان بالإساءة؟ أم تتصدد عن أداء الواجب حين جاء وقته
…
إنني أترك لك فرصة التفكير لتختار لنفسك ما تشاء؟
أيها المؤمنون، والمتأمل في أسباب العقوق يجدها نتيجة جهل ضلَّ صاحبه، أو سبب مال أو جاه غرَّ صاحبيهما، أو بسبب سوء خلق ودناءة طبع أَنْسَتْ الماضي، وأَسَرَتْ العاق في لحظته الحاضرة أو بسبب طاعة الزوجة والأبناء
…
وربما وجدت في قائمة العاقين سفيهًا لم يعرف للوالدين حقهما، أو شيخًا متصابيًا أَنْسته السنون فضلهما، وأعجبه عقله واكتمال قوته ومعرفته في مقابل صنعهما، وغياب كثير من الأمور عن مدركاتهما، أو فقيرًا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فراح ينسب لهما أسباب فقره وقلقه، وينزل بهما جام غضبه، وربما كان سر فقره وقلقه عقوقه وعصيانه. أو غنيًا ضنَّ بماله،
وضاق ذرعًا بمطالب والديه وإن كانت يسيرة، وفي الحديث. (
…
وأطع والديك وإن أمراك أن تخرج من دنياك فاخرج لهما
…
) (1).
أو متعلمًا- في صورة جاهل- ساقه ما وصل إليه من علم إلى التعالي، وما حصل عليه من شهادة إلى الغرور والتباهي، فظن بوالديه الجهل، وقدَّر فيهما محدودية العقل، فتحدث إليهما حديث العالم للجاهل، ونظر إليهما نظرة احتقار ودونية، فلا يستطيب الحديث معهما، وربما تأفَّف أو كره شيئًا من أحاديثهما ..
أو صاحب وجاهة، اتسع صدره للآخرين، وضاق عن الوالدين والأقربين
…
ألا فاتقوا الله، عباد الله، وأنزلوا والديكم المنزلة التي أنزلها الله إياهم، واحذروا أسباب العقوبة بعقوقهما في الدنيا، والخزي والندامة في الآخرة.
لقد عدَّ ابن عمر، رضي الله عنهما «بكاء الوالدين من العقوق» من الكبائر التسع (2)، وقال للسائل الذي جاء يسأله عن ذنوب اقترفها:(أتفْرَق من النار وتحب أن تدخل الجنة؟ قلتُ: أي والله، وقال: أحيٌّ والداك؟ قال عندي أمي، قال: فوالله لو ألنتَ لها الكلام، وألهمتها الطعام لتدخلنَّ الجنة ما اجتنبت الكبائر).
أيها المسلمون، وفي مقابل ذلك تحيق العقوبة في العاقين في الدنيا، وتصيب دعوة الوالدين الأبناء، وفي الحديث: ثلاث دعوات مستجابات لاشك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالدين على ولدهما.
وإذا كانت دعوة الوالدين أصابت (جريجًا) الراهب العابد في صومعته، وكانت الصلاة سبب عصيانه، حين آثر الصلاة على إجابة دعوة أمه، فدعت عليه
(1) رواه ابن ماجه والحاكم وغيرهم بسند حسن (صحيح الأدب الفرد/ 38، 39).
(2)
رواه البخاري في الأدب المفرد وصحح إسناده الألباني (صحيح الأدب المفرد/ 35).
قائلة: لا أماتك الله يا جريح حتى تنظر في وجه المومسات، فابتلي جريج، واتهم بتلك المرأة التي واقعها الراعي فولدت له، وحين سئلت نسبته إلى جريح كان ذلك سببًا في هدم صومعته، والإتيان به مغلولاً .. حتى مرَّ على المومسات، فلما رآهن تبتسَّم، فلما مَثُل بين يدي الملك قال: تزعم هذه أن ولدها منك، قال: أنتِ تزعمين؟ قالت: نعم، فطلب الصبي ثم قال له: مَن أبوك؟ فقال: راعي البقر (وكان أحد الذين تكلموا في المهد) فردَّت إليه صومعته، ثم سأله الملك عن تبسُّمه فقال: أمرًا عرفته، أدركتني دعوة أمي، ثم أخبرهم خبره .. فإذا كان هذا شأن جريج ودعوة أمه في أمر من أمور العبادة لله فكيف تكون الحال فيما هو دون ذلك؟
ألا وإن التوبة تجب ما قبلها فمن فرَّط فليستغفر، وليبدل السيئة بالحسنة إن كان والداه على قيد الحياة.
والفرصة أمامه، كذلك، إن كانا قد فارقا الحياة، ففضل الله واسع، ورحمته واسعة، وذلك بكثرة الدعاء والاستغفار لهما، والصدقة عنهما، وصلة من كانا يرغبان صلته في الدنيا. قال عبد العزيز بن أبي رواد: إذا كان الرجل بارًا بوالديه في حياتهما ثم لم يف بعد موتهما بنذورهما، ولم يقض ديونهما، كتب عند الله عاقًا، وإذا كان لم يبرهما في حياتهما ثم أوفى بنذورهما، وقضى ديونهما كتب عند الله بارًا (1).
(1) شرح السنة 13/ 22.