الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره وأُثني عليه الخير كلَّه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
أما بعد، فيا أهل القرآن، احذروا شكوى محمد صلى الله عليه وسلم لربه من هجر قومه وأمته للقرآن {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} وتأملوا في رد الله:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} (1).
قال صاحب أضواء البيان- يرحمه الله- (معنى هذه الآية الكريمة ظاهرٌ، وهو أن نبينا صلى الله عليه وسلم شكا إلى ربه هجر قومه- وهم كفار قريش - لهذا القرآن العظيم، أي تركهم لتصديقه والعمل به، وهذه شكوى عظيمة، وفيها أعظم تخويفٍ لمن هجر هذا القرآن العظيم فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام والآداب والمكاوم، ولم يعتقد ما فيه من العقائد، ويعتبر بما فيه من الزواجر والقصص والأمثال) أهـ (2).
ويقول صاحب الظلال- يرحمه الله- (لقد هجروا القرآن الذي نزله الله على عبده لينذرهم ويبصرهم، هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم إذ كانوا يتقون أن يجتذبهم فلا يملكون لقلوبهم عنه ردًا، وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحق من خلاله، ويجدوا الهدى على نوره، وهجروه فلم يجعلوه دستور حياتهم، وقد جاء ليكون منهج حياةٍ يقودها إلى أقوم طريق، وإن ربه ليعلم- بحاله وحال قومه- ولكنه دعاء البث والإنابة يشهد به ربه على أنه لم يألُ جهدًا، ولكن قومه
(1) سورة الفرقان، الآية:31.
(2)
أضواء البيان 6/ 317.
لم يستمعوا لهذا القرآن ويتدبروه فيسليه ربه ويعزيه، فتلك هي السنة الجارية قبله في جميع الرسالات، فلكل نبي أعداءٌ يهجرون الهدى الذي يجيئهم به، ويصدون عن سبيل الله
…
ولله الحكمة البالغة، فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوِّي عودها، ويطبعها بطابع الجد الذي يناسب طبيعتها، وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين الذين يتصدون لها- مهما كلَّفهم من مشقة، وكلَّف الدعوات من تعويق- هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعاوى الزائفة، وهو الذي يمحص القائمين عليها، ويطرد الزائفين منهم، فلا يبقى بجوارها إلا العناصر المؤمنة القوية المتجردة التي لا تبتغي مغانم قريبة، ولا تريد إلا الدعوة خالصة تبتغي بها وجه الله تعالى.
ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة، تسلك طريقًا ممهدة مفروشة بالأزهار، ولا يبرز لها في الطريق خصوم ومعارضون، ولا يتعرض لها المكذبون والمعاندون، لسهل على كل إنسان أن يكون صاحبَ دعوة، ولاختلطت دعوات الحق ودعاوى الباطل، ووقعت البلبلة والفتنة، ولكن بروز الخصوم والأعداء للدعوات هو الذي يجعل الكفاح لانتصارها حتمًا مقضيًا، ويجعل الآلام والتضحيات لها وقودًا .. إلخ كلامه (1).
أيها المسلمون، وهكذا تكشف الآية عن عظم هجر القرآن أفرادًا أو جماعات، شعوبًا أو حكومات، وإذا رأيت في مجتمع المسلمين عددًا من المخالفات لهدي القرآن ظاهرًا، وعددًا من التجاوزات لتعاليم الإسلام واضحًا، وزهدًا بسنة محمد صلى الله عليه وسلم صراحةً أو خداعًا، واستيرادًا للقوانين الوضعية، ووضعها للناس حكمًا، فاعلم أن ذلك من هجر القرآن، وتذكر حينها
(1) الظلال 5/ 2561.
قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (1) وتأمل معنى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} (2).
عباد الله، وبإزاء هذه الصورة الهاجرة للقرآن، فهناك صورة التعظيم والتقديم لكتاب الله، يقدرها حق قدرها العلماء والربانيون الذين يعلمون منزلة الكتاب، وما فيه من أحكام وآداب، ووعد ووعيد، ولذا تراهم يقدمون تعلمها على كل شيء، حتى ولو كانت من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري في صحيحه عن حذيفة، رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حديثين، رأيتُ أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة
…
وحدثنا عن رفعها قال .... [الحديث 7086].
قال ابن حجر معلقًا: قوله: «ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة» كذا في هذه الرواية بإعادة (ثم) وفيه إشارة إلى أنهم كانوا يتعلمون القرآن قبل أن يتعلموا السنن، والمراد بالسنن ما يتلقون عن النبي صلى الله عليه وسلم واجبًا كان أو مندوبًا (3).
ويقول أبو عمر بن عبد البر يرحمه الله: طلب العلم درجات ومناقب ورتب،
(1) سورة النساء، الآية:65.
(2)
سورة النساء، الآيتان: 60، 61.
(3)
الفتح 13/ 39.
لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف، رحمهم الله، ومن تعدى سبيلهم عامدًا ضل، ومن تعداها مجتهدًا زلَّ، فأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل، وتفهمه
…
(1).
وقال الحافظ النووي، رحمه الله: (وينبغي أن يبدأ من دروسه على المشايخ، وفي الحفظ والتكرار والمطالعة بالأهم فالأهم، وأول ما يبتدئ به حفظ القرآن العزيز فهو أهم العلوم، وكان السلف لا يُعَلِّمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن
…
) (2).
أيها المسلمون، وإذا كان هذا منهجهم في تقديم القرآن في طلب العلم، فلا تسأل عن التزامهم بهدي القرآن، ووقوفهم عند الحلال والحرام، والعمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه، وكان السلف، رحمهم الله، وقَّافين عند كتاب الله، لا يتجاوزون هديه، ولا يعدلون شيئًا بحكمه، ومن قرأ في سيرهم وخبر آثارهم، عرف ذلك جليًا في حياتهم- ولولا مخافة الإطالة لسقت لكم نماذج- ولذا سادوا الدنيا، ورفعهم الله في الآخرة مكانًا عليًّا، وحين تخلَّف المسلمون اليوم عن هدى القرآن، واتخذوه مهجورًا، سامهم الأعداء سومًا، وبات رصيدهم للآخرة قليلاً، وكل ذلك جزاءً وفاقًا، ولا يظلم ربك أحدًا.
فهل نتخذ- معاشر المسلمين- فرصةً لنعيد النظر في أنفسنا، وموقفنا من كتاب ربنا، إن ذلك خليقٌ بنا في شهر الصيام وبعده، ولعلَّه يكون أثرًا من آثار تقوى الصيام.
اللهم أصلح أحوالنا، وردَّنا إليك ردًا جميلاً، اللهم حكم في المسلمين كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ..
(1) جامع بيان العلم وفضله 526، 528 عن النبذ في آداب الطلب/ للعثمان/ 63.
(2)
مقدمة المجموع، شرح المهذب 1/ 38 عن: النبذ في آداب الطلب/ 64.