الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسل والرسالات
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها الإخوة المسلمون، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وتبصروا حقيقة دينكم، وعُوا قضية إيمانكم الذي به تلقون ربكم.
إن من قضايا العقيدة التي تحتاج إلى تذكير، الإيمان بالرسل والرسالات والإيمان بالرسل أصل من أصول الإيمان، قال تعالى:{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (2).
والذين يزعمون أنهم مؤمنون بالله ولكنهم يكفرون بالرسل، أو ينكرون شيئًا مما أنزل الله عليهم، هؤلاء لا يقدرون الله حق قدره:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} (3)، وليس من الإيمان في شيء التفريق بين الله ورسله، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا
(1) في 19/ 3/ 1412 هـ.
(2)
سورة آل عمران، الآية:84.
(3)
سورة الأنعام، الآية:91.
بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} (1).
فقد نصت الآية على كفر من زعم الإيمان بالله وكفر بالرسل، كما في قوله تعالى:{وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} ولهذا قال الإمام القرطبي- رحمه الله في تفسير هذه الآية: نص سبحانه على أن التفريق بين الله ورسله كفر، وإنما كان كفرًا لأن الله فرض على الناس أن يعبدوه بما شرعه على ألسنة الرسل، فإذا جحدوا الرسل ردوا عليهم شرائعهم، ولم يقبلوها منهم، فكانوا ممتنعين من التزام العبودية التي أُمِروا بالتزامها، فكان كجحد الصانع سبحانه، وجحد الصانع كفر لما فيه من ترك التزام الطاعة والعبودية وكذلك التفريق بين الله ورسله (2).
أيها الإخوة المسلمون، اقتضت حكمة الله تعالى الأمم الماضية أن يرسل في كل منها نذير {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَاّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ} (3)، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم كانت عامة للبشر كلهم، وكانت خاتمة فلا رسالة بعدها. واقتضى عدل الله ألا يعذب أحدًا من الخلق حتى يكون البلاغ وتقوم الحجة {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (4)
…
ولهذا كان الأنبياء والمرسلون عددًا كثيرًا، وجمًا غفيرًا، روى الإمام أحمد
(1) سورة النساء، الآيتان: 150، 151.
(2)
تفسير القرطبي 6/ 5.
(3)
سورة فاطر، الآية:24.
(4)
سورة الإسراء، الآية:15.
(5)
سورة النساء، الآية:165.
وغيره عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله: كم وفاء عدد الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، المرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمًا غفيرًا (1).
وهذا العدد الكبير يجب الإيمان بهم كلهم، وإن لم نعرف منهم إلا القليل، ومحمد صلى الله عليه وسلم وهو الموحى إليه من ربه قال الله له:{وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (2).
ولم يرد في القرآن الكريم إلا ذكر خمسة وعشرين نبيًا ورسولاً، وهؤلاء ذكروا بأسمائهم، وهناك من ذكرت نبوته ولم يذكر اسمه، وهم الأسباط أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليهم السلام وعددهم اثنا عشر رجلاً، عرَّفنا القرآن بواحد منهم وهو يوسف عليه السلام، أما الأحد عشر فقد أخبر الله أنه أوحى إليهم ويجب الإيمان بما أنزل عليهم، {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ} (3).
إخوة الإيمان ولقد بين العلماء- رحمهم الله حاجة العباد إلى الرسل وتعاليمهم، فقال ابن القيم- رحمه الله.
(ومن هنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفه الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا يُنال رضى الله البتة إلا على أيديهم
(1) الحديث إسناده صحيح كما في مشكاة المصابيح 3/ 122، والرسل والرسالات/ 17.
(2)
سورة النساء، الآية: 164، وفي غافر، الآية: 78 مشابهة لها.
(3)
سورة البقرة، الآية:136.
فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاءوا به فيه الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأخلاقهم توزن الأخلاق والأعمال وبمتابعتهم يتميز أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها .... ) (1) إلى آخر كلامه القيم- رحمه الله.
ويفرق ابن القيم في كتابه القيم (2) بين حاجة الأبدان إنما علوم الطب، والأرواح إلى تعاليم الرسل، فيقول:(حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية فوق حاجتهم إلى كل شيء ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطب إليها، ألا ترى أن أكثر العالم يعيشون بغير طبيب ولا يكون الطبيب إلا في بعض المدن الجامعة، وأما أهل البدو كلهم، وأهل الكفور كلهم- وعامة بني آدم- لا يحتاجون إلى طبيب وهم أصح أبدانًا وأقوى طبيعة ممن هو متقيد بطبيب، ولعل أعمارهم متقاربة) إلى أن يقول: (فليس الناس قط إلى شيء أحوج منهم إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والقيام به، والدعوة إليه والصبر عليه، وجهاد من خرج عنه حتى يرجع إليه، وليس للعالم صلاح بدون ذلك البتة، ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلا بالعبور على هذا الجسر).
أيها المسلمون، أَصِلُ بكم إلى بيان وظائف الرسل ومهماتهم فتعلَّموها، ثم اعملوا بما تطيقون منها، وتنبهوا إلى أن من يقوم بها إنما هو من ورثة الأنبياء، فالأنبياء- عليهم السلام لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم.
وأول هذه الوظائف للرسل البلاغ المبين، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ
(1) زاد المعاد 1/ 15.
(2)
مفتاح دار السعادة 1/ 15.
بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ .. } (1). والبلاغ يحتاج إلى الصدق والشجاعة وعدم الخشية من الناس حينما يأمرهم بما يستنكرون، أو ينهاهم عما يألفون- مما أمر الله به أو نهى عنه- قال تعالى:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَاّ اللَّهَ} (2).
الثاني من وظائف الرسل: الدعوة إلى الله، فلا تقف مهمة الرسل وأتباعهم عند بيان الحق وإبلاغه للناس، بل عليهم دعوة الناس إلى الأخذ بدعوتهم، وترغيبهم في الخير، وتحذيرهم من الشر، وتحقيق هذا الخير في أنفسهم قولاً وعملاً. وهذا لاشك يكلف الرسل وأتباعهم من الدعاة إلى الله والمصلحين ..
لكن من يتصدى لإصلاح الناس وتوجيه مسيرتهم وتعريفهم بربهم لابد له من الصبر والتحمل وأجره على الله، ألا ما أكرم المرسلين وأتباعهم من الدعاة والمصلحين وهم يجهدون أنفسهم في سبيل تقديم الخير للآخرين، وإليكم هذا المثل المعبر عن هذه الحقيقة، فقد روى البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلاً، فقال: اسمع سمعت أذنك، واعقل عقل قلبك، إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارًا، ثم بنى فيها بيتًا، ثم جعل فيها مائدة، ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه، فالله هو الملك، والدار هو الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد رسول، من أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها» (3).
(1) سورة المائدة، الآية:67.
(2)
سورة الأحزاب، الآية:39.
(3)
صحيح الجامع 2/ 319، الرسل والرسالات/ 45.
ومن وظائف الرسل التبشير والإنذار، فهم يبشرون من أطاعهم بالجنة والمغفرة، ويخوفون وينذرون من عصاهم التعاسة والنار، وليست بشارتهم قاصرة على الآخرة بل يبشرون الهداة الطائعين بالحياة الدنيا {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (1). وفي المقابل يخوفون العصاة المجرمين بالشقاوة في الدنيا قبل الآخرة {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} (2).
إخوة الإيمان، تأملوا هذا المثل الذي يوضح حال الدعاة والمدعوين، ويقرب الصورة لأثر الاستجابة لداعي الهوى، وعاقبة الإعراض لمن ضل وغوى، يقول إمام الدعاة (محمد صلى الله عليه وسلم:«مثلي ومثل ما بعثني الله كمثل رجل أتى قومًا فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبته طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت من الحق» (3).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه ..
(1) سورة النحل، الآية:97.
(2)
سورة طه، الآية:124.
(3)
الحديث متفق عليه.