الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1) عبودية الضراء
(1)
الخطبة الأولى
حاجتنا إلى الصبر
الحمد لله الصبور الشكور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واهب النعم، ومحل النقم، أحمده تعالى وأشكره وأُثني عليه الخير كله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أوصاه ربه بالصبر فقال:{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَاّ بِاللَّهِ} (2).
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، أثنى الله عليهم بالصبر فقال:{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ} (3). وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (4). وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، صبروا وصابروا حتى سادوا العالمين، وكانوا أئمةً في الدين، وعن التابعين، ومن تبعهم وسار على نهجهم، وصبر على طريقهم إلى يوم الدين:
أما بعد، فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن مع الصبر والتقوى لا يضر
(1) في 26/ 10/ 1416 هـ.
(2)
سورة النحل، الآية:127.
(3)
سورة الأنبياء، الآية:85.
(4)
سورة ص، الآيات: 42 - 44.
كيد العدو ولو كان ذا تسليط: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (1). والصبر والتقوى طريق العز والتمكين، كذلك أخبر الله عن يوسف عليه السلام:{إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (2).
أيها المسلمون:
حديث اليوم عن عبادة الضَّراء، وعُدَّة المسلم حين نزول البلاء، وزاد المؤمن حين وقوع الابتلاء، عن الطاقة المدَّخَرة في السراء، والحبل المتين في الضراء .. إنه الصبر تبدو مرارته ظاهرًا، ويصعب الاستشفاء به عند الضعفاء، لكن مرارته تغدو حلاوةً مستقبَلاً، ويأنس به رفيقًا الأقوياء النبلاء.
وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائمُ
…
وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
ويكبر في عين الصغير صغيرها
…
وتصغر في عين العظيم العظائمُ
جعل الله الصبر جوادًا لا يكبر، وصارمًا لا ينبو، وجندًا لا يهزم، وحصنًا حصينًا لا يهدم ولا يُثْلَم.
وهو كما قيل: آخيّة المؤمن، يجول ثم يرجع إليها، مثله للإنسان مثل العروةُ تَّثبتُ في الأرض أو الحائط، تُرْبَط بها الدابة، فتجول ثم تعود إليها.
وهو ساق إيمان الزمن فلا إيمان لمن لا صبر له، وإن كان فإيمان قليل في غاية الضعف، وصاحبه ممن يعبد الله على حرف فإن أصابه خير أطمأنَّ به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، خسر الدنيا والآخرة .. فخير عيش أدركه السعداء بصبرهم، وترقوا إلى أعالي المنازل بشكرهم، فساروا بين جناحي
(1) سورة آل عمران، الآية:125.
(2)
سورة يوسف، الآية:9.
الصبر والشكر، إلى جنات النعيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (1) ..
أيها المؤمنون لا غنى عن الصبر في هذه الحياة، وإذا استوى الأبرار والفجار في حاجتهم للصبر على نكد العيش ومفاجأة الحياة، فاز الأبرار بالثواب العظيم على صبرهم لأنهم يصبرون في ذات الله، وخاب الفجار لأنهم لا يرجون من وراء صبرهم جزاءً ولا شكورًا.
وإذا كانت مرارة الدواء يعقبها الشفاء، فقد رتب الله على الصبر المحتسب عظيم الجزاء فقال جل من قائل:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2)، قال الأوزاعي رحمه الله:(ليس يوزن لهم ولا يكال إنما يغرف لهم غرفًا)(3).
عباد الله وإذا كان المسلم محتاجًا للصبر في كل حال فحاجته إليه أشد إذا مرجت العهود، وضعفت الذمم واختلت المقاييس والقيم، ونحتاج للصبر إذا خُوِّنَ الأمين، وسُوِّدَ الخؤون، وألبس الحق بالباطل، وسكت العالمون، وتنمرَّ الجاهلون.
والصبر المشروع هنا ليس يأسًا مُقيطًا، ولا عجزًا مُقعِدًا، إنه الثبات على الحق، والنصح بالتي هي أحسن للخلق، والشعور بالعزة الإيمانية مع الظلم والهضم، والثقة بنصر الله وإن علت رايات الباطل برهة من الزمن، فالصبر والنصر- كما قيل- أخوان شقيقان، والفرج مع الكرب، والعسر مع اليسر.
أيها المسلم والمسلمة، وأنت محتاج للصبر على طاعة الله، وعن معاصي الله، وعلى أقدار الله ....
(1) عدة الصابرين، ابن القيم/ 12.
(2)
سورة الزمر، الآية:10.
(3)
تفسير ابن كثير 7/ 80.
تحتاج للصبر على الطاعة شكرًا للمنعم، وأُنْسًا بالخالق، واستجلابًا لراحة القلب وطمأنينة النفس، وتحتاج للصبر على الطاعة لطول الطريق، وقلة الرفيق، وكثرة الأشواك.
كما تحتاج للصبر عن المعاصي لقوة الداعي، وضعف النفوس، وكيد الشيطان وغروره، أماني النفس بتقليد الهالكين ..
تحتاج للصبر هنا لآفات الذنوب والمعاصي عاجلاً، وقبح الورد على الله آجلاً.
وتحتاج للصبر على أقدار الله حين تطيش النفوس بفقدان الحبيب، وتعلو خفقات القلب للنازلة المفاجئة، وتصاب بالحيرة والاضطراب للمصيبة الجاثمة
…
أجل: إن الله يفتح بالصبر والاحتساب على عباده آفاقًا لم يحتسبوها، ويغدو البلاء في نظرهم نعمة يتفيؤون ظلالها ويأنسون بخالقهم من خلالها، ويتحول الضيق في تقدير غيرهم إلى سعة يغتبطون بها، ولسان حالهم ومقالهم يقول: نخشى أن تكون طيباتنا عجلت لنا في الحياة الدنيا، وربما ذهبت إلى مصاب مبتلى معنَّى- في نظرك- فتجاسرت على تعزيته في مصيبته فكان المُعَرِّي هو المُعَزَّى وعاد المُعَزَّى يذكر لك من أنعم الله عليه ما خفف المصاب عنه وأنسى فلا إله إلا الله لا يتخلى عن أوليائه في حال الضراء إذا كانوا معه في حال السراء. وما أجمل الصبر وصية للمؤمن في حال الشدة والرخاء.
أيها المسلمون، كم تُسلينا آيات القرآن بالصبر فلا نرعوي، وكم تهدينا سنَّةُ المصطفى صلى الله عليه وسلم ونظلُ بعدُ في حيرةٍ من أمرنا ليس عبثًا أن يتكرر الصبر في القرآن وفي تسعين موضعًا .. كما قال الإمام أحمد رحمه الله، وقد عدَّ لها العارفون أكثر من
عشرين معنى، ليس تعليق الإمامة في الدين بالصبر واليقين إلا نموذجًا لها كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (1).
فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين (2).
وعلَّق خصال الخير بالصبر فقالت تعالى: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَاّ الصَّابِرُونَ} (3).
وحكم بالخسران حكمًا عامًا على كلِّ من لم يؤمن ولم يكن من أهل الحقِّ والصبر فقال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4).
وقرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (5)، {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ} (6)، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (7)، {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} (8).
أيها المسلمون، ومن مشكاة النبوة قبسٌ يُسلي الصابرين ويقول عليه الصلاة
(1) سورة السجدة، الآية:24.
(2)
عدة الصابرين/ 122.
(3)
سورة القصص، لأية:80.
(4)
سورة العصر، الآيات: 1 - 3.
(5)
سورة البقرة، الآية:153.
(6)
سورة يوسف، الآية:90.
(7)
سورة إبراهيم، الآية: 5، انظر: ابن القيم: عدة الصابرين 111 - 117.
(8)
سورة الأحزاب، الآية:35.
والسلام: «ما أُعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر» (1).
وكم هي إضاءة قوله عليه السلام: «والصبر ضياء» (2). قال النووي رحمه الله: (والمراد أن الصبر محمود ولا يزال صاحبه مستضيئًا مهتديًا مستمرًا على الصواب)(3). وقيل: إن عاقبة الصبر ضياءٌ في ظلمة القبر، فبصبره على الطاعات والبلايا في سعة الدنيا، جازاه الله بالتفريج والتنوير في ضيق القبر وظلمته) (4).
وهل علمت أن الصبر من أعلى درجات الإيمان .. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الإيمان أفضل؟ قال: الصبر والسماحة)(5).
وعلق عليه ابن القيم بقوله: (وهذا من أجمع الكلام وأعظمه برهانًا، وأوعبه لمقامات الإيمان من أولها إلى آخرها، فإن النفس يراد منها شيئان: بذل ما أُمرت به وإعطاؤه، فالحامل عليه السماحة، وترك ما نهيت عنه، والبعد عنه، فالحامل عليه الصبر)(6).
أجل لقد كان في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: (واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا)(7).
(1) متفق عليه (البخاري ح 469. مسلم ح 1053).
(2)
رواه مسلم 223.
(3)
النووي على مسلم 3/ 103.
(4)
مشكاة المصابيح 2/ 8.
(5)
أخرجه ابن أبى شبيبة في الإيمان، والبيهقي في الزهد بسند صحيح (أنظر: تحفة المريض/ عبد الله الجعيثن/ 45).
(6)
مدارج السالكين 2/ 167.
(7)
رواه أحمد وصححه القرطبي وحسنه ابن حجر. (تفسير القرطبي 6/ 398، تخريج أحاديث المختصر لابن حجر 1/ 326، وحسنه غيرهم: تحفة المريض، للجعيثن).
يا أخا الإسلام، وعرف السلف للصبر مكانته وقدره، فقال علي رضي الله عنه:(ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد- فإذا انقطع الكأس بان الجسد- ثم رفع صوته فقال: ألا لا إيمان لمن لا صبر له)(1).
وقال عمر رضي الله عنه: وجدنا خير عيشنا بالصبر (2).
وقال عمر بن عبد العزيز يرحمه الله: (ما أنعم الله على عبدٍ نعمةً فانتزعها منه، فعاضه مكانها الصبر، ما عوَّضه خيرًا مما انتزعه)(3).
وتمثل بعضهم:
صبرتُ فكان الصبرُ خير مغبَّةٍ
وهل جزعٌ يُجدي عليَّ فأجزعُ
ملكتُ دموعَ العينِ حتى رددُتها
إلى ناظرِي فالعينُ في القلب تدمعُ (4).
اللهم اجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (5).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
(1) ابن تيمية الفتاوى 10/ 40.
(2)
صحيح البخاري مع الفتح 11/ 303 معلقًا، ووصله أحمد في الزهد بسند صحيح .. الفتح 11/ 303.
(3)
عدة الصابرين/ 151.
(4)
السابق/ 155.
(5)
سورة البقرة، الآيات: 155 - 157.