الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبالوالدين إحسانًا
(1)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، أيقظ الغافلين، ونفع بالتذكرة المؤمنين، عرفوا ما لربهم من الحقوق فقاموا بها، وما عليهم من الواجبات لخلقه فأدُّوها. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر وقضى، ولا يأمر ربك إلا بالعدل والإحسان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أزكى البشرية وأبرها يحقوق الله وحقوق خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (2).
أيها المسلمون، وحيث سبق الحديث عن الشباب، واستوقفنا الحديث عن الأبناء، فاستكمال الحديث اليوم عن الشيوخ والآباء .. ولكنه ليس حديثًا عن انحرافهم، بل تذكير ببرهم، وطرائق الإحسان إليهم، تلك العبادة التي غفل عنها بعض الناس، واستخف بأمرها كثيرٌ من الشباب، حتى وصل الداء إلى الخيرين، ولم يسلم منه الطيبون، وكان لابد من وقفة تذكير، عسى الله أن ينفعَ بها المتحدِّثَ والسامعين، وعموم المسلمين.
(1) 13/ 2/ 1417 هـ.
(2)
سورة التوبة، الآية:119.
(3)
سورة النساء، الآية:1.
فمن هما الأبوان اللذان جاءت نصوص الشرع بالبر والطاعة لهما؟ وأي حق أو قدرٍ للوالدين اللذينِ أمر الله بالإحسان إليهما؟
هما أمك التي حملتك في أحشائها وهنًا على وهن، حملتك كرهًا ووضعتك كرهًا، ولا يزيدها نموَّك إلا ثقلاً وضعفًا
…
غذَّتك بصحتها، تجوع هي لتشبع أنت، وتسهر لتنام أنت، ومع ذلك فأنت في فؤادها يقظان دائمًا، صغيرًا كنت أم كبيرًا، تتخذ من حجرها لك بيتًا، ومن يديها مركبًا، طالما أماطت عنك الأذى، ولم تضق بك ذرعًا، هي أم الصبر، وحبل الشوق، وعنوان التضحية ورمز الحنين، ومرفأ السلوى والشكوى
…
وأبوك يكد لك ويسعى، يجوب الفيافي والقفار، ويتحمل الأخطار بحثًا عن لقمة عيشك، يدفع عنك صنوف الأذى، ويتعهدك بالحنان والتربية، أنت له مجبنة مبخلة، وأنت محل تفكيره، وبك غالب همومه، هو الخادم المجهول، والمكافح المغمور، وربما اخترمته ريب المنون، وهو في رحلة الجهاد للبنين والبنات، ..
هذان الأبوان هما اللذان قال الله بيانهما: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (1). وأمرنا بالشكر له ولهما: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} (2).
هما اللذان جاءت الوصية الإلهية بالإحسان إليهما: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} (3)، بل أمر بمصاحبتهما بالظروف في الدنيا، وإن كانا كافرين:{وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} (4).
(1) سورة النساء، الآية:36.
(2)
سورة لقمان، الآية:14.
(3)
سورة العنكبوت، الآية:8.
(4)
سورة لقمان، الآية:15.
الجهاد فيهما جهاد مقدم، والإذن منهما أمرٌ لازم، (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يستأذنه في الجهاد فقال: أحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)(1).
وإيناسهما، وإدخال السرور عليهما شرط للهجرة والجهاد:(جاء رجل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: جئتُ أُبايعك على الهجرة وتركتُ أبوي يبكيان، فقال: ارجع عليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)(2).
وإذا كان هذا في عظائم الأمور فلا تسأل عما دون ذلك؟
أيها المؤمنون، والبر بالوالدين وفاءٌ وقربةٌ، وهو طريق إلى الجنة، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول:(الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضِعْ ذلك البابَ أو احفظه)(3). والمعنى، كما قال العلماء، أي خير أبواب الجنة (4).
وحنانيك- يا أخا الإسلام- قولَ المصطفى، صلى الله عليه وسلم، «رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: مَن أدرك والديه عند الكبر، أحدهما أو كلاهما، ثم لم يدخل الجنة» (5).
هل يغيب عنك أن رضى الرب في رضاهما، وسخطه في شخطهما؟ أم نسيتَ أن دعوتهما لك لا تُرد، وأين أنت من بسط الرزق، والفسحة في الأجل، والمصطفى، صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن سره أن يُبْسَطَ لهُ في رزقه ويُنْسَأَ له في أثره فلْيصل
(1) متفق عليه.
(2)
رواه أبو داود بسند صحيح (صحيح سنن أبي داود 2/ 480).
(3)
رواه الترمذي وصححه، وابن حبان والحاكم، وأقره الذهبي (صحيح سنن الترمذي 2/ 175، المستدرك 4/ 152، موجبات الجنة/ 57).
(4)
شرح السنة للبغوي 13/ 11.
(5)
رواه مسلم ح 2551.
رحمه» (1). وهل هناك أقرب من الوالدين وأولى منهما بالصلة؟
بل يصل الأمر إلى أن يحفظ الله الأبناء، في أنفسهم وأموالهم، بصلاح الآباء:{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ .... } (2).
ومن آثار بر الوالدين أنه سبب لكشف الشدائد والكربات بإذن الله، وفي الحديث أن أحد الثلاثة الذين أخذهم المطر فآووا إلى غار في الجبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم، ولم يستطيعوا الخروج منها حتى دعوا الله بصالح أعمالهم، أحد هؤلاء كان بارًا بوالديه ففرج الله عنهم (3).
يا أخا الإيمان، وفوق ما يذكره الله لك من خيري الدنيا والآخرة بسبب البر، فيدعوك للبر كذلك معرفتك بسيرة البررة الأخيار من الأنبياء والصالحين: فيحيى، عليه السلام، يقول عنه مولاه:{وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} (4)، وعن عيسى، عليه السلام، قال تعالى:{وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} (5).
وفرق بين البر والعصيان، وبين التجبر والإحسان! !
وتأمل يا من تتلو كتاب الله نموذجًا آخر للبر والإحسان، نالت عطف وإحسان موسى، عليه السلام، {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ
(1) رواه البخاري.
(2)
سورة الكهف، الآية:82.
(3)
متفق عليه، البخاري 10/ 338 الأدب، وسلم 2743 في الذكر والدعاء.
(4)
سورة مريم، الآية:14.
(5)
سورة مريم، الآية:32.
وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا .. } (1).
وتظل قصة المرأتين مثار عجب وقدوة، ولا يدري المتأمل في صنيعيهما، أيعجبه البر والإحسان والخدمة لأبيهما في أمر يقوم به الرجال غالبًا، أم يعجبه حياؤهما وعفتهما وبعدهما عن خلطة الرجال، وإذا جمعت الفتاتان بين الأمرين كان حقًا على الفتيان والفتيات ألا يقلوا عنهما برًا وإحسانًا.
ومن مدرسة النبوة يبرز لنا «حارثة بن النعمان» رضي الله عنه، نموذجًا للبر، يشهد له النبي، صلى الله عليه وسلم بحسن المكافأة، ويراه في الجنة، على بره، وهو بعدُ في الدنيا، ويقول عليه الصلاة والسلام: «نمتُ فرأيتني في الجنة، فسمعتُ صوتَ قارئٍ يقرأُ فقلتُ: من هذا؟ قالوا: هذا حارثه بن النعمان، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كذلك البر، كذلك البر، وكان أبرَّ الناس بأمه) (2).
ومن جيل التابعين، يخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، عن رجل آخر من البررة، ويقول: يأتي عليكم أُويس بن عامر القرني من أمداد أهل اليمن، من مراد، ثم من قرن، كان به برصٌ فبرئ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ، هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعتَ أن يستغفر لك فافعل، ثم تمر الأيام والسنون، ويلتقي عمر به ويتأكد من صفته واسمه، ويطلب منه أن يستغفر له فاستغفر له (3).
أيها المسلم والمسلمة، معاشر البررة، ويكون البر بلين القول، وطيب الكلام، وخفض الجناح، رحمةً وتقديرًا، والدعاء لهما أحياء وأمواتًا، وسد حوائجهما، ومؤانستهما ..
(1) سورة القصص، الآيتان: 23، 24.
(2)
رواه أحمد، وسنده صحيح، وصححه الألباني (السلسلة الصحيحة ح 912، وأخرجه الحاكم بلفظ آخر وصححه، وأقره الذهبي/ المستدرك 3/ 208)(وانظر ترجمته في الإصابة 2/ 190).
(3)
وردت القصة في صحيح مسلم في الفضائل 4/ 1969.
سُئل الحسن، يرحمه الله، ما بر الوالدين؟ قال: أن تبذل لهما ما ملكتَ، وتطيعهما فيما أمراك ما لم يكن معصية، قيل: فما العقوق؟ قال: أن تهجرهما وتحرمهما، ثم قال: أما علمتَ أن نظركَ في وجوه والديك عبادة فكيف بالبر بهما؟ وقال أبو هريرة، رضي الله عنه، لرجل، وهو يعظه في بر أبيه: لا تمش أمام أبيك، ولا تجلس قبله، ولا تدعُهُ باسمه. وقال طاووس: من السنة أن يُوقَّر أربعة: العالم، وذو الشيبة، والسلطان، والوالد، ومن الجفاء أن يدعو الرجل والده باسمه (1).
أيها المسلمون، ويستمر البر بالوالدين في حياتهما وبعد مماتهما، ويستفيد الأموات من دعوات الأحياء واستغفارهم، وقد ورد عن أبي هريرة بإسناد حسن:(تُرفع للميت بعد موته درجته فيقول: أي رب، أي شيءٍ هذه؟ فيقال: ولدك استغفر لك)(2).
(1) شرح السنة للبغوي 13/ 26، 27.
(2)
صحيح الأدب الفرد/ 45.
(3)
سورة الإسراء، الآيات: 23 - 25.