الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
متاع الغرور
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره.
أما بعد إخوة الإسلام، فيقول الحق تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين-:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (2). ففي الآية تقرير من الله لما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من متاع وأنواع الملاذ التي بها يتعلقون، وبها أحيانًا يفتنون وعن طريقها يغنمون وأحيانًا أخرى يغرمون. فهذه الملاذ تختلف باختلاف أحوال الناس تجاهها .. فهي لفئة مأثم ومغرم، ونقمة وفتنة.
وهي لفئة أخرى نعمة ومغنم، ووسيلة للفلاح والنجاح في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
فإن قلت كيف يكون ذلك والمتاع هو المتاع، والناس هم الناس؟ أجبت بأن الهدف يختلف من شخص لآخر، والنظر لهذا المتاع واستخدامه يختلف من فئة لأخرى. فالذين يتعاملون مع ملاذ الحياة على أنها المبدأ والنهاية، والهدف الأول والأخير هؤلاء غارمون آثمون لأن الدنيا بملاذها لا تستحق أن ينقطع الإنسان لها، وأن يصب كل جهده ويوليها كل عنايته بعيدًا عن طاعة الله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وهل الدنيا إلا وسيلة إلى الآخرة فمن استخدمها بهذا
(1) في 15/ 8/ 1414 هـ.
(2)
سورة آل عمران الآية: 14.
الفهم وجعلها معبرًا للنعيم الدائم فقد أفلح وأنجح، ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه شمله، ويجعل فقره بين عينيه، ولم يعطه الله إلا ما كتب له.
أما الذين يستعينون بمتاع الدنيا على الطاعة، وينصرفون بها إلى الجنة ورضوان الله فهؤلاء يحققون السعادة لأنفسهم في الحياة الدنيا ويضمن لهم الله السعادة الحقة يوم القيامة، ومن كانت الآخرة همه جعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة.
إخوة الإسلام، وبدأ الله المتاع الدنيوي بالنساء لأن الفتنة بهن أشد، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح:«ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» . وتنقلب المرأة أحيانًا عدوًا للإنسان، فتلهيه عن طاعة الله، أو تدعوه إلى ما حرم الله، أو تعوقه عن الخير بكل طرقه ووسائله، ولهذا حذر المولى منها في تلك الحال فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (1).
فأما إذا كان القصد بالنساء إعفاف الفروج، وكثرة الأولاد الصالحين وكانت المرأة مثالاً للطاعة، ونموذجًا في العبادة فهذا مطلوب ومرغوب، بل ومندوب إليه، بل هو خير المتاع كما قال عليه الصلاة والسلام:«الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة، إن نظر إليها سرته، كان أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله» (2).
وفي الحديث الصحيح «وإن خير هذه الأمة كان أكثرها نساءً» (3)، وتقول
(1) سورة التغابن، الآية:14.
(2)
الحديث رواه مسلم/ ابن كثير 2/ 14.
(3)
تفسير ابن كثير 2/ 14.
عائشة رضي الله عنها: (لم يكن أحب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء إلا الخيل، وفي رواية من الخيل إلا النساء)(1).
وإذا كان هذا في النساء فحب البنين تارة يكون للتفاخر والزينة، فهو داخل في النهي والفتنة كما قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} (2). وتارة يكون لتكثير النسل، وتكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ممن يعبد الله وحده لا شريك له، ومن يسدون الثغور، وينفع الله بهم البلاد والعباد فهذا محمود ممدوح ومطلوب، كما في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم:«تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» .
ولهذا كان كل دعاء الصالحين: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (3).
إخوة الإيمان، وكما تحرصون على اختيار النساء وتربية الأولاد، فاحذروا الافتتان بهم، وقد قيل: إن في النساء فتنتين، وفي الأولاد فتنة واحدة، فأما اللتان في النساء فإحداهما تؤدي إلى قطع الرحم، لأن المرأة تأمر- أحيانًا- زوجها بقطعه عن الأمهات والأخوات، أو من ذوي القرابات بشكل عام، والثانية يبتلى بسببها بجمع المال من الحلال والحرام، وأما البنون فالفتنة معهم واحدة، وهي جمع المال لأجلهم (4).
بل قد يكون الأبناء سببًا لبخل الآباء، وجبنهم، وحزنهم، وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأشعث بن قيس: هل لك من ابنة حمزة من ولد؟ قال: نعم، لي
(1) تفسير ابن كثير 2/ 14.
(2)
سورة التغابن، الآية:15.
(3)
سورة الفر قان، الآية:74.
(4)
تفسير القرطبي 4/ 29.
منها غلام، وتوددت أن لي به جفنة من طعام أطعمها من بقي من منى جبلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لئن قلت ذلك إنهم لثمرة القلوب وقرة أعين، وإنهم مع ذلك لمجبنة مبخلة محزنة (1).
أيها المؤمنون، وحب المال لذلك تارة يكون للفخر والخيلاء، والتكبر على الضعفاء، والتجبر على الفقراء، فهذا مذموم، وتارة يكون للنفقة في القرابات، وصلة الأرحام والقرابات، ووجوه البر والطاعات، فهذا ممدوح عليه شرعًا (2).
والناس بين هذا وذاك، فالمال يرفع أقوامًا في درجات الجنان، أولئك الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم:«لا حسد إلا في اثنتين وذكر منهما رجلاً آتاه الله مالاً فهو ينفق منه آناء الليل وأطراف النهار» وتارة يستعبد الإنسان ويذله ويتعسه ويشغله، وهؤلاء هم الذين وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:«تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتفش، .. الحديث» فإياكم معاشر المسلمين أن تستعبدكم أموالكم أو تذلكم تجارتكم والحق أن ليس لكم منها إلا ما قدمتم لآخرتكم، وما عدا ذلك فهو للوارث من بعدكم، وتأملوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدد المال الحقيقي للإنسان، والمال الآخر الذي يظنه له وليس كذلك فيقول:«اعملوا أنه ليس منكم من أحد إلا مال وارثه أحب من ماله، مالك ما قدمت ومال وارثك ما أخرت» (3).
أما الخيل المسومة وهي الراعية الحسان أو ذوات الغرِّ والتحجيل فهي على ثلاثة أقسام، فإن ربطها صاحبها في سبيل الله متى احتاج إليها غزا عليها فهي
(1) تفسير القرطبي 4/ 29، 30.
(2)
تفسير ابن كثير 2/ 15.
(3)
رواه النسائي بسند صحيح، الجامع 1/ 353.
مغنم ويؤجر عليها صاحبها، وإن ربطها فخرًا ونواء لأهل الإسلام فهذه على صاحبها وزر، وإن جعلها للتعفف واقتناء نسلها، ولم ينس حق الله فهي لصاحبها ستر.
ويمكن قياس غيرها عليها من الدواب التي تركب وتستخدم للخير أو الشر مما يتوفر في كل زمان ومكان محببًا للنفوس.
ومثل ذلك يقال في الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم مما كانت العرب تقتنيها وتستخدمها، ولا يزال الناس يحبون هذه الأنعام ويرعونها وربما فتنت بعضهم فأبعدتهم عن الجمع والجماعات، أو قطعته عن الأرحام وذوي القرابات والأمر كذلك بالنسبة للزروع والحرث التي تعلق الناس بها في زماننا، حتى نأت بأصحابها الديار، وعمرت بسببها الصحاري والقفار، واغتنى بسببها قوم وافتقر آخرون.
وعلى كل حال المعجزة تتحقق، والخير يصدق، وواقع الناس يؤكد ارتباطهم ومحبتهم لهذه الزينة في الحياة الدنيا، كما قال تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (1).
لكن ما الذي وراء هذه الآية، وما هو التوجيه الرباني بعدها؟ وإذا كان هذا متاع الدنيا، فما هو متاع الآخرة، يقول تعالى في الآية التي بعدها {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (2).
(1) سورة آل عمران، الآية:14.
(2)
سورة آل عمران، الآية:15.
فهذا هو المتاع الحق، وتلك هي الزينة الباقية، والبساتين تنخرط بين جوانبها وأرجائها الأنهار من أنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
أما الأزواج هناك فهي مطهرة من الدنس والخبث والأذى والحيض والنفاس وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا.
وفوق هذا وذاك فرضوان الله يحل بهم فلا يسخط عليهم أبدًا، وحيثما كانوا في النعيم فلا يتحول عنهم أبدًا. وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} (1).
(1) سورة الكهف، الآيتان: 107، 108.