الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1) فاحشة الزنا، مقدمات وروادع
(1)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن حفاظًا على الأفراد، وصيانة للمجتمعات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحل الحلال ويسره، وحرم الحرام وعظمه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله كان من أحسن الناس خلقًا، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين وعلى آله الطيبين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله معاشر المسلمين واعلموا أن من علامات التقى كف النفس عن موارد الهلكة والشهوات والشبهات.
أيها المسلمون، جاء الإسلام حريصًا بتشريعاته على سمو الأنفس وطهارتها ناهيًا عن مواطن الريب وأماكن الخنا، فبين الحلال وشرف صاحبه، ونهى عن الحرام، ووضع الحدود الزاجرة لمقارفته، {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .... } (2). أجل لقد قضت سنة الله أن الأمم لا تفنى والقوى لا تضعف وتبلى إلا حين تسقط الهمم وتستسلم الشعوب لشهواتها فتتحول أهدافها من مثل عليا وغايات نبيلة إلى شهوات دنيئة وآمال حقيرة متدنية فتصبح سوقًا رائجًا للرذائل ومناخًا لعبث العابثين، وبها ترتفع أسهم اللاهين والماجنين فلا تلبث أن تدركها السُّنة الإلهية بالهلاك والتدمير، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن
(1) في 28/ 6/ 1415 هـ.
(2)
سورة النور، الآية:19.
نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (1).
أي مسلم يرغب أن يُخَوَّن في أهله؟ ! وأي عاقل يرضى أن يكون سببًا في اختلاط الأنساب من حوله؟ ! وأي مؤمن يرضى بالخيانة والخديعة والكذب والعدوان؟ ! ومن ذا الذي يجهل عداوة الشيطان وحرصه على انتهاك الأعراض، وقتل الذرية، وإهلاك الحرث؟
تلكم معاشر المسلمين وغيرها أعراض وآفات مصاحبة لفاحشة الزنا، هذه الجريمة التي جعلها الله قرينة للشرك بالله في سفالة المنزلة وفي العقوبة والجزاء فقال تعالى:{الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (2).
ويقول في الجزاء والعقوبة وهو يقرن بين الزنا وغيره من الموبقات: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً .... الآية} (3).
ولا مقابل ذلك ربط السعادة وعلق الفلاح بخصال حميدة، منها حفظ الفروج عن الزنا فكان فيما أنزل الله:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (4) وتدل الآية على أن من قارف الزنا
(1) سورة الإسراء، الآية:16.
(2)
سورة النور، الآية:3.
(3)
سورة الفرقان، الآيتان: 68، 69.
(4)
سورة المؤمنون، الآيات: 1 - 7.
وتجاوز الحلال إلى الحرام فقد فاته الفلاح، ووقع في اللوم، واتصف بالعدوان (1).
أيها المؤمنون -وقاني الله وإياكم الفتن والشرور- وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، فهو سلعة غالية، وهو مكانة عالية، وهو طريق السعادة في الدنيا والآخرة، لكنه جهاد ونية وصبر وتضحية وضبط لزمام النفس وتعال عن الشهوات المحرمة، والإيمان بإذن الله حارس للمرء عن الوقوع في المحرمات، وهو درع يحمي صاحبه عن المهلكات، لكن الزنا- معاشر المسلمين- يخرم هذا الحزام من الأمان، ويدك هذا الحصن الحصين، وينزع هذا السربال الواقي بإذن الله إلا أن يتوب، يقول عليه الصلاة والسلام:«إن الإيمان سربال يسربله الله من يشاء فإذا زنى العبد نزع منه سربال الإيمان فإن تاب رد عليه» .
ولا يجتمع الإيمان مع الزنا، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول:«لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن .... الحديث» .
وتُحَذِّر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي تروي هذا الحديث وأمثاله، تُحَذِّر الأمة وتقول: فإياكم وإياكم (2) .....
كما جاء في رواية أخرى من روايات الحديث بيان الفرق بين الإيمان والزنا، وكرم هذا وخسة ذاك، فقد ورد:«لا يسرق السارق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني وهو مؤمن، الإيمان أكرم على الله من ذلكم» (3).
(1) خطب الفوزان.
(2)
رواه أحمد والبزار ورجال البزار رجال الصحيح (مجمع الزوائد 1/ 100).
(3)
روى هذه الزيادة البزار، وفيه إسرائيل الملائي وثقه يحيى بن معين في رواية وضعفه الناس (مجمع الزوائد 1/ 101)
وورد أيضًا عنه صلى الله عليه وسلم بهذا الخصوص قوله: «إذا زنا أحدكم خرج منه الإيمان وكان عليه كالظلة فإذا انقطع رجع إليه الإيمان» (1).
إخوة الإيمان -عصمني الله وإياكم والمسلمين من الفواحش ما ظهر منها وما بطن- وكم أذل الزنا من عزيز، وأفقر من غنى، وحط من الشرف والمروءة والإباء، عاره يهدم البيوت ويطأطئ عالي الرؤوس، يُسوِّد الوجوه البيضاء، ويخرس ألسنة البلغاء، ينزع ثوب الجاه مهما اتسع، ويخفض عالي الذكر مهما علا، إنه شين لا يقتصر تلويثه على من قارفه، بل يشين أفراد الأسرة كلها .. إنه العار الذي يطول حتى تتناقله الأجيال.
بانتشاره تضمر أبواب الحلال، ويكثر اللقطاء، وتنشأ طبقات بلا هوية طبقات شاذة تحقد على المجتمع وتحمل بذور الشر- إلا أن يشاء الله- وحينها يعم الفساد ويتعرض المجتمع للسقوط.
أيها العقلاء فكروا قليلاً في الصدور قبل الورود، وتحسبوا لمستقبل الأيام، وعوادي الزمن قبل الوقوع في المحظور، واخشوا خيانة الغير بمحارمكم إذا استسهلتم الخيانة بمحارم غيركم، وكم هي حكمة معلِّمة تلك الكلمات التي قالها الأب لابنه حين اعتدى في غربته على امرأة عفيفة بلمسة خفيفة، فاعتدى في مقابل ذلك (السَّقاء) على أخته بمثلها وحينها قال الأب المعلم لابنه:«يا بني دقة بدقة ولو زدت لزاد السقا» . وإياكم إياكم أن تلوثوا سمعتكم وفيما قسم الله لكم من الحلال غنية عن الحرام.
وتصوروا حين تراودكم أنفسكم الأمارة بالسوء أو يراودكم شياطين الجن
(1) الحديث رواه أبو داود، والحاكم وصححه، شرح السنة للبغوي 1/ 90، وانظر كلام ابن حجر في الفتح 12/ 52.
والإنس للمكروه، تصوروا موقف العبد الصالح حين راودته التي هو في بيتها عن نفسه، وغلقت الأبواب وقالت هيت لك، قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون، أجل لقد رأى الصديق عليه السلام برهان ربه، وصرف الله عنه السوء والفحشاء، وعدَّه في عباده المخلصين.
وفي مثل هذه المواقع يبتلى الإيمان، وفي مثل هذه المواقف يمتحن الرجال والنساء، وفي مثل هذه المواطن تبدو آثار الرقابة للرحمن، وهل تتصور يا عبد الله أنك بمعزل عن الله مهما كانت الحجب، وأيًّا كان الستار؟ كلا، فالله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو الذي يعلم السر وأخفى، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (1).
إذا ما خلوت الدَّهرَ يومًا فلا
تقل خلَوتُ ولكن عليَّ رقيبُ
إخوة الإسلام، ومُستَحِلُّ الزنا في الإسلام كافر خارج من الدين، والواقع فيه من غير استحلال فاسق أثيم، يرجم إن كان محصنًا، ويجلد ويغرب إن كان غير محصن (2).
لا ينبغي أن يدخل فيه الوساطة والشفاعة، وينهى المسلمون أن تأخذهم في العقوبة الرأفة والرحمة، وأمر المولى جل جلاله أن يقام الحد بمشهد عام يحضره طائفة من المؤمنين ليكون أوجع وأوقع في نفوس الفاعلين والمشاهدين. قال تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (3).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه
…
(1) سورة الملك، الآية:14.
(2)
ابن حميد توجيهات وذكرى 1/ 125.
(3)
سورة النور، الآية:2.