الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، خلق الإنسان من نطفةٍ فإذا هو خصيمٌ مبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يهدي من يشاء ويضل من يشاء ومن يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أخبر أن ربك يعجب من شاب ليس له صبوة (1).
وأن أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: شابٌ نشأ في طاعة الله (2).
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين ..
فبين يدي الحديث عن انحرافات الشباب، أو نماذج من سلوكياتهم الخاطئة .. لابد من القول إن هناك العديد من الشباب في هذه البلاد- حرسها الله- وفقهم الله لالتزام الطريق المستقيم، فعرفوا حقَّ الله عليهم، وأدركوا قيمة الوقت في حياتهم، واعترفوا بالشكر لكل من أسدى إليهم معروفًا، فحياتهم سعيدة وقلوبهم مطمئنة، ونسأل الله أن يثبتنا وإياهم والمسلمين على الحقِّ حتى الموت ..
وثمة طائفة أخرى بدأت تفيق من سبات نومها، وتتلمس الطريق المنقذ لها والآمن في حياتها، وتلك أدركت، بعد لأي، أن لا سعادة في الحياة الدنيا بعيدًا عن هدى الله .. ولا نجاة من عذاب الله إلا بسلوك صراط الله المستقيم .. وتلك الطائفة نسأل الله أن يبلغها مأمولها وأن يسدد في طريق الخير خطاها.
(1) رواه أحمد.
(2)
متفق عليه.
أما الفئة الثالثة فهي التي لا تزال واقعةً تحت تأثير طيش الشباب وغروره، لا تكاد تبلغها الدعوة- وإن سمعتها فكأنما على مضض تسمع، وربما خيل لها أن المخاطب بالحديث غيرها .. هذه الفئة يؤنبها الضمير حينًا فتفكر في الإقلاع عما هي فيه من بؤس وشقاء .. ولكن سرعان ما يغلبها الهوى وترتكس في حمأة الخطيئة، وتخادع نفسها بتنفس أجواء الحرية المزعومة .. وتظن أنها تتقلب في نعيم الشهوة ولو ساعة .. ثم تتكشف لها الحقائق بعد حين فإذا بها أسيرةٌ لعبودية الشهوة .. وتظل تتجرع مرارة المعصية أيامًا طويلة وربما لم تفق إلا على سياط الجلادين .. وضمن مجموعة المساجين، أَوَهكذا يُذلِّ الإنسان نفسه ويرضى بالعبودية والأسر، بعد الحرية والعافية؟
أيها الشاب، ومن الجهل ألا تكتشف المشكلة إلا إذا وقعت الواقعة وانتشرت الفضيحة، وينبغي أن تعلم أنك وإن ستر الله عليك في هذه الحياة، فسيفضحك- إن لم تتب- على رؤوس الأشهاد- بعد الممات.
ولابد أن تدرك أن السجن ليس مقصورًا على السجن الحسي المعروف، فثمةَ نوعٌ من السجن لاشك أنك تحس به أكثر من غيرك، إنه سجن الشهوة، وألم المعصية، وأسر الهوى .. فالمحبوس حقًا من حُبس عن خالقه فلا يتلذذ له بعبودية، ولا ينعم له بمناجاة، والمأسور من أسره هواه .. فهو يقوده إلى كلِّ هاوية ويقعد به عن أخلاق الإسلام العالية.
- أيها الشباب المصرُّ على السفاهة والغرور- وفي ظلِّ تشخيصي لمشكلتك .. كأني أراك غالب وقتك مهمومًا مغمومًا، قلقًا حائرًا .. تضيق بك الدنيا على سعتها .. وتكره الناس وهم يحبونك، ويظل الشيطان يلقي في روعك من الوساوس والأوهام ما ليس له في الواقع حقيقة ولا مقام؟
- أراك تتهرب من رؤية الوالدين .. وتخاف كثيرًا من المتدينين، وتأنس
بالقرب من العابثين
…
ويطيب لك حديث البطاطين، تنام عن الصلوات، وتتساهل بالواجبات، وتكثر من السفر للخارج، وتبالغ في الرحلات، - وكم نظرت إليك بأسى ورحمة وأنت تتسكع في الشوارع وتتخذ لك من الطرقات مجلسًا .. ومن الخطوط الدائرية مربعًا تقضي بها الساعات الطوال .. لا أنت في شغل من الدنيا فتحمد، ولا أنت في عملٍ للآخرة فتُغبط، تؤذي هذا، وتزعج ذاك، وتعتدي على حرمات ثالث، ثم تعود في الهزيع الأخير من الليل .. وقد حملت نفسك من الأوزار ما تنوء به .. وربما رجعت وأنت على خلاف وبغض مع أقرب الأصحاب إليك .. ، فإذا البيت الملتزم والصابر على لأوائك وسفهك ينتظرك بالكلمات الغاضبة نصحًا لك وشفقة عليك .. وربما أصابتك دعوة من أحد والديك .. وافقت ساعة استجابة فكانت سببًا لشقوتك إلى يوم الدين .. وهل تلوم الوالدين إذا فعلا معك المستحيل ثم لم يبق كما من سلاح إلا الدعاء .. فاظفر منهما بالدعاء الجميل قبل أن يسخطا عليك ويرسلا عليك سياط العذاب عبر الدعاء .. ودعاء الوالدين لا حجاب بينه وبين السماء؟
أيها الشاب والشابة، وكم من مؤلم لكما وللأمة من ورائكما أن تضيعا أوقاتكما بمشاهدة الأفلام الساقطة، والمسلسلات الهابطة، وتُديما النظر في الصور الخليعة، وتتخذا من المجلات الهابطة وسيلةً لتزجية الفراغ، وتتيحا لأسماعكما سماع الخنا والغناء والقول الساقط وكلام الزور، ويتعاظم الخطب إن بلغت بك هذه الوسائل المنحرفة مبلغها، فأردتك صريع الشهوة، فتجاسرت على حدود الله، واستحللت ما حرم الله من الزنا واللواط، وانتهكت محارم الآخرين، وأنت لا ترضى ذلك لأمك وأختك، ولا ترضينه لأبيك وأخيك إن كان بكما غيرة وشهامة وكذلك أظنكما؟
فإن تطور الأمر إلى تعاطي المخدرات وشرب المسكرات فتلك الطامة
الكبرى وتلك المأساة التي يراهن عليها الأعداء .. وليس على لبيب جُرم أمِّ الخبائث يخفى؟
يا أخا الإسلام، وفي ظلِّ حرب العقائد المعلنة، وصراع الحضارات الحقيقية والمصطنعة، فمن العار عليك أيها الشاب أن تخذل أمتك بتقليد أعدائك في هيأتك أو ملبسك، أو طريق تفكيرك، أو أسلوب حياتك أو التشكك في معتقدك الحق، ومن خوارم المروءة أن تتشبه بالنساء، وأن يكون قدوتك سواقط الفنانين والفنانات، ومثلك يأبي أن يستنوق الجمل؟ ومن العار أختي الشابة أن تطيري مع كلِّ موضة، وأن تُغرمي بالتقليد لكل ناعق وناعقة .. وفي عصر عودة الحجاب إياك أن تنخدعي بدعايات السفور أو أن تسمعي للمنافقات المستهترات بالحجاب؟
وفي زمنٍ أفلست فيه تجربة الاختلاط، وعادت مجالس الأمة تصوت بأغلبية ساحقة على قرار منع الاختلاط في التعليم .. فإياك أن تسمعي للأصوات المخدوعة التي تطرح بوضوح أو بأسلوب ملفوف الحاجة للاختلاط، ولو في الصفوف الدنيا من التعليم .. فإذا ابتدأ المرض في أسفل الجسم أو في طوف منه، لحق بأعلاه وشمله كله .. والوقاية خيرٌ من العلاج .. والبداية من حيث انتهى الآخرون دليل العقل والحكمة .. والدخول في النفق المظلم أو محاكاة التجربة الفاشلة نوعٌ من الجهل والتبعية والرغبة في محاكاة الآخرين لا أكثر.
وفي الختام .. عذرًا أيها الشباب ذكرانًا وإناثًا إن لم أستطع التشخيص لكلِّ أدوائكم، أو قصرت في تشخيص حل مشكلاتكم، فليست محاكمًا، هدفي تتبع عوراتكم، ولا مشهَّرًا، أبغي الوقوف على كلِّ سقطاتكم، وإنما أنا لكم ناصحٌ وعليكم مشفق، واللبيب بالإشارة يفهم، ومن تذكر فإنما يتذكر لنفسه .. ومن ضلَّ فإنما يضل عليها .. فإن قلتم وما بالك شخصت الداء أو بعضه- ولم
تبيِّن شيئًا من أسبابه وطرق علاجه، وما القنوات المسؤولة عن استصلاح الشباب؟ وهل ترى المشكلة ستبدأ وتنتهي بنا أم هناك من جزءًا من مسؤولياتنا.
أجبتكم أن ذلك لأهميته يحتاج مني لحديث خاصٍ أرجو من الله العون عليه في الجمعة القادمة بإذن الله.
سددكم الله ورعاكم .. وهدانا وإياكم للحقِّ وجنبنا الشرور ومزالق الردى هذا وصلوا ..