الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا طاهرًا مباركًا كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله قدوة الصابرين، وإمام المجاهدين، وخير البرية أجمعين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين، وعلى آله المؤمنين ومن تبعهم إلى يوم الدين.
أيها المسلمون، ويرد السؤال: ما هي حقيقة الصبر؟ ومتى ومَن يحتاج إليه؟ وقد قيل: الصبر ثباتُ باعثِ العقلِ والدينِ في مقابلةِ باعث الهوى والشهوة) (1).
وهذا يعني أن الصبر ناتجٌ عن العقل والدين، وأنَّ الجزعَ والخور سائقهما الهوى والشهوة.
سُئل الجنيدُ عن الصبر فقال: (تجرع المرارة من غير تعبس)(2).
هو باختصار كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله: خُلقٌ فاضلٌ من أخلاق النفس يُمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل (3).
الصبر سيد الأخلاق، وبه ترتبط مقامات الدين، فما من خلق فاضل إلا ويمر بقنطرة من الصبر، وإن تحول إلى اسم آخر، فإن كان صبرًا عن شهوة فرجٍ محرمةٍ سُميَ عِفةً، وإن كان عن فضولِ عيشٍ سُمي زُهدًا، وإن كان عن دواعي غضبٍ سُميَ حلمًا، وإن كان صبرًا عن دواعي الفرار والهرب سُميَ شجاعة،
(1) عدة الصابرين/ 25.
(2)
السابق/ 21.
(3)
السابق/ 21.
وإن كان عن دواعي الانتقام سُميَ عفوًا، وإن كان عن إجابة داعي الإمساك والبخل سُميَ جُودًا .. وهكذا بقية الأخلاق فله عند كلِّ فعلٍ وتركٍ اسمٌ يخصه بحسب متعلقه، والاسم الجامع لذلك كلَّه (الصبر) فأكرِمْ به من خلق وما أوسع معناه، وأعظم حقيقته (1).
والصبر ملازم للإنسان في حياته كلِّها وفي حال فعل الطاعات أو ترك المعاصي، وحين نزول البلاء.
قال السعدي يرحمه الله؟ فالصبر هو المعونة العظيمة على كلِّ أمر، فلا سبيل لغير الصابر أن يدرك مطلوبه، وخصوصًا الطاعات الشاقة المستمرة، فإنها مفتقرة أشد الافتقار إلى تحمل الصبر وتقع المرارة الشاقة، وكذلك المعصية التي تشتدُّ دواعي النفس ونوازعها إليها وهي في محلِّ قدرة العبد، وكذلك البلاء الشاق خصوصًا إن استمر فهذا تضعف معه القوى النفسانية والجسديةُ ويوجد مقتضاها وهو التسخط إن لم يقاومها صاحبها بالصبر لله والتوكل عليه (2) ..
أيها المسلمون، ويظنُّ الناس أن الصبر يُحتاج إليه في وقت الضراءِ فحسب، والعارفون يرون الصبر في حال السراء أشد، قال بعض السلف:(البلاء يصبر عليه المؤمن والكافر، ولا يصبر على العافية إلا الصديقون)، وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه:(ابتلينا بالضراءِ فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر)(3).
ويقول ابن القيم رحمه الله: وإنما كان الصبر على السراء شديدًا لأنه مقرونٌ بالقدرة، والجائع عند غيبة الطعام أقدر منه على الصبر عند حضوره (4) ..
(1) عدة الصابرين/ 27، 28.
(2)
تفسير كلام المنان 1/ 176.
(3)
أخرجه الترمذي وحسنه 4/ 2464. عدة الصابرين/ 98.
(4)
عدة الصابرين/ 99.
والصبر في حال السراء والضراء يرشدك إلى اقتران الصبر والشكر وحاجتك إلى كليهما، قال بعض الأئمة:(الصبر يستلزم الشكر، لا يتم إلا به، وبالعكس، فمتى ذهب أحدهما ذهب الآخر، فمن كان في نعمةٍ ففرضه الشكر والصبر، أما الشكر فواضح، وأما الصبرُ فعن المعصية، ومن كان في بلية ففرضه الصبر والشكر، أما الصبر فواضحٍ، وأما الشكر فالقيام بحقِّ الله عليه في تلك البلية فإنَّ لله على العبد عبوديةً في البلاء، كما له عبوديةً في النعماء)(1).
يا أخا الإسلام، وإذا علمت أنك محتاج للصبر في حال السراء والضراء، وفي حال النعمة أو البلِّية، فاعلم كذلك أنك محتاج للصبر قبل العمل وأثناء العمل، وبعده، فإن قلت وكيف ذلك؟ أُجبتَ: بأن حاجتك للصبر قبل الشروع في العمل تكون بتصحيح النية والإخلاص وتجنب دواعي الرياء والسمعة وعقد العزم على توفية المأمورية حقَّها، أما الصبر حال العمل فيلازم العبد الصبر عن دواعي التقصير والتفريط فيه، ويلازم الصبر على استصحاب ذكر النية وعلى حضور القلب بين يدي المعبود، أما الصبر بعد الفراغ من العمل فذلك بتصبير نفسه عن الإتيان بما يبطل عمله، وعلى عدم العُجب بما عمل والتكبر والتعظم بها فإن هذا أضرُّ عليه من كثير من المعاصي الظاهرة، وأن يصبر كذلك على عدم نقلها من ديوان السرِّ إلى ديوان العلانية، فإنَّ العبد يعمل العمل سرًا بينه وبين الله سبحانه فيكتب في ديوان السرِّ، فإن تحدث به نُقل إلى ديوان العلانية فلا يظنُّ أن بساط الصبر انطوى بالفراغ من العمل.
وهذا تقرير نفيس فافهمه واحرص عليه (2).
(1) ابن حجر: فتح الباري 11/ 205.
(2)
عدة الصابرين/ 100، 101.
وبعد يا إخوة الإسلام، فالحاجة ماسةٌ للصبر في كلِّ أحوالنا، وكذلك ينبغي أن نستصحب هذه العبادة في كلِّ شأن من شؤون حياتنا.
فالصبر سلوتنا على الطاعة لله إخلاصًا ومتابعةً وديمومةً وحفظًا.
والصبر عدتنا عن مقارفة المعاصي ومغالبة الشهوة والهوى، والرضى بأقدار الله المؤلمة حين تفجعنا، وما أحوجنا للصبر في تعلم العلم وتعليمه، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله بالحسنى.
والصبر رفيق الدربِّ حين تُظلم الدنيا في وجوهنا فيفتح الله به علينا ما لم يكن في حسباننا، نحتاج للصبر حين يَظلمُ القريب ويجور البعيد، ونحتاج للصبر في الثبات على الحقِّ المجردِ من كلِّ قوةٍ إلا قوة الجبَّار جل جلاله، والخالي من كلِّ منحةٍ إلا منح الرحمن يوم القيامة، ونحتاج للصبر في عدم الاغترار بالباطل إذا دُعم بالمال وتكاثر حوله أشباه الرجال، واستشرفت له النفوس، وتطاولت له الأعناق حرصًا على مغنمٍ عاجلٍ أو خوفًا من بأسٍ ينزل، وإذا علم الله صدق النوايا، وتميز الصابرون الصادقون، وانقطعت العلائق بأسباب الأرض، وتعلقت القلوب بالله وحده، ورُجيَ النصر منه دون سواه، جاء نصر الله والفتح، وتحققت سنة الله في النصر لعباده الصابرين وفي مقدمتهم الأنبياء والمرسلون:{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (1).
هذه معاشر المسلمين بعض المفاهيم والمعاني حول الصبر، ويبقى حديثٌ عن مقامات الصبر وأعظم أنواعه، وأقسام الناس في الصبر وأفضل الصابرين، ونماذج للصبر، وآثار الصبر عاجلاً وآجلاً، والأمور المعينة على الصبر وما
(1) سورة يوسف، الآية:110.
يضاد الصبر .. ونحوها من مفاهيم أخرى أرجئ الحديث عنها للخطبة القادمة بإذن الله.
أسال الله أن يجعلني وإياكم والمسلمين من الصابرين الشاكرين، وأن يرزقنا العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وأن يجيرنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن .. هذا وصلوا
…