الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلمون بين تعظيم القرآن وهجره
(1)
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجًا، قيِّمًا، فبشر به المؤمنين وأنذر به قومًا لُدًّا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رفع بهذا القرآن أقوامًا ووضع به آخرين، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بيَّن للناس ما نُزِّل إليهم من ربهم، ولو كان كاتمًا شيئًا لكتم أمثال قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ
…
} (2).
ولكتم قصته مع الأعمى ونزول قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءهُ الأَعْمَى} (3).
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وكان بالقرآن أكثر الأنبياء تبعًا، وقد صح عنه أنه قال:«ما من الأنبياء نبي إلا أُعطيَ من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيتم وحيًا أوحاه الله إليَّ فأرجو أن أكونَ أكثرَهم تابعًا يوم القيامة» (4).
وارض اللهم عن أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
(1) في 13/ 9/ 1416 هـ.
(2)
سورة الأحزاب، الآية:37.
(3)
سورة عبس، الآيتان: 2، 1.
(4)
رواه البخاري 4981، الفتح 9/ 3.
إخوة الإيمان، ويطيب الحديث عن القرآن في كل آن، ويزكو في شهر رمضان، ففيه أُنزل، وفيه كان جبريل عليه السلام يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن (2).
ومعنى نزول القرآن في رمضان نزوله جملةً واحدةً إلى بيت العزَّة في السماء الدنيا، وإلا فقد نزل القرآن في أشهر أُخرى تثبيتًا لقلب النبي صلى الله عليه وسلم، وإفحامًا للمشركين كما قال ابن عباس، رضي الله عنهما: نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة، وكان الله يُحْدِث لنبيه ما يشاء، ولا يجيء المشركون بمثَل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه، وذلك قوله:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} (3).
أيها المسلمون، والقرآن الكريم مصدق للكتب السماوية السابقة ومهيمن عليها كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ
…
الآية} (4).
قال ابن عباس، رضي الله عنهما: المهيمن: الأمين، والقرآن أمين على كل كتابٍ قبله (5).
والقرآن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم الكبري، والباقية المتجددة ما بقيت الأيام تترى، فلقد تحدى الله به أهل الفصاحة، والبلاغة قديمًا، وما زال، ولن يزال
(1) سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71.
(2)
كما في صحيح البخاري ح 4997، الفتح 9/ 43.
(3)
سورة الفرقان، الآيتان: 32، 33.
(4)
سورة المائدة، الآية:48.
(5)
صحيح البخاري، انظر الأثر في الفتح 9/ 3.
يرغم أنوف الأعداء، وبه تحدى الله الخليقة إنسًا وجنًّا:{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (1).
وعظمة الإعجاز في القرآن أنه مؤلفٌ من جنس كلام الناس، ومؤلف من نفس الحروف التي يتخاطبون بها {الم، الر، ص، ق، كهيعص .. } ونحوها، ومع ذلك لا يستطيعون الإتيان بمثله، ولهذا انتصر ابن كثير، رحمه الله، في تفسيره لهذه الحروف المقطعة بأنها ذُكرت بيانًا لإعجاز القرآن، وقال: ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلابد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن، وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء في تسع وعشرين سورة مثل:{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} (2).
أيها المؤمنون، وإذا كان اعتراف المشركين قديمًا بعظمة القرآن وإعجازه مشهورًا ومعروفًا، فأكتفي بسوق نموذج لاعتراف المشركين حديثًا بعظمة هذا القرآن، فإن فرنسا قامت في سبيل القضاء على القرآن في نفوس شباب الجزائر بانتقاء عشر فتيات مسلمات جزائريات، أدخلتهن الحكومةُ الفرنسيةُ في المدارس الفرنسية، وألبستهن الثياب الفرنسية، ولقنتهنَّ اللغة الفرنسية، والثقافة الفرنسية، فأصبحن كالفرنسيات تمامًا، وبعد أحد عشر عامًا من الجهود هيأت لها حفلة تخرُج، دُعي لها الوزراء والمفكرون والصحفيون، ولما ابتدأت الحفلة فوجئ الجميع بالفتيات الجزائريات يدخلن بلباسهن الإسلامي الجزائري ..
فثارت ثائرة الصحف الفرنسية وتساءلت: ماذا فعلت فرنسا في الجزائر إذن بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عامًا؟
(1) سورة الإسراء، الآية:88.
(2)
تفسير ابن كثير للبقرة 1/ 59.
وحينها أجاب (لاكوست) وزير المستعمرات الفرنسي بقوله: وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا؟ (1).
أيها المسلمون، وينبغي أن تسري عظمة القرآن في نفوسنا، وأن تلين له جلودنا، بعد أن تخشع له قلوبنا، تلكم هداية القرآن:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (2). والقرآن يهدي لأقوم الطرق وأوضح السبل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (3).
يقول علي، رضي الله عنه في وصف القرآن:(اعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدِّث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحدٌ إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى ونقصان من عمى، واعلموا أنه ليس على أحدٍ بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد بعد القرآن من غنى، فاستشفوا به من أدوائكم، واستيعنوا به على لأوائكم، فإن فيه الشفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق، والغي والضلال، واعلموا أنه شافعٌ ومشَفعٌ، وقائلٌ ومصدَّق، وإنه من شفع له القرآن يوم القيامة شُفِّع فيه، فإنه ينادي منادي يوم القيامة: ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله، غير حرثة القرآن، فكونوا من حرثته وأتباعه، واستدلوا على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم، واستغشوا فيه أهواءكم)(4).
(1) قادة الغرب يقولون
…
جلال العالم/ 50، 51.
(2)
سورة الزمر، الآية:23.
(3)
سورة الإسراء، الآية:9.
(4)
عن مقدمة كتاب أحكام القرآن، الكيا الهراس 1/ 6.
يا أمة القرآن، كم يوقظ القرآن ضمائرنا ولا تستيقظ، وكم يحذرنا ونظل نلهو ونلعب، وكم يبشرنا وكأن المبشَّر غيرنا، وكم تعيينا الأموال والعلل ولو استشفينا بالقرآن لشفانا الله به حسًّا ومعنى، وصدق الله:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلَاّ خَسَاراً} (1).
فهو يُذهب ما في القلوب من أمراض الشك والنفاق، والشرك والزيغ، وبه يحصل الإيمان والحكمة، وليس هذا إلا لمن آمن بالقرآن وصدقة واتبعه، وهذا شفاء القرآن المعنوي، أما شفاؤه الحسي فتؤكده ولاية البخاري عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال:(انطلق نفرٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلُدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء، لا ينفعه شيء، فقال: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا، لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لُدغ وسعينا له بكل شيء، لا ينفعه، فهل عند أحدكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله، إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً، فصالحوهم على قطيع من الغنم [وفي رواية: فأمر لنا بثلاثين شاة، وسقانا لبنًا) فانطلق يتفل عليه ويقرأ (الحمد لله رب العالمين) فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمضي وما به قَلَبة، قال: فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له، فقال: وما يُدريك أنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتم، اقسموا، واضربوا لي معكم سهمًا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم (2).
(1) سورة الإسراء، الآية:83.
(2)
البخاري: الإجارة 2276، وفضائل الصحابة 5007، الفتح 4/ 453، 9/ 54، قال ابن حجر: وفي الحديث جواز الرقية بكتاب الله، ويلحق به ما كان بالذكر والدعاء المأثور.
أيها المؤمنون، ويشهد القرآن بتعظيم من في السموات ومن في الأرض لله بأنسه، وملائكته، وشموسه، وجباله، وشجره، ودوابه، ويخرون لله سجدًا:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (1).
وهذه الجن تستجيب لنداء القرآن، ويؤمنون بالإسلام، ويسمعون محمدًا عليه الصلاة والسلام:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} (2).
وملائكة السماء تدنو لتسمع صوت القارئ للقرآن كما في قصة أسيد بن حضير، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له:«تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم» (4).
وعن ابن مسعود، رضي الله عنه، نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفًا من
(1) سورة الحج، الآية:18.
(2)
سورة الجن: الآيتان: 1، 2.
(3)
سورة الأحقاف الآيات: 29 - 32
(4)
رواه البخاري 5018، الفتح 9/ 63.
الملائكة (1) وعن جابر، رضي الله عنه، لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق (2).
فهل نعظم هذا الكتاب الذي عظمه الله، وعظمته ملائكته، واستجاب له إنسه وجنه؟ وهل نزداد له تلاوةً وتدبرًا في شهر نزوله؟ وهل نحافظ على الصلة به علمًا وعملاً، ولا نكون في عداد من هجره كما قال تعالى:{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} (3).
(1) تفسير ابن كثير 3/ 233.
(2)
رواه الحاكم بسنده وقال: صحيح على شرط مسلم. (المستدرك 2/ 314).
(3)
سورة الفرقان، الآية:30.