الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محاسبة بين المتحانين
(1)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، كتب الفناء على هذه الدار، ومن عليها من الحياة والأحياء:{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} (2) وكتب الخلود في دار القرار: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (3).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (4).
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، لو كان أحد جديرًا بالبقاء لبقي فيها حيًا مخلدًا، ولكن الحكمة اقتضت:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (5).
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله المؤمنين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا
…
أما بعد.
فاتقوا الله، معاشر المسلمين، وتذكروا على الدوام ما ينتظركم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ
(1) في 21/ 1/ 1417 هـ.
(2)
سورة مريم، الآية:40.
(3)
سورة العنكبوت، الآية:64.
(4)
سورة القصص، الآية:88.
(5)
سورة الأنبياء، الآيتان: 34، 35.
مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (1).
أيها المسلمون، وتظل مساحة الغفلة عند كثير من المسلمين أكبر من مساحة اليقظة، رغم النوازل والنُّذر، وكفى بالقرآن واعظًا، وكفى بالقرآن على أعمال العباد حكمًا.
ولئن تحدث القرآن، وأزرى بغفلة الكافرين واستهزائهم فكيف تسوغ الغفلة عند المسلمين، وهم يؤمنون بقوله تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (3).
حاسبوا أنفسكم، معاشر المسلمين، على الدوام، قبل أن تحاسبوا، - وزنوها قبل أن توزنوا
…
وتأمَّلوا في تتابع الليل والنهار، وتسارع الأيام والشهور والأعوام، واعلموا أن ذلك من أعماركم، وهي فرصٌ للتأمل والنجوى مع أنفسكم، إن لم تذكر بها الأيام والشهور
…
فما أقل من ضرورة التذكر في انصرام عام ومجيء عام .. فمن أحسن ووفَّى فيما مضى فليستمر في الحسنى فيما يستقبل، ومن فرَّط أو سها فالفرصة لا تزال معه إذا ندم على ما مضى،
(1) سورة الحج، الآيتان: 1، 2.
(2)
سورة الأنبياء، الآيات: 1 - 4.
(3)
سورة المؤمنون، الآية:115.
وعقد العزم على الجد فيما بقي، وربك أعلم بالمنتهى.
وإذا كانت الغفل داءً واقعًا، فدواؤها باليقظة والتذكُّر، وتلك من علامات التُّقى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (1).
وإذا كان نزغ الشيطان واردًا فالاستعاذة بالله خير عاصم {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (2).
والانتفاع بالذكرى- حين تسيطر الغفلة أو يغلب الهوى- من علامات الخشية، ومجانبتها دليل الشقوة {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} (3).
وكذلك ينتفع المؤمنون بالذكرى {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (4).
أيها المؤمنون، ولئن كانت أسباب الغفلة كثيرة فإن من بينها طولي الأمل في هذه الحياة الدنيا، فتلك الآفة التي حذَّرنا القرآن منها:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (5).
واتخاذ الدين لهوًا ولعبًا، وغرور الحياة الدنيا .. سبب آخر من أسباب الغفلة في الدنيا، ومُوردٌ للهلكة في الأخرى {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ
(1) سورة الأعراف، الآية:201.
(2)
سورة فصلت، الآية:36.
(3)
سورة الأعلى، الآيات: 9 - 12.
(4)
سورة الذاريات، الآية:55.
(5)
سورة الحديد، الآية:16.
الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (1).
عباد الله، لماذا نكره لقاء الله؟ لأننا لم نقدره حق قدره .. ولماذا نكره الموت؟ لأننا لم نستعد لما بعده ..
رحم الله أقوامًا خافوا فأدلجوا، وعاشوا للآخرة فلم تفتنهم الدنيا.
قدم- يومًا- ضرار بن ضَمرة على معاوية، رضي الله عنه، فقال له: صِف لي عليًّا، رضي الله عنه، قال: أوَ تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: بل تصفه لي، قال: أما إذا لابد، فإنه، والله كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل وظلمته، كان، والله، غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، كان، والله، كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويبتدينا إذا أتيناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن، والله، مع تقريبه لنا، وقربه منا، لا نكلِّمه هيبة، ولا نبتديه لعظمته، فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القويُّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لرأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مَثُل في محرابه قابضًا على لحيته، يتململ تململ السليم- يعني المريض- ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه، وهو يقول: يا دنيا يا دنيا، أبي تعرضتِ؟ أم لي تشوَّقتِ، هيهات هيهات، غِرّي غيري، قد بتتكِ ثلاثًا، لا رجعة لي فيكِ، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آهٍ من قلَّة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق.
(1) سورة الأعراف، الآية:51.
قال: فذرفت دموع معاوية- رضي الله عنه فما يملكها، وهو ينشفها بكمَّه، وقد اختنق القوم بالبكاء، ثم قال معاوية: رحم الله أبا الحسن، كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن مَن ذُبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبرتها، ولا تسكن حسرتها) (1).
ومع استعدادهم وزهدهم وعدلهم فقد كان خوف الله حتى الممات ملازمًا لهم.
عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين حضرته الوفاة، قال له المغيرة بن شعبة: هنيئًا لك يا أمير المؤمنين الجنة، فقال:(يا بن أم المغيرة! وما يدريك؟ والذي نفسي بيده لو كان لي ما بين المشرق والمغرب لافتديت به من هول المطلع)(2).
كانوا ينظرون إلى الدنيا وما فيها على أنها فيءٌ زائل، وإلى الآخرة على أنها المستودع الباقي، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، واسمعوا إلى أحدهم، وهو يصف الدارين، يقول شداد بن أوس رضي الله عنه:(إنكم لن تروا من الخير إلا أسبابه، ولن تروا من الشر إلا أسبابه، الخير كله بحذافيره في الجنة، والشر بحذافيره في النار، وإن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، والآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قاهر، ولكلٍ بنون فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا)(3).
(1) الإصابة لابن حجر، غذاء الألباب السفاريني 2/ 554، قل هو نبأ عظيم/ 81.
(2)
وصايا العلماء للحافظ الربعي ص 47 عن: قل هو نبأ عظيم، الجليل/ 80.
(3)
سير أعلام النبلاء 2/ 466 وباختلاف يسير، وهو في الحلية أو فى من هذا 1/ 264، وانظر: قل هو النبأ العظيم/ 86.
أيها المسلمون، ومن أعظم الأسباب الجالبة لليقظة والمبعدة للغفلة أن يتخيل المرء مشاهد القيامة، وهو بعدُ في الدنيا، ويتصور منازل الأبرار، وما أعدَّ الله لهم من الحسنى، ومنازل الفجار، وسوء حالهم، وتلك، وربي، لا يتمالك المتقون أنفسهم حيالها من البكاء.
عن سوار أبي عبيدة قال: قالت لي امرأة عطاء السليمي: عاتبْ عطاءً في كثرة البكاء، فعاتبته فقال لي:(يا سوار، كيف تعاتبني في شيء ليس هو إلي؟ إني ذكرت أهل النار، وما ينزل بهم من عذاب الله تمثلت لي نفسي بهم، فكيف بنفس تُغلّ يدها إلى عنقها، وتسحب إلى النار، ألا تصيح وتبكي؟ وكيف بنفس تُعذَّب، ألا تبكي؟ ويحك يا سوار، ما أقلَّ غناء البكاء عن أهله إن لم يرحمهم الله! قال: فسكتُّ عنه)(1).
أيها المسلمون، وفي سبيل محاسبة أنفسكم هاكم هذه الوصية فاعقلوها، وأنصفوا أنفسكم من خلالها، وتناصحوا بينكم. فعن سفيان بن عيينه، رحمه الله، قال: كان الرجل من السلف يلقى الأخ من إخوانه فيقول: (يا هذا، اتق الله، وإن استطعتَ ألا تسيء إلى من تحب فافعل، فقال له رجل يومًا: وهل يسيء الإنسان إنما من يحب؟ قال: نعم، نفسك أعز الأنفس عليك، فإذا عصيتَ فقد أسأتَ إلى نفسك)(2).
اللهم إنا نشهدك على محبة هؤلاء، وإن لم نلحق بهم، اللهم اسلك بنا طريقهم، واحشرنا في زمرتهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إَنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيَا
(1) صفوة الصفوة 3/ 327.
(2)
محاسبة النفس لابن أبي الدنيا ص 88 عن: قل هو نبأ عظيم ص 89.
وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1).
(1) سورة يونس، الآيات: 7 - 10.