الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كله، أيها المربون والمتربون، أيها المعلمون والمتعلمون، ويبقى السؤال المهم، ما هي حصيلة التربية المنظورة علمًا وعملاً، تربيةً وسلوكًا، فهمًا جيدًا لأحكام الدين، واستظهارًا واعيًا لعلوم ومعارف المسلمين، هل نعزو ما فينا من نقصٍ وتقصير للمنهج المقرر؟ أم للمعلم المكلف؟ أم لوسيلة التعليم؟ أم لذات الطالب المتعلم؟ أم للوقت المتاح للتعليم بإزاء الأوقات الأخرى التي تصرف لغير التعليم؟ وهل يعزى الضعف المشهود في المتعلمين إلى مؤسسات التعليم في المراحل المبكرة أم للتعليم الجامعي، كل ذلك محل دراسة التربويين، وأساتذة الجامعة المختصين
…
لكن سأعرض لكم نموذجًا لتربية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وهي محل الأسوة والقدوة- وهذا النموذج لا يعد صاحبه فيمن لازم رسول الله صلى الله عليه وسلم ملازمة طويلة، بل أسلم في نهاية الفترة المكية، وله ثماني عشرة سنة، وتوفي وهو ابن ثمان وعشرين وقيل ابن اثنتين وثلاثين- وقيل أكثر من ذلك- (1).
ومع قصر هذه المدة فقد حاز علمًا كثيرًا، ونال فضلاً عظيمًا، وهو أعلم الناس بالحلال والحرام (2)، وهو محل الثقة والثناء من محمد عليه الصلاة والسلام حين يقول:(نعم الرجل أبو بكر، ونعم الرجل عمر، نعم الرجل معاذ بن جبل)(3).
(1) سير أعلام النبلاء/ 445، 460.
(2)
أخرجه أحمد وغيره بإسناد صحيح، السير، 1/ 446.
(3)
أخرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن وصححه ابن حبان وغيره، السابق 1/ 45.
ولم يكتم النبي صلى الله عليه وسلم محبته إياه فأخبره بذلك وأوصاه «يا معاذ إني لأحبك في الله» قلت- والقائل معاذ بن جبل-: وأنا والله يا رسول الله أحبك في الله، قال:«أفلا أعلمك كلمات تقولهن دبر كل صلاة؟ رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (1).
وعلى الرغم من صغر سن معاذ بن جبل رضي الله عنه فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا تحدَّثُوا وفيهم معاذ نظروا إليه هيبَةً له (2).
وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجالية فقال: (من أراد الفقه فليأت معاذ بن جبل)، وحَدَّث ابن مسعود رضي الله عنه فقال:(إن معاذ بن جبل كان أمةً قانتًا لله حنيفًا ولم يكن من المشركين)(3).
ومع هذه الخلال كلها ومع هذه الرفعة والمنزلة في الدنيا، فله نصيب وافر من المنزلة في الأخرى، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إن معاذًا يحشر يوم القيامة بين يدي العلماء برتوه» (4). فإذا كان هذا مقامه بين العلماء فلا تسأل عن مقامه من دونهم؟ ولهذا وصفه أبو نعيم فقال: معاذ بن جبل إمام الفقهاء وكنز العلماء (5). قال أحد الرواة لابن مسعود: إن إبراهيم كان أمةً قانتًا لله حنيفًا ولم يكن من المشركين، فقال ابن مسعود رضي الله عنه:(عن الأمة: معلم الخير، والقانت: المطيع، وإن معاذًا رضي الله عنه كان كذلك)(6).
(1) أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم ووافقه الذهب، 1/ 453.
(2)
السابق 1/ 453.
(3)
صححه الحاكم ووافقه الذهبي وعلق بعضه البخاري 1/ 451.
(4)
الرَّتوة: هي رمية السهم، وقيل مَدُّ البصر.
(5)
الإصابة 9/ 220.
(6)
السير 1/ 451.
أجل لقد كان معاذ رضي الله عنه أُمةً في علمه، وأُمَّةً في عمله، كان قارئًا للقرآن، قائمًا لله في الليل والناس نيام، وفي حواره مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كما في البخاري وغيره- ما يكشف ذلك- قال معاذ لأبي موسى رضي الله عنهما حين بعثا لليمن-: كيف تقرأ القرآن؟ قال أبو موسى: أقرؤه في صلاتي، وعلى راحلتي، وقائمًا وقاعدًا، أتفوقه تفوقًا، يعني شيئًا بعد شيء، ثم قال: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم فأقرأ ما كتب الله لي فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، قال الراوي: وكان معاذ فضّل على أبي موسى (1).
وكان زاهدًا ورعًا، وقد لحقه دَين فلم يبرح به غُرَماؤه حتى باع ماله وقسمه بينهم فقام ولا مال له، ثم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ليجبره، وحين قدم من اليمن ومعه رقيق لقى عمر بمكة، فقال له: ما هؤلاء؟ قال: أهدوا إلىِّ قال: ادفعهم إلى أبي بكر، فأبى، فبات فرأى (في المنام) كأنه يُجَر إلى النار وعمر يجذبه، فلما أصبح قال: يا ابن الخطاب ما أراني إلا مطيعك، إلى أن قال: فدفعهم أبو بكر إليه- لمعرفته بحاله- ثم أصبح فرآهم يصلون، قال: لمن تصلون؟ قالوا: لله، قال: فأنتم لله (2).
وكان رضي الله عنه واعظا صادقًا وناصحًا حكيمًا، فقد مرَّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم برجل، فقال: أوصوني، فجعلوا يوصونه، وكان معاذ في آخر القوم فقال: أوصني يرحمك الله، قال: قد أوصوك فلم يألوا، وإني سأجمع لك أمرك: اعلم أنه لا غنى بك عن نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك إلى الآخرة أفقر، فابدأ بنصيبك من الآخرة فإنه سيمر بك على نصيبك من الدنيا فينتظمه، ثم يزول معك أينما زلت (3).
(1) السير 1/ 449، والصحيح مع الفتح 8/ 60، 62.
(2)
أخرجه بن سعد وأبو نعيم والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، السر 1/ 554.
(3)
أخرجه أحمد في الزهد .. السير 1/ 455.
كما كان رضي الله عنه ملاذًا للناس، شأنه كشأن العالم العامل، يفزعون إليه حين الشدة، فيسليهم، ويعلمهم أزمان وظروف الفتن والمحنة، وحين اشتدَّ الوجع بالمسلمين في طاعون عمواس صرخ الناس إلي معاذ: ادع الله أن يرفع عنا هذا الرجز، فقال: إنه ليس برجز ولكن دعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وشهادة يخص الله بها من يشاء منكم، أيها الناس أربع خلال من استطاع إلا تدركه، قالوا: ما هي؟ يأتي زمان يظهر فيه الباطل ويأتي زمان يقول الرجل: والله ما أدري ما أنا، ولا يعيش على بصيرة ولا يموت على بصيرة (1).
أيها الأحبة كيف خرجت هذه النوعية- وأمثالها كثير- كيف تعلمت، وكيف تربت، ما هي مجالات التربية التي امتازت بها، وميزت بها على الآخرين، تلك معالم تربوية تستحق الجمع والاهتمام ونماذجها قمم إيمانية صالحة للقدوة في كل زمان ومكان، وهذه وتلك تستحق أن تكون مجالاً للحديث في خطب لاحقة بإذن الله والله المستعان وعليه التُّكْلان.
(1) رواه بن سعد، السير 1/ 457.