الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فريضة الحج في أعماق الزمن
(1)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، شرع الشرائع، وسن الأديان، وأنزل الكتب، وأرسل المرسلين، والتقت الأديان السماوية في التوحيد والعبودية لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله هو أعلم بما كان وما يكون، وله الحكم في الأولى والآخرة، وهو الغفور الرحيم.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أكمل الله به الدين، وختم به الرسالات والمرسلين، وكانت بعثته إلى الناس أجمعين، حتى يوم الدين.
اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه من النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد أيها المسلمون، فاتقوا الله وراقبوه وتأملوا في حقيقة دينكم، واعبدوا الله على بصيرة، فلم يعد هناك فرصة للجهل أو للتقليد في أحكام الدين.
إخوة الإسلام، والمتأمل في فريضة الحج في أعماق الزمن يرى عجبًا ويزداد إيمانًا، ويحس بترابط الأديان، والصلة بين الأنبياء والمرسلين، على الرغم من تباعد الأزمان واختلاف الأقوام والأوطان، ويحس كذلك بأن العبادة لله عميقة الجذور قديمة التاريخ والإنسان.
وفريضة الحج- التي تقترب أيامه ونعيش الآن في أحد شهوره -نموذج لهذا
(1) 20/ 11/ 1412 هـ.
العمق وذاك الترابط، فما هو تاريخ الحج؟ وكيف بدأت فرضيته؟ وما هي أدلة وجوبه، وما الشروط المعتبرة للوجوب؟
تبدأ رحلة الحج في أعماق الزمن، منذ ضاقت الحياة بإبراهيم عليه السلام مع قومه الوثنيين الجاحدين في العراق، فرحل منها إلى فلسطين، ومعه زوجته سارة وابن أخيه لوط عليهم السلام كما قال تعالى:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1).
وأقام الخليل عليه السلام في فلسطين، ثم رحل إلى مصر وأقام فيها ما شاء الله له أن يقيم، ووقعت له هناك قصة الابتلاء لزوجته سارة من قبل ظالم مصر، الذي حالت قدرة الله دون الاعتداء على المؤمنة العفيفة، وكان ذلك سببًا في إهدائها جارية لخدمتها، ألا وهي (هاجر) ومن هاجر بدأت قصة أخرى أكثر صلة بالحج، وبناء البيت العتيق.
حيث رجع إبراهيم- عليه السلام مرة أخرى إلى فلسطين، وكانت زوجته سارة عاقرًا لا تلد، فأشارت على زوجها إبراهيم بالزواج من جاريتها (هاجر) لعل الله أن يهبه منها ولدًا، فكان، وولدت (هاجر) إسماعيل عليه السلام، كما شاء الله أن تلد (سارة) إسحاق عليه السلام، ومع البقاء، وطبيعة النساء، غارت سارة من هاجر ولم تطق رؤيتها، وصارحت إبراهيم بما تجد في نفسها فكان ذلك سببًا في هجرته بهاجر وإسماعيل إلى مكة.
وهناك في أرض لا زرع فيها ولا ماء، ولا أنيس ولا جليس ترك إبراهيم المرأة وطفلها، وهَّم بالعودة إلى فلسطين مرة أخرى فتعلقت به الأم (هاجر) وهي تقول: إلى من تكلنا ونحن في هذا الوادي المقفر الموحش؟ فقال النبي
(1) سورة العنكبوت، الآية:26.
الخليل عليه السلام: إلى الله، واستوحت المرأة أن ذلك بأمر الله، فقالت: له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا ..
وانصرف الخليل عليه السلام وصوت دعائه يجلجل في السماء: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (1).
واستجاب الله دعاء خليله عليه السلام، بعد أن عاشت هاجر وابنها إسماعيل لحظات عصيبةً أوشك الوضيع فيها على الهلاك، وكادت الوحشة وقلة الطعام والشراب أن تودي بالمرأة وطفلها، لولا فضل الله ورحمته، وهل يخيب من رجاه، وهل يضيع من تولاه- ومن هذه اللحظات الحرجة تبدأ قصة بناء البيت، وقصة سعي الناس بين الصفا والمروة، كلما حجوا أو اعتمروا، وكلما طافوا بالبيت العتيق- ومن هنا كذلك تبدأ قصة زمزم، ذلك الماء العذب الزلال والبلسم الشافي للأسقام بإذن الله.
وإليكم القصة بتمامها- كما أخرجها البخاري في صحيحه- وهي قصة جديرة بالاهتمام، وجديرة بالتذكر، كلما سعى الناس بين الصفا والمروة، وكلما شربوا من زمزم، حتى لا تكون المشاعر مجردة من الفقه والإيمان، وحتى لا يكون الحج مجرد طقوس يقلد الأحفاد فيها الأجداد، دون علم أو بصيرة أو هدى. عن سعيد بن جبير، قال ابن عباس: (أول ما اتخذ النساء المنطَقَ من قِبَل أم إسماعيل اتخذت منطقًا لتعفي أثرها عن سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها- وهي ترضعه- حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعها هناك، ووضع جرابًا فيه تمرٌ وسقاء فيه
(1) سورة إبراهيم، الآية:37.
ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بذلك؟ قال: نعم قالت: إذن لا يضيعنا. ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (1).
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى- أو قال: يتلبط- فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طوف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فلذلك سعى الناس بينهما، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه- تريد نفسها- ثم تسمعت أيضًا فقالت: قد أسمعت إن كان غواث، فإذا هي بالملَك عند موضع زمزم فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف، قال النبي صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا معينًا، قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت
(1) سورة إبراهيم، الآية:37.
مرتفعًا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم- أو أهل بيت من جرهم- مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا، فقالوا؟ إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريًا أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا- قال وأم إسماعيل عند الماء- وقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم الماء قالوا: نعم.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن العيش وهيئتهم، فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئًا فقال: هل جاءكم أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك، فطلها وتزوج منهم أخري، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاه بعد، فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله. فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قتال: فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان دعا لهم فيه، قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه.
قال: إذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل عليه السلام، قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة- وأثنت عليه- فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير. قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبيت عتبة بابك. قال: ذاك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك. ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل: إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتًا- وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها- قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له فقال عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1).
(1) سورة البقرة، الآية:127.