الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وفق الصالحين لطاعته، وملأ قلوبهم خوفًا منه ورجاءً له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يمهل ولا يهمل، وإذا أخذ فإن أخذه أليمٌ شديد:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (1). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله كان أعلم الناس بالله، وأخوفهم لله، وأتقاهم له. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
أيها المسلمون، وإذا أردتم أن تعلموا الفرق بين أمننا وخوف السلف من قبلنا، فانظروا في الفرق بين طاعتنا وطاعتهم، وانظروا كذلك في تغليب الخوف عندهم، وتغليب الرجاء عندنا.
فهذا عمر، رضي الله عنه، وهو الرجل الثاني في الإسلام بعد أبي بكر، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ومواقفه الإيمانية لا تكاد تخفى على مطلع، ويكفيه فخرًا أنه ما سلك فجًّا إلا وسلك الشيطان فجًّا آخر .. إلى آخر مناقبه العظيمة .. ومع ذلك يلازمه الخوف، ويخشى على نفسه، ليس من التقصير في الطاعات فحسب، بل ويخشى أن يكون في زمرة المنافقين الذين غيّب الرسول، صلى الله عليه وسلم، أسماءهم، وأودع سرهم عند حذيفة، رضي الله عنه، ومع ذلك يناشد حذيفةَ- صاحبَ سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: نشدتك الله يا حذيفة هل عدّني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من المنافقين؟ فيجيبه حذيفة، رضي الله عنه، لا، ولا أزكي أحدًا بعدك (2).
إيه يا بن الخطاب، إذا كنتَ وأنتَ من أنتَ إيمانًا وتقىً وجهادًا وتضحيةً
(1) سورة هود، الآية:102.
(2)
سير أعلام النبلاء 2/ 364.
وعدلاً تخشى على نفسك النفاق، فكيف يرجو النجاة أمثالُنا؟
ترجو النَّجاة ولم تسلكْ مسالكَها
…
إن السفينةَ لا تجري على اليبسِ
وهذا أبو الدرداء، رضي الله عنه، يدخل عليه جُبَير بن نُفير منزله بحمص فإذا هو قائم يصلي في مسجده، فلمّا جلس يتشهد جعل يتعوذ من النفاق، فلما انصرف قلت له: غفر الله لك يا أبا الدرداء، ما أنت والنفاق؟ قال: اللهم غفرًا- ثلاثًا- من يأمن البلاء؟ من يأمن البلاء؟ والله إن الرجل لَيُفتن في ساعة فينقلب عن دينه (1).
وأخرج البخاري- تعليقًا- عن ابن أبي مليكة، رحمه الله، قال:(أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، كلُّهم يخاف النفاق على نفسه)(2).
إذا كانت تلك نماذج لخوف المؤمنين من عباد الله الصالحين، أفلا يدعوك إلى الخوف- مما خافوا منه- وأنت وأنا في عداد المخطئين المقصرين؟
أيها المسلمون، ولم تكن ظاهرة الإرجاء في عالمنا الإسلامي لتمضي دون أن تترك لها أثرًا أو ظلاً، والمتأمّل في واقعنا يلاحظ كثيرًا من مظاهر الضعف والتخلّي عن الواجبات، ولاشك أن لظاهرة الإرجاء أثرًا عليها، فكلُّ خطأٍ يبرّر بأن رحمة الله واسعة، وكل ذنبٍ يقع يقال عنه: إن الله يغفر الذنوب جميعًا .. وهكذا حتى أثّر تناسي الخوف من الله على كثير من العبادات، ونتج عن ذلك فتور في أداء الطاعات والواجبات، وربما صاحبتها منّةٌ ومماراة، وولّد هذا الشعور المتراخي هتكًا لأستار الحلال، وولوجًا إلى منطقة الحرام، وسرى الغش في البيع والشراء، وعدد من المعاملات بين الناس، وربما أباح بعض الناس لأنفسهم الربا، ولو كان فيه حربٌ على الله ورسوله، والزنا ولو كان
(1) الجامع لشعب الإيمان للبيهقي 1/ 190.
(2)
انظر الفتح 1/ 109.
فاحشةً وساء سبيلاً، إلى غير ذلك من أنواع الفواحش التي جاءت نصوص الوعيد محذّرةً عنها.
أيها المؤمنون، ولم يسلم الخاصّة من عقابيل الإرجاء وآثاره السلبية، فضعُف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطائفة من أهل الدعوة يؤثرون العافية، ويغلبون نصوص الرجاء والوعد على نصوص الخوف والوعيد.
وتوسّع الخيرون تبعًا لغيرهم في ملاذّ الحياة الدنيا، وفتنوا بها، وربما ضنوا بزينتها والخوف من ضدها، فلم ينشطوا في قول كلمة الحق للناس، وعدم كتمانه، كما قال تعالى:{وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (1).
وتذرّع بعضهم بالهروب من الفتنة، وربما كانت الفتنة بالذي منه هربوا، واسمعوا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، وهو يصنّف الناس إلى ثلاثة أصناف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويقول:«ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن، وما يُعرض به المرء للفتنة، صار في الناس من يتعلل في الترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة»
…
إلى أن يقول:
فتدبّر هذا، فإنه مقام خطر، فإن الناس هنا ثلاثة أقسام، قسمٌ يأمرون وينهون ويقاتلون طلبًا لإزالة الفتنة التي زعموا ويكون فعلهم ذلك أعظم فتنة كالمقتتلين في الفتنة الواقعة بين الأمة، وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كلّه، وتكون كلمة الله هي العليا لئلا يُفتَنوا، وهم قد سقطوا في الفتنة
…
وهذه حال كثير من المتدينين، يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهيٍ
(1) سورة آل عمران، الآية:187.
وجهاد يكون به الدين كلّه لله، وتكون كلمة الله هي العليا لئلا يُفتَنوا بجنس الشهوات، وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فرّوا منها، وإنما الواجب عليهم القيام بالواجب، وتركُ المحظور، وهما متلازمان، وإنما تركوا ذلك لأن نفوسهم لا تطاوعهم إلا على فعلهما جميعًا، أو تركهما جميعًا مثل كثير ممن يحب الرئاسة والمال
…
إلى أن يقول:
فالواجب عليه أن ينظر في أغلب الأمرين، فإن كان المأمور أعظمَ أجرًا من ترك ذلك المحظور لم يترك ذلك لما يخاف أن يقترن به ما هو دونه من المفاسد، وإن كان ترك المحظور أعظم أجرًا لم يفوّت ذلك برجاء ثوابٍ بفعل واجبٍ يكون دون ذلك (1).
اللهم ألهمنا رشدنا، وعلِّمنا ما ينفعنا، وأنفعنا بما علَّمتنا، وارزقنا خوفك ورجاءك، وأعذنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن ..
(1) الفتاوى، 28/ 167، 168.