الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وفق من شاء لطاعته فاجتباه وهداه وأضل من شاء بحكمته وعلمه فأبعده وقلاه.
وأشهد ألا إله إلا الله العليم الخبير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي الأمين .. اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وآله، وارضَ اللهم عن أصحابه وأتباعه ومن تبعهم إلى يوم الدين.
إخوة الإسلام، راقبوا قلوبكم واحرصوا على تخليصها من أدوائها، ولتكن عنايتكم بها أشد من عنايتكم بالأجسام، فالله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
أما خسف القلب، فقد قيل أنه يخسف بالقلب كما يُخسف بالمكان وما فيه، فيخسف به إلى أسفل السافلين، وصاحبه لا يشعر، وعلامة الخسف به أنه لا يزال جوالاً حوله السفليات والقاذورات والرذائل، كما أن القلب الذي رفعه الله وقربه إليه لا يزال جوالاً حول العرش، قال بعض السلف:(إن هذه القلوب جوَّالة فمنها ما يجول حول العرش ومنها ما يجول حول الحش).
أما مسخ القلب، فهو يمسخ كما تمسخ الصورة، كما قيل فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه وأعماله وطبيعته، فمن القلوب ما تمسخ على قلب خنزير لشدة شَبَه صاحبه به، ومنها ما يمسخ على خلق كلب أو حمار أو حية أو عقرب وغير ذلك، وهذا تأويل سفيان بن عيينة في قوله:{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} (1) قال: منهم من يكون على
(1) سورة الأنعام، الآية:38.
أخلاق السباع العادية، ومنهم من يكون على أخلاق الكلاب وأخلاق الخنازير وأخلاق الحمير، ومنهم من يتطوس بثيابه كما يتطوس الطاووس في ريشه، ومنهم من يكون بليدًا كالحمار، ومنهم من يؤثر على نفسه كالديك، ومنهم من يألف ويؤلف كالحمام، ومنهم الحقود كالجمل، ومنهم الذي هو خير كله كالغنم، ومنهم أشباه الثعالب التي تروغ كروغانها.
أما نكس القلب، فهو الذي يرى صاحبه الحق باطلاً والباطل حقًا، ويصد عن سبيل الله وهو يرى أنه يدعو إليه، ويشتري الضلالة بالهدى وهو يرى أنه على الهدى، ويتبع هواه وهو يزعم أنه مطيع لمولاه، وكل هذا من عقوبات الذنوب الجارية على القلب.
أما حجب القلب عن الله، فهو حجبه في الدنيا، والحجاب الأكبر يوم القيامة كما قال تعالى:{كَلَاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (1). فمنعتهم الذنوب أن يقطعوا المسافة بينهم وبين قلوبهم، فيصلوا إليها فروا ما يصلحها ويزكيها وما يفسدها ويشقيها.
وويل لمن حجب قلبه عن الله في الدنيا فتاه في أوديتها، وغمرته بزخارفها، وألهته عن طاعة مولاه والاستعداد لما وراءه، وويل ثم ويل لمن قدم على الله وهو محجوب عنه، ومن له غير الله والأمر أمره والشفاعة كلها بيد، - اللهم لا تصدنا ولا تحجبنا بسبب ذنوبنا-.
أما الداء العضال الآخر
…
فهو: الختم على القلب، وجعل الغشاوة عليه والريبة والطبع عليه، وإغفاله عن ذكر الله، وإنساء الإنسان لنفسه، وجعل الصدر ضيقًا حرجًا كأنما يصعد في السماء، وصرف القلب عن الحق وزيادة
(1) سورة المطففين، الآيتان: 14، 15.
مرضه وانتكاسه .. فاحذر أخي المسلم من هذه الأدواء، وعالج قلبك قبل أن يستفحل الخطر، وسبحان الله فكم من قلب منكوس وصاحبه لا يشعر، وقلب ممسوخ وقلب مخسوف به، وكم من مفتون بثناء الناس عليه، ومغرور بستر الله عليه، ومستدرج بنعم الله عليه، وكل هذه عقوبات وإهانات ويظن الجاهل أنها كرامة (1).
وعليك أن تمتحن نفسك وتنظر موقع قلبك من هدى المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث يقول: «القلوب أربعة: فقلبٌ أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب مسلم، وقلب أغلف فذلك قلب كافر، وقلب منكوس فذلك قلب المنافق، وقلب تمده مادتان، مادة إيمان ومادة نفاق، وهو لما غلب عليه فيهما» .
فَلْنُدَاو قلوبنا ولنعالج أمراضنا، وإن سألتم عن سبيل العلاج لمرض القلب، فذلك ما سيكون الحديث عنه في الجمعة القادمة، بإذن الله، نسأل الله الإعانة والتسديد وصلاح القلوب والسلامة من الهوى
…
هذا وصلوا
…
(1) الداء والدواء لابن القيم ص 172 - 176.