الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الهجرة النبوية (الحدث والتاريخ)
(1)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، نصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، يحفظ أولياءه المتقين بحفظه، ويكلؤهم برعايته، ويبطل عمل المفسدين، ويجعل كيدهم في نحورهم .. وكذلك يفعل بالمجرمين.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخليله وحبيبه، في الهدى والرحمة، وأفضل البرية وأتقاها، صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله، ورضي الله عن أصحابه، وأتباعهم إنما يوم الدين.
أما بعد فاتقوا الله معاشر المسلمين، ويا فوز من كانت التقوى لباسه:{وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} (2).
أيها الإخوة المؤمنون، وكلما أقبل شهر الله المحرم من كل عام أقبلت معه ذكريات الهجرة النبوية واضحةً لكل ذي عين مبصرة، هاتفةً بكل ذي أُدُن واعية، وفيها للنائم يقظة، وللغافل لفتة، وللعاقل عبرة، وللمؤمن ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين، وهذه الذكريات المتجددة عبر آماد الزمان، وأبعاد المكان لا تني تذكرنا بأن الهجرة حدّ فاصل بين عهدين، عهد الاضطهاد وعهد البناء والجِلاد، ولكلٍّ منهما ملامح وسمات.
ولكن الحد الفاصل بينهما هجرة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة واستقرار
(1) في 18/ 2/ 1414 هـ.
(2)
سورة الأعراف، الآية:26.
المؤمنين بدار الهجرة، فكيف بدأت هذه الرحلة كيف كانت نهايتها؟ وما هي أبرز الدروس والعبر فيها؟
لقد سبقت هجرة المؤمنين، وتأخر الرسول، صلى الله عليه وسلم، حتى جاءه الإذن من ربه، وحين جاءه الإذن بالهجرة جاء إلى بيت أبي بكر، رضي الله عنه، متقنّعًا، وفي ساعة لم يكن يأتيه فيها، وذلك في نحر الظهيرة، فاستقبله أبو بكر: رضي الله عنه، وقال: فداك أبي وأمي، والله ما جاء بك في هذه الساعة إلا أمر؛ فقال له الذي، صلى الله عليه وسلم: أخرجْ مَن عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك- يعني عائشة رضي الله عنها وكان قد زوجه إياها- فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله عنه، فإنه قد أُذن لي بالهجرة، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: نعم، تقول أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، فجهزناهما أحث الجهاز، ووضعنا لهم سفرةً في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر، رضي الله عنها، قطعةً من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، وبذلك سُميت: ذات النطاقين.
قالت: ثم لحق رسوله الله، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر- وهو غلام شاب ثقِفٌ لقٌ- فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح من قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرًا يُكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة- مولى أبي بكر- منحة من غنم، فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل- وهو لبن منحتهما ورضيفهما - حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، حتى استأجرا رجلاً ماهرًا خريتًا ليصحبهما في الطريق (1).
(1) صحيح البخاري 3/ 24، 4/ 255، 5/ 43 .. وغير ذلك من المواضع.
وإن المرء ليعجب من هذه الواقف في أحداث الهجرة، فهو من جانب يعجب لتضحية أبي بكر وآل أبي بكر في سبيل خدمة الرسول، صلى الله عليه وسلم، بكل ما يملكون من المال أو الولد، والموالي كلهم يُسخَّرون لخدمة الدعوة، وكلهم يشرف بخدمة نبي الهدى والرحمة، ولكل دوره الذي يقوم به، ولا غرو في ذلك، ولا غرابة، فالصديق هو صاحب الرسول، صلى الله عليه وسلم، الأول، وهو الذي قال عنه محمد، صلى الله عليه وسلم: «لو كنتُ متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) وأبو بكر هو صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الغار، كما نزل بذلك القرآن الكريم: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا
…
} (1)، وبكل حال فما موقف أبي بكر في الهجرة إلا نموذج لمواقف الإيمان والتضحية المشهودة للصديق، رضي الله عنه وأرضاه، وحشرنا في زمرته، والصالحين من عباد الله.
ومن جانبٍ آخر، يعجب المرء أشدّ العجب، وهو يقرأ هذا الحدَث في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم
…
فلماذا يأتي الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى بيت أبي بكر وهو مخفٍ لشخصه وفي وقت لم يكن من عادته، هو، وربما غيره، أن يأتي فيه؟ ولماذا يخرج، هو وصاحبه، إلى جبال مكة الوعرة، ويختارا منها غارًا موحشًا مظلمًا؟ فيستتران فيه عن أعين الناس، ويختفيان فيه عن الطلب؟ ألهما جرم أو ذنبٌ يحاولان بسببه الانزواء عن الناس، وهما دعاة الهدى والرحمة
…
؟ وهل يجوز أن يُطَارَد الأنبياء والصديقون، ويُضطروا إلى هذه الألوان من الجهاد والصبر والتضحية؟
إنّ وراء ذلك كله كيدًا مدبَّرًا، ومكرًا ساحقًا- ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله- كشف الله خيوطه، وفضح أصحابه بقوله:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (2).
(1) سورة التوبة، الآية:40.
(2)
سورة الأنفال، الآية:30.
وحديث مؤامرة المشركين على النبي، صلى الله عليه وسلم، في الهجرة حديثٌ مؤلمٌ محزن بكل ما تحمله هذه الكلمات من معان، فهو نوع من الغدر والخيانة، وهو أسلوب من أساليب العنجهية والفظاظة، وهو جهل بحاجتهم إلى رسالة السماء، وهو خروج على المألوف في حماية القريب والذود عنه، ونسيان لحق العشيرة والقرابة.
إنه مؤلمٌ بكل المقاييس، ومُبْكِ للصغير والكبير، والقريب والبعيد، وحُقَّ لعين تتأمل الحدثَ وما فيه أن تبكيَ وتُبكي الآخرين.
وهذه فاطمة بنت محمد، صلى الله عليه وسلم، دخلت على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهي تبكي، فقال ما يُبكيكِ يا بُنَيَّة؟ قالت: يا أبتِ مالي لا أبكي، وهؤلاء الملأ من قريش في الحجر يتعاقدون باللات والعزَّى ومناة الثالثة الأخرى لو قد رأوك لقاموا إليكَ فيقتلوك، وليس فيهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك، فقال: يا بُنية ائتني بوَضوء، فتوضأ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم خرج إلى المسجد، فلمَّا رأوه قالوا: إنما هو ذا فطأطأوا رؤوسهم، وسقطت أذقانهم بين أيديهم فلم يرفعوا أبصارهم، فتناول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبضةً من تراب، فحصبهم بها، وقالت: شاهت الوجوه، فما أصاب رجلاً منهم حصاةٌ من حصيلته إلا قِتلَ يومَ بدر كافرًا (1).
إخوة الإسلام، وكما يُبكي الحدَث ويُحزن، فهو من جانبه الآخر يسلي ويسري عن المؤمنين الذي يُضطهدون ويُطارَدون عبر القرون المتلاحقة، وفوق كل أرض، وتحت كل سماء
…
فهذا قدوتهم يطارد ويلاحق، ثم هو يصبر ويصابر حتى نصره الله، وأظهر به الهدى والحق على رغم أنوف الكافرين.
(1) كما روى ذلك ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ولا أعرف له علة (انظر تفسير ابن كثير 3/ 58).
ومطاردة الكافرين، وتبييتهم النوايا السيئة لقتل النبي، صلى الله عليه وسلم، تكشفت لنا أيضًا طبيعة الطغاة والمجرمين، الذين يسوؤهم انتشار الدين، ويقلق مضاجعهم غلبة المسلمين، وكثرة سوادهم فيحاولون- كما حاول أسلافهم- إطفاء نور الله بأفواههم، ويأتي الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون، ونحن نثق بنصر الله، ونؤمن إيمانًا جازمًا أن خطط المجرمين في الماضي كما انحسرت وتلاشت فسوف تنحسر وتتلاشى خطط اللاحقين، وسوف ينصر الله دينه، ويمكن لأوليائه المتقين، كما يكشف لنا هذا التبييت لحزب الله المؤمنين عبر القرون عن طبيعة الغل والحقد في قلوب الجرمين، وهم يحاولون قتل الدعاة أو نفيهم من الأرض، أو التضييق عليهم في معاشهم ومسكنهم، وهو تشابه يوحي بتشابه العقول حين تشذ في أسلوب التعامل مع الأحداث والأشخاص، فما كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، يومًا من الدهر سببًا في عنت قريش، بل نالهم من بركاته ما كان سببًا في حل مشكلاتهم قبل بعثته، وبعد بعثته ما كان، صلى الله عليه وسلم، سببًا وليس الدعاة والمصلحون من بعده سببًا من أسباب تخلُّف الأمة في سياستها واقتصادها ووعيها حتى يستحقوا المطاردة والأذى، وكما لم تحصل قريش من وراء إخراج الرسول، صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين إلا الخزي والذل والعار، وهم أهل البيت وسدنته والمقدَّمون على العرب شرفًا ونسبًا، في الوقت الذي بدأ تاريخ المدينة يُكتب، وبدأ ذكر الأنصار يشتهر حين استقبلت الرسول وصحبه، واحتضنت الدعوة والدعاة معه.
فلن يحصل لمن آذى الدعاة الصادقين، وضيق على الدعوة والمحتسبين إلا كما حصل لأسلافهم، وأحداث التاريخ دائمًا تقول: إن العاقبة للمتقين، وأن النصر مع الصبر، وأن الغلبة للحق وأهله ولو بعد حين، ومصيبتنا حين لا نقرأ التاريخ، أو لا نستفيد من دروس الغابرين.
والله يدعونا جميعًا للتأمل في أخبار الماضين ويقول: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (1) لكن بشرط أن يستوفيَ المسلمون أسباب النصر، ويكونوا أهلاً للتمكين كما قال تعالى:{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (2).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
(1) سورة الأنعام، الآية:11.
(2)
سورة الحج، الآيتان: 40، 41.