الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غرور الأماني وظاهرة الإرجاء
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الآل والأصحاب أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
فأما بعد، فأوصي نفسي وإياكم بوصية الله للأولين والآخرين:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً} (2).
أيها المسلمون، ولابد للمسلم في هذه الحياة أن تكون عبادته لله بين الخوف والرجاء، ولابد أن يفقه ونصوص الوعد، ونصوص الوعيد، فما أفرط في الرجاء أصبح من المرجئة القائلين: لا يضر مع الإيمان شيء، ومن أفرط في الخوف كان من الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد صاحب الكبيرة إذا مات من غير توبة في النار، بل يكون وسطًا بينهما، كما قال تعالي:{وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (3).
والخوف والرجاء- كما قال أهل العلم- كجناحَي طائر للإنسان يطير بهما فإذا اعترى أحدَهما نقص أثّر على الآخر.
(1) في 11/ 10/ 1416 هـ.
(2)
سورة النساء، الآية:131.
(3)
سورة الإسراء، الآية:57. (انظر الفتح 11/ 302).
إخوة الإسلام، من سبر أحوال المسلمين اليوم وجد تغليبًا لجانب الرجاء على الخوف، ووجد معه فهمًا خاطئًا للرجاء، وانحرافًا عظيمًا أو يسيرًا عن مفهوم السلف لحقيقة الرجاء، وتأويلاً متعسفًا لبعض نصوص القرآن والسنة التي أبانت عن سعة رحمة الله، ومغفرة الذنوب.
وحتى تتضح الصورة أضرب لكم نماذج هذه المفاهيم الخاطئة.
فبعض الناس لا يشهدون الصلاة إلا من الجمعة إلى الجمعة، ويظن أنهما مكفرات لما بينهما، أو يتعبَّد من رمضان إلى رمضان، ويسيء فيما بينهما، بل وينقطع عمّا سواهما، ويفهم النص فهمًا خاطئًا:(من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه) وكاغترار بعضهم بالاعتماد على صوم يوم عاشوراء أو يوم عرفة حتى يقول هذا المغترُّ: صوم يوم عاشوراء يكُفِّر ذنوب العام كلَّها، ويبقى صوم عرفة زيادةً في الأجر.
يقول الإمام ابن القيم، رحمه الله:(ولم يدر هذا المغتر أن صوم رمضان والصلوات الخمس أعظم وأجل من صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، وهي إنما تكفِّر ما بينهما إذا اجُتنِبت الكبائر، فرمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة، لا يقويان على تكفير الصغائر إلا مع انضمام ترك الكبائر إليها، فيقوى مجموع الأمرين على تكفير الصغائر)(1).
إخوة الإسلام، وكذلك يتضح لكم أن القضية ليست تغليبًا لجانب الرجاء على جانب الخوف، فهذه مع ما فيها من تأثير على جانب الخوف من الله، واختلال للميزان الحق، فالمصيبة أعظم حين تكون إخلالاً لمفهوم الرجاء نفسه، ويظهر أن مفهومنا للرجاء يختلف عن مفهوم السلف له، فنحن كلما غلبتنا
(1) الداء والدواء/ 48.
أنفسنا الأمارة بالسوء على المعاصي قلنا: (إن الله غفورٌ رحيمٌ) وكلما ضعفت عزائمنا عن أداء الواجبات المفروضة قلنا: (إن رحمة الله واسعة)، وهكذا حتى نألفَ المنكراتِ، وتصعب علينا الطاعات، أما السلَف فإليكم شيئًا من فهمهم لمعنى الرجاء:
يقول الإمام البيهقي، رحمه الله: وأفضل الرجاء ما تولد من مجاهدة النفوس، ومجانبة الهوى، قال الله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1)} (2)
فتأمَّل مقولة هذا الإمام، وكيف يربط الرجاء بمجاهدة النفس، ومجانبة الهوى .. وليس مجرّد أمان لا رصيد لها في دنيا الواقع، بل وتأمْل قبل ذلك قولَ الحقّ في الآية السابقة، فهؤلاء الذين يرجون رحمة الله: قدموا لذلك بالإيمان، وللإيمان حقيقته وتبعاته، وهاجروا- والهجرة عن الأهل والولد أو المال والبلد- كلّ ذلك ضربٌ من ضروب الجهاد، ولا تطيقه كثير من النفوس الضعيفة، فإذا أُضيف إلى ذلك المجاهدة في سبيل الله، دعوةً إلى دينه، ومجاهدةً للذين يقفون دون الناس في معرفة الحق، وما يتطلبه هذا الجهاد من بذل المال أو بذل الأنفس أو كليهما .. علمتَ أنّ الرجاء الشرعي هو المتولِّد من مجاهدة النفس، ومجانبة الهوى .. وما سواه غرور الأماني، ومخادعةٌ للنفس، ليس إلا.
يقول الإمام ابن القيّم، رحمه الله: فتأمّلْ هذا الموضع، وتأمّل شدة الحاجة إليه، وكيف يجتمع في قلب العبد تيقُّنه بأنه ملاقي الله، وأنّ الله يسمع كلامه، ويرى
(1) سورة البقرة، الآية:218.
(2)
البيهقي: ثلاث شعب من الجامع لشعب الإيمان 1/ 290.
مكانه، ويعلم سره وعلانيته، ولا يخفى عليه خافيةٌ من أمره، فإنه موقوفٌ بين يديه، ومسؤول عن كل ما عمل، وهو مقيمٌ على مساخطِه، مضيِّعٌ لأوامره، معطلٌ لحقوقه، وهو مع ذلك يحسن الظنّ بِه، وهل هذا إلا من خداع النفوس، وغرور الأماني (1)؟
يا أخا الإسلام، ولابدّ أن تفهم الفرق بين حسن الظنّ بالله، وبين الغرور، فحسن الظن هو حسن العمل، والغرور تقصير وتهاونٌ، وضعف وعجزٌ وتواكل، قال الحسن البصري، رحمه الله:(إنّ المؤمن أحسنَ الظنّ بربه فأحسن العملَ، وإنّ الفاجر أساء الظنّ بربّه فأساء العمل)(2).
وويلٌ لمن أرداه ظنّه السيء بربه فكان من الخاسرين قال الله تعالي: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} (3).
أتدرون مَن هؤلاء؟ أولئك الذين يستترون لأعمالهم السيئة، ويظنون أنّ الله لا يعلم سرَّهم ونجواهم، وأولئك يفضحهم الله يوم القيامة، وزيادةً في فضيحتهم تكون الشهود عليهم جوارحهم التي لا يستطيعون الاستتار عنها .. وحق للنبي، صلى الله عليه وسلم، أن يضحك عجبًا من صنيعهم، وقد أخرج الإمام مسلمٌ وغيره عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: (ضحك رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم، ذات يوم، وتبسَّم فقال: ألا تسألوني عن أيّ شيءٍ ضحكتُ؟ قالوا: يا رسولَ الله، من أيّ شيءٍ ضحكت؟ قال: عجبتُ من مجادلة العبد ربّه يوم القيامة، يقول: أي ربي، أليس وعدتني أن لا تظلمني؟ قال: بلى، فيقول: فإني لا أقبلُ عليّ شاهدًا إلا من نفسي، فيقول الله، تبارك وتعالى: أوليس كفى بي شهيدًا، وبالملائكة الكرام
(1) الداء والدواء/ 50.
(2)
الداء والدواء/ 50.
(3)
سورة فصلت، الآية:23.
الكاتبين؟ قال: فيردد هذا الكلام مرارًا، قال: فيختم على فيه، وتتكلم أركانه بما كان يعمل، فيقول بعدًا لكنَّ وسُحْقًا، عنكنَّ كنتُ أجادلُ) (1).
يا بن آدم تذكر هذا المشهد العظيم: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (2).
وأحضر للسؤال جوابًا .. وأتِّق الفضيحة غدًا، واعلم أنّ الله أقرب إليك من جوارحك، بل وأقرب إليك من حبل الوريد:{وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} (3).
معاشر المسلمين، قال العارفون: رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق (4). أين نحن من قوم كلما زادت طاعاتهم لربهم زاد خوفهم وطال بكاؤهم.
قيل للحسن: نراك طويل البكاء؟ فقال: أخاف أن يطرحني في النار، ولا يبالي!
وكان يقول: إن قومًا ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة، يقول أحدهم: لأني أُحسن الظنّ بربي، وكذب، لو أحسن الظنّ لأحسن العمل!
وسأله رجل فقال: يا أبا سعيد، كيف نصنع بمجالسة أقوامٍ يُخوّفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟ فقال: والله لأن تصحب أقوامًا يخوفونك حتى تدرك أمنًا،
(1) تفسير ابن كثير 7/ 159، ط الشعب.
(2)
سورة يس، الآية:65.
(3)
سورة فصلت، الآيتان: 22، 23.
(4)
الداء والدواء لابن القيم/ 53، 54.
خيرٌ من أن تصحب أقوامًا يؤمنونك حتى تلحقك المخاوف (1).
نعوذ الله من سوء الخاتمة، ونسأل الله ألا يميتَ قلوبنا، ويشغلها بالدنيا عن الآخرة، ونسأله تعالى ألا يجعلنا من ميتي الأحياء، أتدرون من ميت الأحياء؟
سُئل ابن مسعود: مَن ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا (2).
أعوذ الله من الشيطان الرجيم: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (3).
(1) الداء والدواء لابن القيم/ 53، 54.
(2)
ابن تيمية، الحسبة ص 37.
(3)
سورة النازعات، الآيتان: 40، 41.