الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وفق من شاء لطاعته وهداه، وأضل من شاء بعلمه وحكمته فلا إله إلا هو ولا رب سواه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له يمتحن الناس في هذه الحياة الدنيا، فيغتبط الصالحون ويندم المفرطون المفسدون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ربَّي صحابته على الإيمان والتقى فكانوا منارات يستضاء بها في الأرض كَحَال النجوم في السماء، اللهم صلي وسلم على محمد وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
…
وبعد:
فأي عقل لبيب وأي منطق سليم يرضى ويقنع بروايات أهل البدع والأهواء في هذا الجيل الفريد، وقاتل الله الرافضة فكم شوهوا في تاريخنا وكم حرَّفوا في مرويّاتنا، ولقد نال أبا موسى الأشعري رضي الله عنه من هذا التشويه والتحريف ما أصبح مادةً لمن في قلوبهم مرض، فَرَامُوا تشويه تاريخ الصحابة بهدف تشويه الدين أساسًا، وتأمل مقولة الإمام مالك رحمه الله في هدف الذين يقدحون في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: إنما هؤلاء أقوام أردوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمكنهم ذلك، فقدحوا في أصحابه، حتى يقال رجل سوء ولو كان وجلاً صالحًا لكان أصحابه صالحين (1).
ومما ذاع وشاع في التاريخ قديمًا وحديثًا موقف الحكمين: أبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، رضي الله عنهما، في قصة التحكيم بين علي ومعاوية، رضي الله عنهما، حين وقعت الفتنة، وأن موقف أبي موسى رضي الله عنه يمثل موقف المغفل المخدوع، بينما يمثل موقف عمرو ابن العاص موقف الماكر الخادع، إذ اتفقوا -كما تقول
(1) الصارم المسلول/ 513، مرويات أبي مخنف/ 10.
الرواية الساقطة- على أن يخلع كل منهما صاحبه أمام المسلمين وتُوَلِّي الأمة من أحبَّت، فابتدأ أبو موسى وخلع صاحبه عليًا، فلما جاء دور عمرو بن العاص وافق على خلع علي وأثبت صاحبه معاوية فهل تليق هذه المراوغة بالصالحين من أباء المسلمين فضلاً عن نسبتها للمؤمنين الصادقين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
إن المقام لا يتسع للحديث عن شخصية عمرو بن العاص الإيمانية ومواقفه الجهادية، وعسى أن تتاح الفرصة لذلك قريبًا.
ولكن القضية مرفوضة أولاً بميزان العقل والمنطق، فكيف يُتَّهَم أبو موسى الأشعري، رضي الله عنه، بالتغفيل وهو رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زبيد وعدن، واستعمله عمر رضي الله عنه على البصرة حتى قتل، ثم استعمله عثمان على البصرة، ثم على الكوفة وبقي واليًا عليها إلى أن قتل عثمان فأقرَّه علي رضي الله عنه، فهل يتصور أن يثق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خلفاؤه من بعده برجل يمكن أن تجوز عليه مثل الخدعة التي ترويها قصة التحكيم (1)؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلِّقًا على حديث البخاري في بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن، قال: واستدل به على أن أبا موسى كان عالمًا حاذقًا، ولولا ذلك لم يوله النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة، ولو كان فَوَّضَ الحكم لغيره لم يحتج إلى توصيته بما وصاه به، ولذلك اعتمد عليه عمر ثم عثمان ثم علي، وأما الخوارج والروافض فطعنوا فيه، ونسبوه إلى الغفلة وعدم الفطنة، لما صدر منه في التحكيم بصفين (2).
وكيف يسوغ أن يُتَّهم الفقيه القاضي، والعالم المتبحر بمثل هذا؟ بل ويقطع
(1) آمحزون: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة 2/ 226، 227.
(2)
الفتح 8/ 62.
الفاروق عمر رضي الله عنه بكياسة أبي موسى، ومن هو الفاروق في تقويم الرجال؟ (ألا إنه كيِّس وإلا تسمعها إياه).
والقضية مرفوضة ثانيًا بميزان العلم والنقد، وليس نقد السند بأقل من نقد المتن، فرواتها الذين صدروها ابتداء متهمون وهم من أهل الأهواء والبدع ويكفي أن فيها أبا مخنف، لوط بن يحيى، وهو شيعي محترق كما قال أهل العلم، ومشهور بالكذب والافتراء والدس والتشويه في التاريخ، عمومًا وأحداث الفتنة بين الصحابة خصوصًا.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله: ولا ريب أن غلاة الشيعة يبغضون أبا موسى رضي الله عنه لكونه ما قاتل مع علي، ثم لما حكمه علي على نفسه عزله، وعزل معاوية وأشار بابن عمر فما انتظم من ذلك حال (1).
إخوة الإسلام، وإذا رفضنا هذه المرويات الكاذبة لسقوطها سندًا ومتنًا فما هي الرواية الصحيحة في التحكيم والتي تليق بمقام الصحابة رضوان الله عليهم؟ هناك رواية أخرجها البخاري في تاريخه مختصرًا بسند رجال ثقات، وأخرجها ابن عساكر مطولاً عن الحضين بن المنذر أن معاوية أرسله إلى عمرو ابن العاص فقال له: (إنه بلغني عن عمرو بعض ما أكره- يعني في مسالة التحكيم بينه وبين أبي موسى الأشعري- فأته فاسأله عن الأمر الذي اجتمع عمرو وأبو موسى فيه، كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس وقالوا، ولا والله ما كان ما قالوا، ولكن لما اجتمعت أنا وأبو موسى قلت له: ما ترى في هذا الأمر؟ قال أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض قال- عمرو- فقلت أين تجعلني من هذا الأمر أنا ومعاوية؟ قال: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يُستغنى
(1) سير أعلام النبلاء 2/ 394،
عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما (1).
فأين الخداع، وأين الكذب، وأين التغفيل، والمراوغة، في مثل هذه المرويات الصحيحة؟
إن تاريخ الأمة المسلمة محتاج إلى استجلاء وتصحيح ونظر وتدقيق، وإن تاريخ الصحابة بالذات محتاج إلى تمحيص وفقه لأخذ الدروس والعبر، ومعرفة الطريق الأبلج، والمنهج الإسلامي، وكم من كنوز هذا التاريخ تحتاج إلى استخراج، وكم من عبر تنتظر السالكين إلى الله .. ويأبى الله إلا أن يدافع عن الذين آمنوا ولو كذب المنافقون، ولو تزيد المتزيدون. قال تعالى:{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (2).
أيها المسلمون، إن من أعظم الدروس التي نستفيدها من هذا الحدث، أن تدرك كيف تروج إشاعات، وكيف تساق جزافًا الاتهامات، وإذا كان هذا في جيل محمد صلى الله عليه وسلم، فغيرهم من باب أولى!
فهل يتثبت المسلمون في أخبار الموتورين، وهل يتأكدون من الشائعات قبل ترويجها .. وهل نحافظ جميعًا على سمعة الخيرين من كذب المبطلين .. وهل نزن الأمور بميزان الشرع والحق، لا بميزان الهوى والباطل .. إن ذلك خليق بالمسلم الذي يقرأ قوله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (3).
(1) انظر: مرويات أبي حنف في تاريخ الطبري: يحي اليحيى/ 408.
(2)
سورة الرعدة الآية: 17.
(3)
سورة الإسراء، الآية:36.