الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وفق من شاء لطاعته، وأعان أولياءه على استخدام زينة الحياة الدنيا في الوصول إلى الزينة الحقيقية الكبرى، وافتتن آخرون فأشغلتهم الدنيا عن الدين، وصرفتهم الحياة الفانية عن التأمل والمسارعة للحياة الآخرة الباقية.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .. اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وآله وصحبه أجمعين.
أيها المؤمنون، انظروا في واقعكم، وتأملوا في نهايتكم، واستعدوا للقاء ربكم، واحذروا الفتنة فيما حولكم، وحيث قد علمتم زينة الحياة الدنيا والآخرة والفرق بينهما كبير، فإن لمتاع الحياة الآخرة وزينتها الباقية ثمنًا ليس بالعسير ولا المستحيل، بل هو يسير على من يسره الله عليه، وهو ما ذكره تعالى في الآية الثالثة بعد الآيتين السابقتين فقال:{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} (1).
ثم قال تعالى في وصفهم (الصابرين) والمعنى صابرون في قيامهم بالطاعات وتركهم المحرمات .. ولاشك، إخوة الإسلام، أن الطاعات تكليف يحتاج إلى الصبر والمصابرة ومجاهدة للنفس، وترويض حتى تألف الطاعة وتحبها وتداوم عليها، وأن المحرمات أحيانًا تلتقي مع شهوة النفس وحظوظ الهوى ولذا يحتاج المرء الذي يتطلع إلى الجنان أن يكبح جماح النفس ويلزمها الطريق ويصبر على
(1) سورة آل عمران، الآيتان: 16، 17.
مرارة الدواء، ولولا الحاجة للصبر على الطاعات والصبر عن المحرمات لتساوى الناس في منازلهم.
قال المفسرون، وفائدة التمثل بأنواع الزينة في الحياة الدنيا أن الجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره، وبالصبر عليها، وأن النار لا منجى منها إلا بترك الشهوات وفطام النفس عنها.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «طريق الجنة حزن بربوة، وطريق النار سهل بسهوة» . وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» . أي طريق الجنة صعبة المسالك فيه أعلى ما يكون من الروابي، وطريق النار سهل لا غلظ فيه ولا وعورة وهو معنى قوله سهل بسهوة (والحزن هو الغليظ الخشن)(1) أما قوله تعالى (الصادقين) فهي تعني صدقهم فيما أخبروا به من إيمانهم بما يلتزمون به من الأعمال الشاقة على كثير من النفوس، فليس إيمانهم بالتمني ولا بالتحلي، ولكن شيء وقر في النفوس فانبعثت له الجوارح مصدقة، و (القانتين) هم أهل الطاعة والخضوع، و (المنفقين) من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات، وصلة الأرحام والقربات، وسد الخلات، ومواساة ذوي الحاجات وآخر صفة لأصحاب النعيم الدائم:(المستغفرين بالأسحار).
وهذا كما قال أهل العلم دليل على فضيلة الاستغفار بشكل عام ووقت الأسحار بشكل خاص وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى سماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فاستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ » (2) الحديث.
(1) تفسير القرطبي 4/ 28.
(2)
تفسير ابن كثير 2/ 18.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يصلي من الليل ثم يقول: يا نافع هل جاء السحر؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح، ونقل عن حاطب رضي الله عنه أنه قال: سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: رب أمرتني فأطعتك، وهذا سحر فاغفر لي، فنظرت فإذا ابن مسعود رضي الله عنه (وكأنه تأول قوله تعالى: والمستغفرين بالأسحار).
إخوة الإسلام والإيمان، تزودوا من دنياكم لآخرتكم ولا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور، وليس بغائب عنكم أن الدنيا ظل زائل، وهي حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون؟ وبأي واد ترتعون؟ وأي طريق تسلكون؟ ويا ويح من عض أصابع الندامة والحزن والروح تبلغ الحلقوم، وهيهات أن يعاد المرء إلى الحياة الدنيا بعد أن خرج منها وأعطي من المهلة ما هو كاف للامتحان، ومهما كانت ذنوبك وخطاياك فقف باب ربك سائلاً ومستغفرًا، واستمع إلى قوله تعالى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ (60)} (1).
(1) سورة الزمر، الآيات: 53 - 60.