الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره وأُثني عليه الخير كله، وأسأله المزيد من فضله، وأشهد ألا إله إلا إليه وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .. بَّلغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين .. فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى إخوانه وآله، ورضي الله عن صحابته وأتباعهم إلى يوم الدين .. وبعد:
فإن أحداث الهجرة النبوية فيها من الدروس والعبر ما لو تأمَّله الناس لازداد إيمانهم، وقويت عزائمهم، وتوكلوا حق التوكل على خالقهم، ولم يبالوا بكيد الأعداء، إذ كانوا بحبل الله متمسكين، ولأسباب النصر عاملين، وحفظ الله تعالى لأوليائه المؤمنين، وإبطال كيد الكائدين، يظهر بجلاء لمن تأمل في الهجرة
…
فالرسول، صلى الله عليه وسلم، في البداية يخرج من بين ظهراني المشركين وهم يرصدون، بل ونثر التراب على رؤوسهم، كما ورد في بعض الروايات، وحين علمت قريش بأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قد أفلت من يدها، وخرج من مكة تتبعوا أثره، حتى وصلوا إلى الغار الذي يكمن فيه وصاحبه، ولم يكن بينهم وبين أن يكتشفوه إلا أن يطأطئ أحدهم بصره على موضع قدميه- كما قال أبو بكر رضي الله عنه فيبصرهم (1)، ولكن الله سلب أبصارهم عن الرؤية هنا، والرسول، صلى الله عليه وسلم، واثقٌ بنصر ربه، مطمئنٌّ لحفظه لأوليائه، ولذلك قال لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا، وعادت جنود الكفر تجر رداء الخيبة والخسران، وهل يستطيع أحد محاربة أولياء الله، والله معهم؟ (مَن عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب).
بل وأكثر من ذلك، يسَخِّر الله للنبي، صلى الله عليه وسلم، وصاحبه دليلاً من أبناء الكافرين،
(1) كما في رواية البخاري في الصحيح 4/ 163، 5/ 204، وسلم في صحيحه 4/ 1854.
ماهرًا بدروب الصحراء، خبيرًا بالطرق غير المسلوكة، ويكون دليلهم، عبد الله بن أُريقط، وكان قد غمس حلفًا في العاص ابن وائل السهمي، وهو على دين الكفار، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال.
وفي الطريق تظهر آيات ومعجزات، تكشف عن إكرام الله لنبيه، وتيسير أمره، وهذا أبو بكر، رضي الله عنه، يقول: لقد أسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق، فلا يمر به أحد حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لا تأت عليه الشمس بعدُ، فنزلنا عندها .. وجاءها راعي غنم يريد منها الذي يريدون، وكأنما ساقه الله لهم ليشربوا من لبن غنمه، بعد أن يستريحوا بظل الصخرة، هم وإيّاه (1).
أما المعجزة الأخرى، والآية العظمى، والدليل الأبلج على حماية الله لأوليائه فيتمثَّل في قصتهم مع سراقة
…
وهو الرجل الذي تستهويه الجائزة التي رصدتها قريش لمن أتى بالنبي صلى الله عليه وسلم، حيًّا أو ميتًا، فيمتطي صهوة جواده، ويطوي الأرض طيًا حتى يقترب من النبي، صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وأبو بكر، رضي الله عنه، يكثر الالتفات مخافة على النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول ثابت واثق بربه لا يلتفت، فلما اقترب منهم سراقة قال أبو بكر: أُتِينا يا نبي الله .. فلما اقترب أكثر ساخت قوائم فرسه في الأرض، ثم انتشلها .. فلما ركب في أثرهما ساخت أقدام الخيل مرة أخرى .. يقول سراقة: فأبيت إلا أن أتبعه، فركبت في أثره، فلما بدا لي القوم ورأيتهم عثر بي فرسي فذهبت يداه في الأرض، وسقطت عنه، ثم انتزع يديه من الأرض، وتبعهما دخان كالإعصار، قال سراقة: فعرفت، حين رأيت ذلك، أنه قد مُنع مني، وأنه ظاهر، قال: فناديتُ القوم فقلت: أنا سراقة، انظروني
(1) صحيح البخاري 4/ 180، 189، صحيح مسلم 4/ 2309.
أكلمكم، فوالله لا أريبكم ولا يأتيكم من شيءٌ تكرهونه .. فطلب منهم الأمان، وطلب منهم كتابًا يكون آيةً بينهم
…
وقد قدّم لهم الكتاب يوم الفتح، وأسلم، وحسُن إسلامه (1).
وهكذا كان سراقة آخر النهار مسلمةً للبني، صلى الله عليه وسلم، بعد أن كان جاهدًا عليه في أول النهار .. وكذلك سخَّر الله سراقةً ليعمي خبر النبي، صلى الله عليه وسلم، فما يهم أحد بالبحث في هذه الجهة إلا ويقول له: قد كفيتُك إياها، فصرف الله أنظار المشركين عنه، وكذلك يحمي الله جنده، ويحفظ أولياءه المتقين.
أيها المسلمون، وينبغي أن نتعلم من أحداث الهجرة أن المسلم إذا توكل على الله كفاه، {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (2)، وإذا حفظ حدوده حفظه ورعاه (يا غلام، احفظ الله يحفظك)، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (3)، فهل يفقه المسلمون أحداث السيرة ويستفيدون من دروسها وعبرها؟ إن في ذلك الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة .. ولله الأمر من قبل ومن بعد، اللهم هيء لنا من أمرنا رشدًا، واجعل لنا من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا
…
إخوة الإسلام، ووصل الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة، واجتمع المسلمون واستقروا بها، وكان نجاح الإسلام وجهاد المسلمين في تأسيس وطن لهم وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة أعظم كسبٍ حصلوا عليه منذ بدأت الدعوة، وتنادى المسلمون من كل مكان أن هلموا إلى المدينة، فلم تكن الهجرة إليها
(1) صحيح البخاري 4/ 256، 257، وإسلام سراقة ذكره ابن إسحاق في روايته، انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/ 102 - 104 بسند قوي.
(2)
سورة الطلاق، الآية:3.
(3)
سورة الطلاق، الآيتان: 2، 3.
تخلصًا من الفتنة والاستهزاء فحسب، بل كانت تعاونًا على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن.
وأصبح فرضًا على كل مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد، وأن يبذل جهده في تحصينه، ورفع شأنه، وأصبح ترك المدينة بعد الهجرة إليها نكوصًا عن تكاليف الحق، وعن نصرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، فالحياة فيها دين، والاجتماع بها مطلب، وكذلك ينبغي أن يعيش المسلم لدينه، وأن يضحى بالغالي والرخيص في سبيل عقيدته .. وألا تكون محبة المسلم لوطنه لذات التراب والطين، وإنما لأجل العقيدة والدين (1).
(1) الهجرة النبوية، أسعد المرصفي (بتصرف) ص 121.