الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله يحب الصابرين، ويجزل المثوبة للشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة وكل ضلالةٍ في النار.
أيها المسلمون، وإذا علمتم أقسام الناس في الصبر، وأعلى مقامات الصابرين، وتأملتم ما يضاد الصبر، فمن الأهمية بمكان أن تعلموا ما يعينكم على الصبر، فما هي يا ترى الأمور المعينة للمسلم على الصبر؟
1 -
إن أول ما يعين على الصبر معرفة العبد بطبيعة هذه الحياة، بمفاجآتها ونكدها وأكدارها، فهي ليست بدار قرار، ومن ركن إليها وظن فيها السعادة والسلامة من الآفات فقد أخطأ الفهم، والمولى يقول:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} (1) ويقول: {وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (2).
فسعادتك فيها، حينًا، طيفٌ عابر، ومصابك فيها حتم لازم، وهل سلم الصفوة من البلاء فتسلم أنت وأنا ونحن المساكين؟ ولكن عزاء المؤمنين (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط)(3).
(1) سورة البلد، الآية:4.
(2)
سورة آل عمران، الآية:185.
(3)
رواه الترمذي وحسنه. صحيح الجامع 2/ 216.
واستشعار المصاب لهذه الحقيقة يخفف عنه ألم المصيبة، ويدعو إلى الصبر واحتساب الأجر عند ربه.
2 -
ليس ذلك فحسبه، بل إن مما يدعو المسلم للصبر طمعه في ثواب الله، ومعرفته ما أعد الله للصابرين، ويكفيه أن يتأمل قوله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1). أو أن يستيقن معية الله له حين يصبر، والحق تبارك وتعالى يقول:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2). قال أهل التفسير: وهذه معيَّة خاصة تقتضي محبته ومعونته، ونصره وقربه، وهذه منقبة عظيمة للصابرين، فلو لم يكن للصابرين فضيلة إلا أنهم فازوا بهذه المعيَّة من الله لكفى بها فضلاً وشرفًا (3).
وإن الله تعالى وعد على الصبر النصر والظفر، وهي الكلمة الحسنى التي وعد الله بها بني إسرائيل بما صبروا:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (4). إلى غير ذلك من معاني الصبر وآثاره التي وردت في القرآن أو صحيح السنة، وهي تكشف عن عواقب الصبر وآثاره في الدنيا والآخرة.
3 -
ألا يغيب عن ذهن المبتلى بمصيبةٍ إنها قد تكون خيرًا عجَّله الله له ليتذكر أنْعُمَ الله عليه فيشكره عليها من جانب، وليصبر ويحتسب على هذه المصيبة فيأجره الله عليها، ويرفع درجاته من جانب آخر، وكم تحوَّلت المحن- في حياة الصابرين- إلى منحٍ ما زالوا يشكرون الله عليها. وقد تكون للعبد المنزلة لا
(1) سورة الزمر، الآية:15.
(2)
سورة البقرة، الآية:153.
(3)
تفسير السعدي 1/ 177.
(4)
سورة الأعراف، الآية:137.
يبلغها بعمله، فيبتليه الله بمصيبة فيرفعه الله بصبره عليها إلى هذه الدرجة العالية .. أفلا يسلي ذلك الصابرين؟ وقد يظلم نفسه، ويحملها من الأوزار ما يثقل كاهلها، فإذا ما ابتلاه ربه بمصيبة فصبر عليها، واحتسب أجروا كانت رفعة لدرجاته، ومكفرة لسيئاته، وفي صحيح مسلم: قال عليه الصلاة والسلام: «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا سقم، ولا حزن، حتى الهم يُهمه إلا كُفِّر به من سيئاته» (1) وعند الترمذي: (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة)(2). وتأمل هذا الحديث: عن شداد بن أوس، رضي الله عنه، مرفوعًا (أن الله عز وجل يقول: إذا ابتليت عبدًا من عبادي- مؤمنًا- فحمدني وصبر على ما ابتليته به فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الرب للحفظة: إني قيَّدت عبدي هذا وابتليته فأجروا له من الجر ما كنتم تجرون له قبل ذلك وهو صحيح) (3).
4 -
ومما يعينك على الصبر، يا أخا الإسلام، النظر في مصائب الآخرين، والتسرية عن النفس بحال المبتلين من الأولين والآخرين. ففي النفس جزع يخفف منه معرفة آلام الآخرين، وفيها غفلةٌ يوقظها ذكر من هو أعظم منه بليَّة، وكم هو صالح للاعتبار ومخفف للمصاب أن نتذكر مصيبة عروة بن الزبير، يرحمه الله، حين ذهب إلى الوليد بن عبد الملك فأصابت رجلَه الأكَلَةُ، فلم يكن بد من قطعها، ثم فقد ابنه محمدًا في الرحلة نفسها حين ركلته بغلةٌ في إصطبلها فكان مما قال: (اللهم كان لي بنون سبعة وأخذت واحدًا وأبقيت لي
(1) مختصر صحيح مسلم للمنذري ح 1798، ورواه البخاري وغيره، انظر (جامع الأصول 9/ 579).
(2)
جامع الأصول 9/ 584، وانظر عدة الصابرين ص 126.
(3)
رواه أحمد وغيره وهو صحيح (الصبر، أبو عبد الرحمن المصري/ 24).
ستة، وكان لي أطرافٌ أربعة فأخذت طرفًا وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليت لقد عافيتَ، ولئن أخذت لقد أبقيت) (1).
ألا ما أروع الكلمة التي وردت عن بعض السلف:
(لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة مفاليس)(2).
5 -
ومما يعين على الصبر وتخفيف المصاب صدق اللجأ إلى الله، والتضرع بين يديه، فهو المعين وكاشف البلاء {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (3). وهل علمت شيئًا من بلاء أيوب عليه السلام الذي قيل: إن الله يحج به يوم القيامة أهل البلاء؟
عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن رسول الله وعلى الله عليه وسلم قال: «إن نبي الله أيوب عليه السلام كان في بلائه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان إليه، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم، والله لقد أذنب ذنبًا ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله، فيكشف ما به، فلما راحا عليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك لأيوب، فقال عليه السلام: لا أدري ما تقول: غير أن الله عز وجل يعلم أني كنتُ أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق .. إلخ القصة (4) وفيها شفاه الله، ورد إليه ما كان سلبه منه، بعد أن
(1) السير للذهبي 4/ 430، 431.
(2)
عدة الصابرين/ 145.
(3)
سورة الأنبياء، الآيتان: 83، 84.
(4)
روى القصة أبو يعلى والبحار وقال الهيثمي: رجال البزار رجال الصحيح (مجمع الزوائد 8/ 208) قال ابن حجر، أصح ما ورد في قصته، (الفتح 6/ 421) وإن كان ابن كثير استغرب رفع الحديث (التفسير 5/ 356) فقد ذكر أبو عبد الرحمن الأثري جملة من العلماء وصححوها ومنهم ابن كثير (الصبر/ 31).
امتحن صبره، وجعله عبرة للصابرين (وذكرى للعابدين)، والمعنى كما قال ابن كثير: أي جعلناه قدوة لئلا يظن أهل البلاء أنما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا، وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله في البلاء (1).
6 -
يا أخا الإسلام، ومما يعينك كذلك على الصبر- ولاسيما عن مقارفة الحرام- أن تعلم أن لذة الحرام ساعة، ثم تعقبها الندامة إلى قيام الساعة، وأن الكرام تعز أنفسها عن الورود على موائد اللئام:
إذا كثُر الذبابُ على طعامٍ
رفعتُ يدي ونفسي تشتهيهِ
وتجتَنبُ الأسود ورودً ماءٍ
إذا كان الكلاب يَلِغْنَ فيهِ (2).
اللهم اعصمنا من الزلل، وارزقنا الصبر حين البلوى والمحن.
وبعد، إخوة الإسلام فهذه إطلالة يسيرة على موضوع من الأهمية بمكان، ما أحوجنا إليه في هذا الزمان، ومن رام المزيد فعليه أن يرد موارد العلماء الذين استوقفتهم آيات الكتاب، وعنوا بشرح أحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام.
وأراني هنا محتاجًا لأن أقول لكم، وليس العبرة بمقولة اللسان، ولكن بتصديق الجنان، فالصبر عند الصدمة الأولى، والصابرون المحتسبون هم أولو الأحلام والنهى، وأهل البلاء هم أهل المصيبة، وإن عوفيت أبدانهم، وأهل العافية هم أهل الطاعة، وإن مرضت أبدانهم.
وأجدني مضطرًا لأن أقول لكم كما قال مَن قبلي: (هذا جهد المقل، وقدرة المفلس، حذر فيه من الداء، وإن كان من أهله، ووصف فيه الدواء، وإن لم
(1) تفسير ابن كثير 5/ 357.
(2)
عدة الصابرين/ 85.
يصبر على تناوله لظلمه وجهله، وهو يرجو أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين أن يغفر له غيه لنفسه بنصيحته لعباده المؤمنين) والله المستعان (1).
(1) ابن القيم، عدة الصابرين/ 13.