الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وقصة التحكيم
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ....
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخوة الإيمان، وما أجمل العيش في سير القادة العظماء، ويطيب أكثر إذا كان في مواقف وأخبار السادة النجباء، أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فهم أَبرُّ قلوبًا، وأنقاها سريرة، وأصلحها سيرة، ويتحتم أكثر فأكثر حين يكون ذودًا عن المتهمين زورًا وكذبًا، وإيضاحًا للحقيقة صدقًا وعدلاً.
أجل لقد جاء الثناء على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن، ونوَّه الله بذكرهم في
(1) في 30/ 10/ 1415 هـ.
وفي هذه الخطبة استجلاء لشخصية أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري، رضي الله عنه، الذي ربما غابت بعض مواقفه البطولية عن بعض الناس، وربما ترسّخ في أذهان آخرين ما تنسبه إليه بعض الروايات التاريخية الساقطة من التغفيل والجهل بأبسط قواعد السياسة والحكم في قصة التحكيم، وهو العم والفقيه، والقاضي والوالي، والقارئ والكيس الفَطن، ويكفيه فخرًا أن القرآن نزل في الثناء عليه وعلى قومه، كما في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (2).
أخرج الحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن عياض الأشعري قال: لما نزلت: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم قومك يا أبا موسى وأومأ إليه (3).
وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم ودعا لأبي موسى وعمه أبي عامر الأشعري في قصة تكشف عن شجاعة وصدق أبي موسى وعمه، وطلب عمه من النبي صلى الله عليه وسلم الاستغفار له وهو في سياقة الموت، وشمول الدعوة لأبي موسى، فقد روى البخاري ومسلم- فى صحيحيهما- عن أبي موسى قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر الأشعري على جيش أوطاس، فلقي دريد بن الصمة، فقتل دريد
(1) سورة الفتح، الآية:29.
(2)
سورة المائدة، الآية:54.
(3)
المستدرك 2/ 313، الطبقات لابن سعد 4/ 107، سير أعلام النبلاء 2/ 384.
وهزم الله أصحابه، فرمى رجل أبا عامر في ركبته بسهم فأثبته، فقلت: يا عم من رماك؟ فأشار إليه، فقصدت له فلحقته، فلما رآني ولَّى ذاهبًا، فجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألست عربيًا؟ ألا تثبت؟ قال: فَكَفَّ، فالتقيت أنا وهو فاختلفنا ضربتين فقتلته، ثم رجعت إلى أبي عامر فقلت: قد قتل الله صاحبك، قال: فانزع هذا السهم، فنزعته، فنزل منه الماء، فقال: يا ابن أخي: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرئه مني السلام وقل له: يستغفر لي، واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيرًا ثم مات، فلما قدمنا وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثم رفع يديه ثم قال: اللهم اغفر لعبدك أبي عامر، حتى رأيت بياض إبطيه، ثم قال:«اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك» فقلت: وَلِي يا رسول الله؟ فقال: «اللهم اغفر لعبد الله ابن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريمًا» (1).
إخوة الإسلام، وأبو موسى الأشعري رضي الله عنه في عداد العلماء الفقهاء أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال صفوان بن سليم- أحد فقهاء التابعين الثقات-:(لم يكن يُفتِي في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير هؤلاء: عمر وعلي ومعاذ وأبي موسى)(2).
وقال مسروق: كان القضاء في الصحابة إلى ستة: عمر وعلي، وابن مسعود، وأُبي، وزيد، وأبي موسى (3).
ولكفاءة أبي موسى وغزارة علمه، وحسب رأيه، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذًا في اليمن، وولي أبو موسى أمرَ الكوفة لعمر رضي الله عنه، وكذلك البصرة وأحسن السيرة في أهلها حتى قال الحسن البصري: ما قدمها راكب خير لأهلها من أبي موسى (4).
(1) البخاري: المغازي 8/ 34، غزوة أوطاس، وسلم/ 2498، في فضائل الصحابة، سير أعلام النبلاء 2/ 385.
(2)
تاريخ ابن عساكر 9/ 502، مخطوط عن: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة 2/ 228.
(3)
سير أعلام النبلاء وسنده صحيح 2/ 388.
(4)
سير أعلام النبلاء 2/ 389.
ومع هذه السيرة الحسنة والعدل في الرعية، فلم تكن الولاية في ذهن أبي موسى وغيره من صلحاء الأمة شهوةً جامحةً، أو سبيلاً للاستعلاء والسيطرة، وهذا عمر، رضي الله عنه، يطلب أبا موسى في رهط من المسلمين بالشام ويقول له: إني أرسلك إلى قوم عسكر الشياطين بين أظهرهم، قال أبو موسى: فلا ترسلني، قال عمر: إن بها جهادًا ورباطًا فأرسله إلى البصرة (1).
وكذلك تكون رغبة الجهاد والمرابطة في سبيل الله ضمانًا لموافقة أبي موسى وقبوله بالولاية.
أيها المسلمون، ويظهر اللهم الدقيق- في شخصية أبي موسى رضي الله عنه لأمور الولاية في الإسلام، فهو الأمير والقاضي وهو المقرئ ومعلم الناس القرآن، وهو الكيس الفطن، وهو القائد الفاتح.
فقد قال أبو شوذب: كان أبو موسى إذا صلى الصبح استقبل الصفوف رجلاً رجلاً يقرئهم (2).
وعن أنس قال بعثني الأشعري إلى عمر، فقال لي: كيف تركت الأشعري؟ قلت: تركته يعلم الناس القرآن، فقال عمر: أما إنه كيس ولا تسمعها إياه (3).
وفي مجال الفتوح، فقد أُفْتُتِحَ في أثناء ولايته: البصرة، والأهواز، والرها، وسميساط، وما والاها، وفتح أصبهان (4).
ولذا كتب عمر في وصيته: ألَاّ يقرّ لي عامل أكثر من سنة وأقروا الأشعري أربع سنين (5).
(1) سير أعلام النبلاء 2/ 389.
(2)
ابن عساكر/ 504، سير أعلام النبلاء 2/ 398.
(3)
أخرجه ابن سعد ورجاله ثقات 4/ 108.
(4)
السابق 2/ 390، 391.
(5)
ابن عساكر/ 522، السابق 2/ 391.
هذا نموذج لولاية أبي موسى وحسن سياسته، وهو كما ترى مزيج بين الدين والدنيا، أما هذا الانشطار الغريب في الولاية بين أمور الدين والدنيا فلم يكن يعرفه أبو موسى ومن على شاكلته من ولاة المسلمين فيما مضى.
وإن تعجب- يا أخا الإسلام- من حسن سياسته وفهمه لمسؤولية الولاية والإمارة، فالعجب أشد حين تعلم شيئًا من نزاهته وترفعه عن متاع الدنيا وحطامها الفاني، فما ملك القصور والضياع، ولا جمع المال والمتاع، ولم تغيره الإمارة ولا اغتر بالدنيا (1).
وقال ابنه أبو بردة حدَّثتنِي أمي قالت: خرج أبوك حين نزع عن البصرة وما معه إلا ستمائة درهم عطاء عياله (2).
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
…
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
يا أخا الإسلام، وكما أن الأشعري من فرسان النهار، ومن صلحاء أهل الولاية في الإسلام، فكذلك الأشعري كان من رهبان الليل، ومن أهل الذكر والدعاء والصلاة وتلاوة القرآن، فقد روى الإمام أحمد وغيره بإسناد صحيح عن بريدة رضي الله عنه قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسجد ويدي في يده، فإذا رجل يصلي يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سُئِلَ به أعطى، وإذا دُعِيَ به أَجَاب، فلما كانت الليلة الثانية دخلت مع الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد، قال: فإذا ذلك الرجل يقرأ، قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتراه مُرَائِيًا- ثلاث مرات-، قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل
(1) سير أعلام النبلاء 2/ 396.
(2)
رواه سعد في الطبقات 4/ 111، سير أعلام النبلاء 2/ 400
هو مؤمن منيب، عبد الله بن قيس أو أبو موسى أوتي مزمارًا من مزامير آل داود، قال: قلت: يا نبي الله ألا أبشره؟ قال: بلى، فبشرته فكان لي أخًا (1).
بل هو مؤمن منيب، تلك والله هي الشهادة العظمى، وأكرم بتزكية من لا ينطق عن الهوى، وعجَبُك لا ينقضي من هذا الصحابي المجاهد حتى لحظات حياته الأخيرة، وقد ورد أن أبا موسى، رضي الله عنه، اجتهد قبل موته اجتهادًا شديدًا فَقِيْلَ له: لو أمسكت ورفقت بنفسك؟ قال: إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من عمري أقل من ذلك (2).
توفي أبو موسى رضي الله عنه سنة أربع وأربعين للهجرة على الصحيح كما قال الذهبي (3)، رضي الله عنه وأرضاه، وألحقَنَا به وحَشَرنا في زمرته
…
أقول ما تسمعون وأستغفر الله.
(1) انظر شرح السنة للبغوي 5/ 37، 38، سير أعلام النبلاء 2/ 386.
(2)
سير أعلام النبلاء 2/ 393.
(3)
سير أعلام النبلاء 2/ 398.