الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
من المتفق عليه بين العلماء المسلمين أن الأحكام الشرعية إنما شُرعت لتحقيق مقاصد سامية، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، وأنه ينبغي على المجتهد تحرّي هذه المقاصد في ممارسته الإجتهاد، والإفتاء على مقتضى ما يوافقها ويخدمها.
ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم في حاجة إلى تدوين علم أصول الفقه وضبط مباحثه والكتابة في مقاصد الشريعة والبحث فيها، وذلك لأمرين:
الأول: أنهم عايشوا طور التشريع، وليس من عايش كمن سمع، فمعايشة صدور النص التشريعي يعني معايشة المقام الذي صدر فيه ذلك النص والظروف والملابسات التي أحاطت به، وذلك يكاد يكون كافيًّا في إدراك مقصد الشارع من ذلك النص أو الفعل النبوي، وتظهر أهمية المعايشة في خفاء مقصد الشارع من بعض النصوص وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم على من لم يعايشها منهم، ولكن من كانت حاله كذلك منهم كان يتدارك الأمر بالإستفسار ممن شهد وعايش، ومن أخطأ منهم في فهم مقصد من المقاصد بسبب غياب عنصر المشاهدة، استدرك عليه من شهد ذلك كما هو معلوم فيما استدرك الصحابة بعضهم على بعض.
الثاني: سلامة اللسان وسعة الإطلاع على مقاصد العرب من كلامها.
فإن أشكل عليهم أمر بعد هاتين الميزتين لجؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم للإستفسار منه.
وكذلك كان التابعون لِمَا وَرِثُوُه من علم الصحابة، فضلًا عن أنهم كانوا ما زالوا على قدر كبير من سلامة اللسان وصفاء القريحة، فأحاطوا بكليات الدين ومبادئه العامة ومقاصده الكلية، وإن غاب عن بعضهم شيء من نصوص السنّة أو لم يصلهم من طريق تصحّ به الرواية.
ولَمَّا اتسعت رقعة الإِسلام وبدأ يظهر فساد في اللسان وضعف في القريحة، ظهرت الحاجة إلى ضبط قواعد فهم النصوص الشرعية واستنباط الأحكام منها، وهو الذي جُمِع بعد ذلك فيما اصطُلِح عليه بعلم أصول الفقه، وكان متضمنًا لأهم الأسس والقواعد التي تُدْرَكُ بها مقاصد الشارع من خطابه. وقد أعطى ذلك مع ما شهدته تلك الفترة من ازدهار في حركة التدوين دفعًا قويًّا للعلوم الشرعية لتعيش بعد ذلك قرونًا من الإزدهار نَبَغَ فيها عدد كبير من العلماء في شتى العلوم.
وجاء عصر الجمود الذي اتّسم بفساد في اللسان، وضعف في الهمم، وقلة من تأهّل للاجتهاد، وفشوّ التقليد المشوب بالتعصب المذهبي، وكان من مساوئ ذلك شيوع الحيل الفقهية التي كانت في أصلها مخارج شرعية، وتلك علامة ظاهرة على الإنحراف عن مقاصد الشارع من أحكامه وغياب تصور واضح للكليات الشرعية، وفي ذلك يقول محمد الطاهر بن عاشور:"كان إهمال المقاصد سببًا في جمودٍ كبيرٍ للفقهاء ومعولًا لنقض أحكام نافعة، وأشأم ما نشأ عنه مسألة الحيل، التي ولع بها الفقهاء بين مكثر ومُقِلّ". (1) وقد حاولت حركةُ التقعيد الفقهي تدارك هذا النقص بوضع قواعد فقهية عامة تضبط الجزئيات وترجعها إلى أصولها الكلية، ومع نجاحها إلى حدٍّ ما فإنها
لم تكن كافية للتخلص من ذلك.
وكما كان الإستحسان مخرجًا مما قد ينتج عن الإلتزام الصوري بالقياس من إخراج لبعض الأحكام عن القواعد الكلية للشريعة ومقاصدها العامة؛ إذْ هو في جوهره عدول عن قياس ظاهر توفرت فيه كلّ شروط القياس لأن نتيجته قد تؤدي إلى مخالفة قواعد الشريعة ومقاصدها العامة، فقد جاء إبراز مقاصد الشريعة وإفرادها بالتأليف للتخفيف من غلواء التقليد والتعصب المذهبي والإهتمام بالجزئيات على حساب الكليات ليتمّ الرجوع بالفقه إلى ما كان عليه في زمان الصحابة والتابعين وكبار الأئمة. وقد كان من رواد هذه الحركة الجويني، والغزالي، وابن تيمية، وابن القيم، والعز بن عبد السلام، والقرافي لِتُتَوَّجَ تلك الجهود على يد
(1) ابن عاشور، محمد الطاهر: أليس الصبح بقريب، (تونس: الشركة التونسية لفنون الرسم، ط 2، 1988 م)، ص 200.
الإمام الشاطبي في كتابيه الموافقات والإعتصام اللذين كَانَا ثمرة المعاناة التي عاشها هو ذاته في الصراع مع تيار التعصب المذهبي المذموم والإبتداع، وقد حكى طرفًا من ذلك في كتاب الموافقات ومقدمة الإعتصام.
إشكالية البحث:
مع التسليم بأهمية البُعْد المقاصدي في الإجتهاد، وضرورة إنضاج المعالم الأساسية لنظرية المقاصد، يبقى السؤال: كيف نتعرّف على مقاصد الشارع؟ ما المسالك والأدوات المنهجيّة التي ينبغي استخدامها لتحديد مقاصد الشارع التي تشكَّلُ بعد ذلك أسس وضوابط الإجتهاد؟ ثمّ بعد معرفة هذه المسالك، ما السبيل إلى تنزيلها على الواقع لإستخراج المقاصد الشرعية بأنواعها: العامة والخاصة، والكلية والجزئية؟ كيف استخدمها الفقهاء والأصوليون في اجتهاداتهم، كيف يمكن أن نستخدمها اليوم؟ وبناءً على أهمية هذا الموضوع ومحوريّته في نظرية المقاصد فإنه في حاجة إلى مزيد من الدراسة والتحليل؛ ذلك أن نظرية المقاصد لا يكتمل بناؤها، ولا تؤتي ثمرتها تنزيلاً على الواقع إلّا إذا حُدّدت تلك المسالك والوسائل المنهجية التي يستخدمها المجتهد في استخراج مقاصد الشارع التي تكون هاديًا له في اجتهاده.
أهمية الموضوع:
لم يكن الإمام الشاطبي مخالفًا لسلفه من العلماء عندما جعل العلم بمقاصد الشريعة والإحاطة بها، ثُمّ القدرة على تنزيلها على الواقع. خلاصة الشروط الواجب توفرها في المجتهد، ذلك أنهم فَصَّلُوا فعدَّدُو الوسائل التي يُعِينُ توفرُها المجتهدَ على تحصيل إمكانية فهم النصوص وإدراك مقاصد الشارع منها والإحاطة بها، وتجاوز الشاطبي التفاصيل، وصوَّب نظره إلى الجوهر، فلخّص شروط المجتهد في الإتصاف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني: التمكن من الإستنباط بناءً على فهمه فيها. (1)
(1) انظر الشاطبي، أبا إسحاق: الموافقات، تعليق عبد الله دراز، وضع تراجمه محمد عبد الله دراز وخرج آياته وفهرس موضوعاته عبد السلام عبد الشافي محمد، (بيروت: دار الكتب العلمية، د. ط، د. ت) مج 2، ج 4، ص 76.
والحديث عن موضوع المقاصد الشرعية يطرح قضية في غاية الأهمية في فهم نصوص الشريعة، هي أهميّة الإعتماد على الكلّيّات الشرعيّة وتحكيمها في فهم النصوص الجزئية وتوجيهها، والتعامل مع النصوص الشرعية بوصفها وحدة متكاملة يكمل بعضُها بعضًا ويعضِده، وهو نوع من أنواع ردِّ المتشابهات إلى المحكمات، والجزئيات إلى الكليات. فكليات الشريعة -وهي مقاصدها العامة- هي الأصول القطعية الحاكمة لكلّ اجتهاد وتفكير إسلامي.
ولَمّا كان الكلام في مقاصد الشريعة كلامًا فضفاضًا قد يحمله البعض على غير وجهه الصحيح، فيُدْخِل في مقاصد الشريعة ما ليس منها ويخرج منها ما هو من صميمها، جاءت أهمية الكتابة في بيان المسالك والطرق التي يمكن بها التعرّف على تلك المقاصد، وضبطها حتى لا يتحوّل الإحتجاج بمقاصد الشريعة إلى ثغرة يدخل منها خصوم الإِسلام لتدميره باسمه.
وقد كانت هذه الأهمية التي تكتسبها مقاصد الشريعة هي التي دفعت الباحث إلى اختيار هذا الموضوع، فضلاً عن أنه -حسب اطلاع الباحث- لم يُفْرد إلى الآن ببحث أكاديمي متكامل يتناول جميع جوانبه بالبحث والتحليل، ولم يتعرض له بالبحث المستقلّ سوى الشاطبي في الموافقات، ومحمد الطاهر بن عاشور في مقاصد الشريعة الإِسلامية، إلّا أنه كان تناولًا موجزًا، وهو موضوع يحتاج إلى كثير من البحوث والدراسات حتى يمكن تحديد معالمه وضوابطه والوصول به إلى مرحلة النضج.
الدراسات السابقة:
لم يكن الحديث عن المقاصد الشرعية وسبل التعرف عليها غائبًا عن علماء الصدر الأول (1)، ولكن أوّل من أفرد هذه المسالك بمبحث مستقلّ في مؤلفاته هو
(1) انظر في ذلك مثلًا ما ذكره أبو حامد الغزالي في باب الإستصلاح من أن الطرق التي تعرف بها مقاصد الشرع هي الكتاب والسنة والإجماع. انظر الغزالي، أبا حامد: المستصفى من علم الأصول، تصحيح نجوى ضو، (بيروت: دار إحياء التراث العربي/ مؤسسة التاريخ العربي، ط 1، 1418 هـ/ 1997 م)، ج 1، ص 222، وما ذكره العز ابن عبد السلام من أن مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدها تعرف بالكتاب والسنة والإجماع والقياس والإستدلال الصحيح والعقل. انظر ابن عبد السلام، عز الدين بن عبد العزيز: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، (بيروت: مؤسسة الريان، 1410 هـ/ 1990 م)، ج 1، ص 10.
الإمام الشاطبي، الذي خصص الجزء الثاني من كتابه الموافقات لموضوع المقاصد الشرعية دراسةً وتحليلاً. وبعد دراسة طويلة ومتشعّبة للمقاصد تنظيرًا وتدليلًا، وصل أخيرًا إلى الحديث عن المسالك التي يمكن من خلالها التعرّف على تلك المقاصد، فقال:"فإنّ للقائل أنْ يقول: إنّ ما تقدم من المسائل في هذا الكتاب مبنيّ على المعرفة بمقصود الشارع؛ فبماذا يُعرف ما هو مقصود له مما ليس بمقصود له؟ "(1)
استهلّ الشاطبي حديثه عن هذا الموضوع بمسألة في غاية الحساسية، وهي علاقة مقاصد الشارع بنصوصه، حيث أشار إلى وجود ثلاثة اتجاهات في ذلك: الإتجاه الظاهري الذي يَقْصِر مسالك الكشف عن مقاصد الشارع على ما صرّحت به ظواهر النصوص دون أن يُعطي كبيرَ اهتمام لعلل الأحكام، والمقامات التي صدرت فيها، والظروف والملابسات التي صاحبتها، وما يمكن أن يكون لذلك من تأثير في فهمها وتنزيلها على ما يَجِدُّ بعد ذلك من وقائع. والإتجاه الباطني الذي يُهْدر ظواهر النصوص، ويسعى إلى التخلص منها بدعوى أنها ليست مقصودة لذاتها، ويجعل عمدته في اكتشاف مقاصد الشارع معاني باطنية يزعمها أصحاب هذا الإتجاه من غير أن تسندها أدلّة يُعتَدُّ بها، وإنما هي مجرد دعاوى ليست لها على أضدادها مزيّة. ويبرز هذا الإتجاه عند الفِرَق الباطنية القديمة ومن يُعدُّ امتدادًا لهم من بعض العلمانيين من المعاصرين الذين لم يجرؤوا على ردَّ النصوص الشرعية صراحة، فراموا التخلص منها بدعوى أنها لم يُقْصد منها ظواهرها، وإنما قُصِد بها تحقيق المصلحة التي تتغير بتغير الأزمان والظروف. والاتجاه الثالث، وهو منهج التوسط، وهو اعتبار ظواهر النصوص ومعانيها في مسلك توافقي لا يسمح بإهدار أحد الجانبين على حساب الآخر ولا بطغيان أحدهما على الآخر؛ فيعطي للنص حقّه وأبعاده التي يكون قد قصدها الشارع، وذلك من خلال عدم إهمال الأدوات المُعِينة على حسن فهم النص وتطبيقه مِنْ عللٍ، وقرائنَ، ومقاماتٍ، وعقلٍ، وجمعِ النصوص الجزئيّة بعضها إلى بعض لتتضح الصورة الكلية.
(1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 297.
ثم انتقل إلى الحديث عن تلك المسالك، فذكر منها أربعة:(1)
الأول: مجرّد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي؛ فالأمر دالّ بذاته على قصد الشارع إلى إيقاع المأمور به، والنهي كذلك دالّ بذاته على قصد الإنتهاء عن المنهي عنه.
وتقييد كلًّ من الأمر والنهي بوصف الصراحة يُقصَدُ منه الإحتراز من الأمر أو النهي الضمني، كالنهي عن أضداد المأمور به؛ إذ الأمر بالشيء يتضمن النهي عن كلّ ما يحول دون تحصيل ذلك المأمور به، والأمر الذي يتضمنه النهي عن الشيء؛ فإن النهي عن الشيء قد يتضمن الأمر بإيقاع ضده، ولكن كلاّ منهما غير مقصود بالقصد الأول، وإنما هو تابع لصريح الأمر أو النهي ومُتَضَمَّن فيهما، وقد لا يكون مقصودًا للآمر أو الناهي تحصيلهما، خاصة في حال إمكان انفكاك أحدهما عن الآخر.
والأمر أو النهي الصريح مُتَّفَق على كون الأمر أو النهي فيه مقصودًا للآمر أو الناهي، أما ما يمكن أن يتضمنه الأمر أو النهي من معاني ومقاصد فهو غير ظاهر في ذلك، ويحتاج في التعرف على كون 5 مقصودًا أو غير مقصود إلى قرائن وشروط أخرى، وهو مُدْرَج ضمن ما يحتاج في فهمه إلى معرفة ما يحفّ به من قرائن، وما ورد فيه من سياق للتأكد من كونه مقصودًا للشارع أو غير مقصود.
أما تقييدهما بالإبتداء فهو احتراز من الأمر أو النهي الذي قُصِدَ به غيره؛ وهو ما كان وسيلة إلى تحقيق مقصد أو خادمًا له. ومثّل له الشاطبي بقول الله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، "فإن النهي عن البيع ليس نهيًا مبتدأً، بل هو تأكيد للأمر بالسعي، فهو من النهي المقصود بالقصد الثاني، فالبيع ليس منهيًّا عنه بالقصد الأول، كما نهي عن الربا والزنى مثلاً". (2)
ولكن هذا وإن لم يكن مقصودًا بالقصد الأول فهو مع ذلك يبقى مقصدًا من
(1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 298 - 313.
(2)
انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 298.
مقاصد الشارع؛ لأن الأول لا يتحقق إلّا بالثاني، فهو طريق للكشف عن مقاصد الشارع، ولا بأس في ذلك من كونه إنما يُعرف به ما قُصِد بالقصد الثاني لا بالقصد الأول.
والملاحظ أن هذا المسلك يمثل جزءًا من مسلك أوسع، هو مسلك استخلاص المقاصد من ظواهر النصوص الشرعية التي ثبت عدم صرفها عن ظاهرها، وبناءً على ذلك سيدرجه الباحث ضمن هذا المسلك.
الثاني: اعتبار علل الأمر والنهي. والعلة إما أن تكون معلومة أو لا تكون كذلك، فإذا كانت معلومة لزم اعتبارها، فحيث وُجِدَت وُجِد مقتضى الأمر أو النهي. أما إذا لم تُعْلَم العلّة فإنه ينبغي التوقف عن القول بأن الشارع قاصد إلى تعديّة ذلك الحكم من المنصوص عليه إلى المسكوت عنه. (1)
الثالث: أن للشارع في شرع الأحكام مقاصد أصليّة ومقاصد تبعيّة، ومع كون المقاصد الأصلية هي الأساس، إلّا أنها لا يمكن أن تقوم بمفردها، ولا يمكن أن تتحقق على التَّمام إلّا إذا تحقّقَ ما يخدمها ويكمِّلها، ومن ثَمّ فكلّ ما ثبت كونُه خادمًا ومحققًا للمقاصد الأصلية عُدَّ مقصودًا للشارع، ولزم مراعاته والعمل على تحقيقه، من باب ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب، فهذا مسلك يُستَدلّ به على أن كلّ ما لم يُنصّ عليه مما شأنه كذلك فهو مقصود للشارع أيضاً. (2)
الرابع: سكوت الشارع عن شرع التسبُّب أو عن شرعيّة العمل مع قيام المعنى المقتضي له. فهذا الضرب من السكوت يُنزَّلُ منزلة النصّ على أن الشارع يريد الإلتزام بما كان معروفًا في زمن التشريع من غير زيادة عليه ولا نقصان منه. (3)
ولكن سيتبيّن أن هذا إنما يصدق على العبادات، أو المعاملات التي ظهر فيها معنى التّعبّد دون غيرها من المعاملات التي بُنيت على التعليل ومعقوليّة المعنى.
(1) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 299 - 300.
(2)
انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 300 - 303.
(3)
انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 310 - 313.
ومع أن ما كتبه الشاطبي يمثّل أساس موضوع مسالك الكشف عن مقاصد الشارع، إلّا أن دراسته -شأن الدراسات المؤسِّسة في كلّ العلوم- جاءت مجملة غير محيطة إحاطة كاملة بالموضوع فهي -مع إمكان اعتمادها أساسًا لدراسة هذا الموضوع- تبقى في حاجة إلى تفصيل، وتمحيص، وزيادة، وهو ما سعى إليه محمد الطاهر بن عاشور وآخرون بعد ذلك، ويسعى هذا المبحث إلى الإسهام فيه.
ومن أبرز ما يلاحظ على المسالك التي أوردها الشاطبي أنها مسالك جزئية قد لا تصلح لإستخراج المقاصد العامة والكلية، وإنما مجالها استخراج المقاصد الجزئية، اللهُمَّ إلّا المسلك الأول، وهو تبيُّن قصد الشارع من مجرد الأمر والنهي الواردين في ظواهر النصوص الشرعية؛ إذْ يمكن استخدامه في استخراج بعض المقاصد العامة والكلية، خاصة إذا تعلق الأمر بالآيات التي نصّت على مبادئ تشريعية كلّية، وبجوامع الكَلِم من السنّة، أما المسالك الأخرى فإنه لا يمكن استخدامها في استخراج المقاصد العامة والكلية إلّا إذا أضيف إليها عنصر الاستقراء.
والغريب أن الإمام الشاطبي مع كونِ عمدته الأساسية في الكشف عن مقاصد الشارع تمثلت في الاستقراء، وقد سارع إلى بيان ذلك منذ خطبة الكتاب، حيث يقول: "
…
لم أزل أقيّد من أوابده، وأضمّ من شوارده، تفاصيل وجملاً، وأسوق من شواهده، في مصادر الحكم وموارده، مبينًا لا مجملاً، معتمدًا على الاستقراءات الكلية، غير مقتصر على الأفراد الجزئية
…
"، (1) وأعطاه مكانة بارزة لم يعطها له أحد من علماء الشريعة قبله، إلّا أنه عندما جاء إلى بيان المسالك التي تُعرف بها المقاصد أهمل بالكلية هذا المسلك، ولم يورد له ذكرا.
وإذا نظرنا إلى ما كتبه الشاطبي من الناحية المنهجية، فإنه يمكن القول إنه كان على الشاطبي أن يصدَّر كتاب الموافقات ببيان هذه المسالك، ذلك أن من مقتضيات التأليف والبحث المنهجيين أن يصدَّر المؤلَّف مؤلَّفَه ببيان الوسائل والمناهج التي سيعتمدها في بحثه، فكان الأجدر بالشاطبي -قبل أن يشرع في بيان واستخراج مقاصد الشارع- أن يبيَّن منهجه في ذلك.
(1) المصدر السابق، مج 1، ج 1، ص 16.
أما الشيخ محمد الطاهر بن عاشور فإنه -على خلاف الشاطبي- قد جعل مسالك الكشف عن مقاصد الشارع في بداية كتابه. فبعد إثبات أن للشريعة مقاصد من شرع الأحكام، وبيان حاجة الفقيه إلى معرفة هذه المقاصد انتقل إلى الحديث عن طرق إثبات المقاصد الشرعية، فعدَّد منها ثلاثة طرق، هي:(1)
1 -
استقراء الشريعة في تصرفاتها، وهو على نوعين:
الأول: استقراء الأحكام المشتركة في علّة واحدة ليحصل من ذلك يقين بأن تلك العلة مقصد مراد للشارع، وفي ذلك يقول:"أعظمها استقراء الأحكام المعروفةِ عللُها، الآيل إلى استقراء تلك العلل المثبتة بطرق مسالك العلة. فإن باستقراء العلل حصولَ العلمِ بمقاصد الشريعة بسهولة، لأننا إذا استقرينا عللاً كثيرة متماثلة في كونها ضابطًا لحكمة متّحدة، أمكن أن نستخلص منها حِكْمة واحدة فنجزم بأنها مقصد شرعي، كما يُسْتَنْتَجُ من استقراء الجزئيات تحصيلُ مفهوم كُلّيٍّ حسب قواعد المنطق". (2)
والثاني: "استقراء أدلّة أحكام اشتركت في علّة بحيث يحصل لنا اليقين بأن تلك العلة مقصد مراد للشارع". (3)
2 -
الإستخلاص المباشر لمقاصد الشارع من ظواهر النصوص القرآنية الواضحة الدلالة إلى درجة يضعف فيها احتمال كون المراد منها غير ظاهرها، وأعلى المقاصد التي تُستنبط من هذا الطريق هي التي تؤخذ من نصوص تجتمع فيها قطعية الثبوت مع قوة الظهور إلى درجة تقترب من اليقين. (4)
3 -
الإستخلاص المباشر من السنّة المتواترة، وهو على قسمين:
الأول: من السنّة التي حصل تواترها المعنوي من مشاهدة عموم الصحابة عملاً
(1) ابن عاشور، محمد الطاهر: مقاصد الشريعة الإِسلامية، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي، (د. م: البصائر للإنتاج العلمي، ط 1، 1418 هـ / 1998 م)، ص 124 - 129.
(2)
المصدر السابق، ص 125.
(3)
المصدر السابق، ص 126.
(4)
انظر المصدر السابق، ص 127.
من أعمال النبي صلى الله عليه وسلم فيحصل لهم علمٌ بتشريعٍ في ذلك يستوي فيه جميع المشاهدين، وهو الطريق الذي تثبت منه المعلومات من الدين بالضرورة.
الثاني: تواتر عملي يحصل لآحاد الصحابة من تكرّر مشاهدة أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحيث يستخلص من مجموعها مقصدًا شرعيًا. (1)
ويبدو أن ابن عاشور يقصر هذا المسلك على الصحابة فقط لما يحصل لهم من تواتر في تلك السنن وتعذُّر ذلك على من جاء بعدهم إلّا من خلال القيام بعملية استقراء، وهو الذي أشار إليه في المسلك الأول.
وقد عدّ ابن عاشور "طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة وتمحيص ما يصلح لأن يكون مقصوداً لها" طريقًا يُنزّل منزلة طرق الكشف عن المقاصد، إلّا أنه لم يدرجه ضمن تلك الطرق من حيث إنه لم تثبت حجيّة كلّ أقوال السلف، بل منها ما هو حجّة، ومنها ما هو مجرّد رأي من صاحبه في فهم الشريعة، ولكن التأمل في أقوالهم يُبيِّن وجوب اعتبار مقاصد الشريعة على الجملة. (2)
وعلى أهمية ما كتبه ابن عاشور - حيث يمكن أن يضاف إلى ما كتبه الشاطبي ليكونا معًا أساس دراسة مسالك الكشف عن المقاصد - إلّا أنه لا يمكن اعتباره دراسة وافية، بل مجرد تمهيد لطريق المبحث في هذا الموضوع. ويبدو أن ابن عاشور اعتنى بتطبيق منهجه هذا عمليًّا في كتاباته أكثر من اهتمامه بالتنظير له.
وقد أجرى الدكتور عبد المجيد النجار دراسة مقارنة بعنوان: مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة بين الشاطبي وابن عاشور (3) استعرض فيها موضوع الكشف عن مقاصد الشريعة: مقدماته، ومسالكه عند كلٍّ من الإمام الشاطبي، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور ثُمّ المقارنة بينهما، حيث أشار إلى أن المسالك التي أوردها الشاطبي
(1) انظر المصدر السابق، ص 127 - 129.
(2)
انظر المصدر السابق، ص 130 - 134.
(3)
وهو في أصله مقال نشر في العدد الأول من مجلة العلوم الإِسلامية التي تصدرها جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإِسلامية بقسنطينة، الجزائر. ثم نشره ضمن كتابه: فصول في الفكر الإِسلامي بالمغرب، (بيروت: دار الغرب الإِسلامي، ط 1، 1992 م)، ص 139 - 161.
تتسم بكونها جزئية في الغالب، "حيث اتجهت إلى رسم الطريق في المبحث عن المقاصد في نطاق آحاد الأحكام، لا في نطاق المقاصد الكلية العامة، وهو ما يظهر بجلاء في المسالك الثلاثة الأخيرة". (1) وقد أرجع سبب ذلك إلى طبيعة العمل الذي قام به الشاطبي بكونه "عملاً مبتكرًا أو يكاد، وهو ما جعله ينحو منحى التجزئة والتفصيل والتدقيق في بسط المقاصد وتحليلها، وبيان حقائقها وأوضاعها، فجاء مؤَلَّفُه متكاثرة مسائله متنوعة متعددة قضاياه". (2)
أما ابن عاشور فإنه قد وجد أساس علم المقاصد مرفوعًا فعمد إلى البناء عليه مع تهذيبه، والسعي إلى الوصول به إلى مرحلة النضج، فكان تركيزه على الطرق التي تعرف بها المقاصد العليا، ولذلك نجده قد جعل الاستقراء أولها وأعظمها.
وفي نهاية المبحث خلص إلى القول: "لا شك أن ما قدّمه الإمامان يُعتبر مادة ثريّة في الإستكشاف المقاصدي لا غنى لباحث أصولي عنها، كما أنه يُعتبر قفزة نوعية في جنس البحوث الأصولية، ولحن تطور الأوضاع، واستجداد الملابسات تدعو إلى أن تكرم هذه الثروة بتزكيتها بالبحث للبناء عليها أسًّا متينًا، وفي مستجدات العلوم اليوم: لغوية واجتماعية ونفسية واقتصادية ما يعين على تطوير البحوث في مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة". (3)
منهجية البحث:
يشتمل البحث على مقدمة وبابين وخاتمة.
جاءت المقدمة في بيان أهمية الموضوع، وملخص لأبرز الدراسات السابقة حوله.
أما الباب الأول فهو في كيفية استخلاص المقاصد من منطوق النصوص ومفهومها ومعقولها، وقد اشتمل على خمسة فصول.
(1) المصدر السابق، ص 158.
(2)
المصدر السابق، الصفحة نفسها.
(3)
المصدر السابق، ص 160.
الفصل الأول: وهو بمثابة تمهيد للموضوع، حيث يتناول التعريف بمقاصد الشريعة، وبيان أنواعها وتقسيماتها، ثم يعرض بشيء من التفصيل إلى بيان أهمية العلم بمقاصد الشريعة خاصة لمن يتصدى للفتوى والإجتهاد، حيث تكون عونًا وهاديًّا له في حسن فهم النصوص وإدراك ما خفي من المعاني، والترجيح بين ما يبدو فيه تعارض منها، وحسن تنزيلها على الواقع بمراعاة مآلات تلك الأحكام ومدى تحقيقها لما قصده الشارع منها.
أما الفصل الثاني: فهو في بيان أن أوّل ما تُستخلَص منه مقاصد الشارع هي ظواهر نصوصه، لأنها هي وعاء أمره ونهيه، وهي المتضمن لإرادته.
فإذا تبيّن أن تلك الظواهر غير مقصودة، أو لم تكن واضحة إلى الدرجة التي تُستخلص منها المقاصد استخلاصًا مباشرًا، انتقل الباحث إلى البحث عن القرائن والظروف والملابسات التي ورد فيها ذلك الخطاب للإستعانة بها على تحديد المقصود منه، وهو موضوع الفصل الثالث.
فإذا لم يكن منطوق النص وافيًّا بمقصد الشارع انتُقِلَ إلى معقوله، وذلك من خلال البحث عن علل النصوص وحِكَمها، وتكون بعض مسالك العلة طريقَ المجتهد في استخراج مقاصد الشارع من معقولِ نصوصه، وهو موضوع الفصل الرابع.
أما الفصل الخامس: فقد خصص لدراسة كيفية دلالة سكوت الشارع على مقاصده من خطاباته، وبيان ما يصلح منه ليكون كذلك وما لا يصلح.
أما الباب الثاني فهو مخصص لمسلك الاستقراء، وقد تَمّ إفراده بباب مستقلّ لأهميته في الكشف عن المقاصد العامة واستخراج الكليات الشرعية، ولأنه لم ينل حظه من الحث في الدراسات الشرعية، ولِمَا يكتنفه من خلاف حول أهميته في هذه الدراسات وحول إمكانية التوصل من طريقه إلى نتائج قطعية أو قريبة من القطع. وقد جاء في ستة فصول.
الفصل الأول: في تعريف الاستقراء قديمًا وحديثًا، وبيان أقسامه ودلالة كلّ قسم
منه.
الفصل الثاني: في لمحة عن الاستقراء في العلوم الشرعية، حيث يتبيَّن أن الإستدلال الإستقرائي استدلال أصيل في العلوم الشرعية، وليس وليدَ انتقالِ التراث اليوناني إلى العالم الإِسلامي، فهو حاضر بجلاء في المجال التطبيقي عند علماء المسلمين وإن لم يُعْتَنَ به كثيرًا في المجال النظري.
ولَمّا كان الشاطبيّ أبرز من اعتنى من الأصوليين بمبحث الاستقراء، وأعطاه بعدًا تطبيقيًّا واسعًا في مجال المقاصد الشرعية كان من اللازم إفراده بالدراسة، فخُصَّص لذلك الفصل الثالث من هذا الباب.
أما الفصل الرابع فقد خُصص لرأي ابن عاشور في الإستدلال الإستقرائي في مجال مقاصد الشريعة، وكيفيّة تطبيقه إياه.
وبعد هذه الدراسة المستفيضة للإستدلال الإستقرائي جاء الفصل الخامس لتقييمه: ما له وما عليه، وليبيَّن الفروق التي يجب مراعاتها بين الاستقراء في العلوم الطبيعية والاستقراء في العلوم الشرعية خصوصًا والعلوم الإجتماعية عموما.
أما الفصل السادس فهو دراسة تطبيقية لبيان كيفية استثمار الإستدلال الإستقرائي في المقاصد العامة للشريعة الإِسلامية، واستخلاص الكليات من جزئيات النصوص والأحكام.
ثم تأتي خاتمة البحث لإبراز بعض الخلاصات والتوصيات.