الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
الاستقراء في العلوم الشرعية
المطلب الأول
الاستقراء عند الأصوليين
تعريفه:
لم يختلف تعريف غالب الأصوليين للإستقراء عن تعريف المناطقة، ولا غرابة في ذلك فهو مبحث منطقي أساسًا، استُعِيرَ من فنّ المنطق. وليس معنى ذلك أنه لم يُسْتَعْمَل مِنْ قِبَل علماء المسلمين قَبْل ترجمة الفلسفة اليونانية وبدْء التأليف في المنطق، بل قدّ نبه عليه القرآن الكريم، واستعمله الفقهاء من بعد ذلك، وإن لم يسمُّوه باسم الاستقراء، كثيرًا ما يسميه الفقهاء بـ إلحاق الفرد بالأعم الغالب". (1)
مكانته:
اختلف موقف الأصوليين من عَدِّ الاستقراء مبحثًا من المباحث الأصولة، إذْ نجد بعضهم لم يدرجه ضمن مباحث الأصول، في حين أدرجه بعضهم ضمنها.
ويبدو أن الاستقراء عندهم بدأ مبحثًا منطقيًّا يُدرج ضمن المقدمات المنطقية التي يُقَدَّمُ بها لكتب الأصول، والتي بدأها أبو حامد الغزالي في كتابه المستصفى. فالغرالي لم يدخله ضمن مباحث أصول الفقه، وإنما تناوله في كتبه المنطقية، (2) كما عرض له في كتابه المستصفى من علم الأصول ضمن المقدمات المنطقية التي وصفها بأنها ليست "من جملة علم الأصول، ولا من مقدماته الخاصة به". (3)
وتبعه في ذلك ابن قدامة في روضة الناظر وجنة المناظر فجعله آخر مبحث من
(1) انظر الفتوحي: شرح الكوكب المنير، ج 4، ص 419.
(2)
انظر كابيه: محك النظر، ومعيار العلم في فن المنطق.
(3)
الغزالي: المستصفى، ج 1، ص 21.
المقدمة المنطقية التي بدأ بها كتابه، ويظهر أن كلامه في الاستقراء تلخيص لكلام الغزالي. (1)
ثم انتقل بعد ذلك ليصير دليلًا من الأدلة الأصولية الثانوية. ومن الذين تناولوه ضمن مباحث الأصول الإمام الرازي في كتابه المحصول حيث أدرجه ضمن الأدلة المختلف فيها، (2) وتبعه في ذلك البيضاوي الذي قسَّم الأدلة المختلف فيها إلى مقبولة، وغير مقبولة، وجعل الاستقراء ثالث الأدلة المقبولة. (3) أما الإمام تاج الدين عبد الوهاب ابن السبي في جمع الجوامع فقد جعله ضمن باب الإستدلال، (4) وكذلك فعل ابن النجار الحنبلي في شرح الكوكب المنير (5)
أقسام الاستقراء:
لم يختلف تقسيم الأصوليين للإستقراء عن تقسيم المناطقة، فقد قسموه إلى
استقراء تام، واستقراء ناقص، ولكن منهم من خالفهم في تعريفه.
1 -
الاستقراء التام: يلاحظ الناظر في تعريفات الأصوليين للإستقراء التام وجود اتجاهين:
الإتجاه الأول سار أصحابه مع التعريف المنطقي، ومنهم الغزالي، والبيضاوي، وذلك باشتراطهم كون الاستقراء التام مستوعبًا لجميع الجزئيات الداخلة تحت المعنى الكلي. حيث يؤكد الغزالي أنه "لا يكفي في تمام الاستقراء أن تتصفح ما وجدته شاهدًا على الحكم، إذا أمحن أن ينقل عنه شيء"، (6) أي أنه ما دام هناك احتمال أو إمكانية وجود جزئي ينضوي تحت هذا المعنى الكلي، ولوفي المستقبل، فإن الاستقراء لا يُعدُّ تاما.
(1) انظر ابن بدران الدمشقي: نزهة الخاطر العاطر شرح كتاب روضة الناظر وجنة الماظر، ج 1، ص 88 - 89.
(2)
انظر الرازي: المحصول، ج 6، ص 161.
(3)
انظر الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 114.
(4)
انظر البناني: حاشية البناني على شرح الجلال المحلي على متن جمع الجوامع، ج 2، ص 345 - 346.
(5)
انظر ابن النجار: شرح الكوكب المنير، ج 4، ص 417 - 421.
(6)
الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص 151.
وهذا الاستقراء التام بشرطه المذكور يفيد القطع.
أما الإتجاه الثاني فلم يلتزم أصحابه بالتعريف المنطقي، ومنهم ابن السبكي في جمع الجوامع، (1) حيث جعل الاستقراء التام هو استقراء كل الجزئيات إلَّا صورة النزاع. وبنفس التعريف عرفه ابن النجار الحنبلي في شرح الكوكب المنير (2) وما اعتبروه استقراء تامًّا هو في الحقيقة استقراء ناقص لأنه لم يشمل صورة التراع، وهي واحدة من جزئيات ذلك الكلي. فكيف يمكن اعتبار الاستقراء تامًّا مع عدم شموله لها؟ كما أن المثال الذي مثلوا له به ليس فيه استقراء تام، وهو"نحو كل جسم متحيز فإنا استقرأنا جميع جزئيات الجسم فوجدناها منحصرة في الجماد والنبات والحيوان، وكل من ذلك متحيز، فقد أفاد هذا الاستقراء الحكم يقينًا في كلي، وهو الجسم الذي هو مشترك بين الجزئيات، فكل جزئي من ذلك الكلي يُحكم عليه بما حُكِم به على الكلي. إلّا صورة النزاع، فيُستدل بذلك على صورة النزاع". (3) فقوله: "إنا استقرأنا جميع جزئيات الجسم" غير مسلَّم، إذْ لم يتم استقراؤها كلها، بل بعضها فقط.
وقد جزم ابن النجار بإفادة هذا الاستقراء القطع بقوله: "وهو مفيد للقطع". (4) أما السبكي فقد ذهب أيضًا إلى أنه يفيد القطع، إلَّا أنه أشار إلى أن البعض يرى أنه يفيد الظن فقط لإحتمال مخالفة تلك الصورة التي لم يشملها الاستقراء، وهي محل النزاع. (5)
وهذا الاستقراء لا يُعدّ عند أصحاب الإتجاه الأول تامًّا، ونتيجته ليست قطعية، بل هي ظنية فقط.
2 -
الاستقراء الناقص: أما الاستقراء الناقص فهو استقراء أكثر الجزئيات لإثبات الحكم للكلي المشترك بين جميع تلك الجزئيات، (6) أي أنه الاستقراء الذي لا
(1) انظر البناني: حاشية البناني على شرح الجلال المحلي على متن جمع الجوامع، ج 2، ص 345 - 346.
(2)
انظر ابن النجار: شرح الكوكب المنير، ج 4، ص 418 - 419.
(3)
المصدر السابق، الصفحة نفسها.
(4)
المصدر السابق، ج 4، ص 419.
(5)
انظر البناني: حاشية البناني على شرح الجلال المحلي على متن جمع الجوامع، ج 2، ص 345 - 346.
(6)
انظر في ذلك مثلًا: ابن النجار: شرح الكوكب المنير، ج 4، ص 419؛ الغزالي: المستصفى، ج 1، ص 55 - 56.
يستوعب كل الجزئيات. ولكن ينبغي التنبيه هنا على أن هذا الإستيعاب إذا تخلفت عنه صورة واحدة، هي محل الإستدلال فإنه يصير استقراء تامًّا عند أصحاب الإتجاه الثاني في تعريف الاستقراء التام، أما عند أصحاب الإتجاه الأول فإنه يبقى استقراءً ناقصًا.
وقد استشكل ابن قاسم العبادي في حاشيته على المحلِّي تقييد الاستقراء الناقص بكونه تتبع أكثر الجزئيات، بأنه يلزم عنه خروج ما يكون بنصف الجزئيات فأقل، فلا يكون استقراء، بهذا الإعتبار، ويُشْكل بذلك الأمر في كثير من المسائل التي اعتمد الفقهاء فيها على استقراء بعض الجزئيات، وليس أكثرها، ولذلك اقترح ترك التقييد بالأكثر والإكتفاء بالتقييد بالبعض، مع ضبط ذلك البعض بما يحصل معه ظن عموم الحكم. (1)
نتيجة الاستقراء بين القطع والظن:
أ - الاستقراء التام:
اتفق الأصولون على الإحتجاج بالاستقراء التام، وإفادته القطع. (2) وقد حدد الشربيني شروط إفادته القطع فيما يأتي:(3)
1 -
أن يكون حصر جزئيات الكلي قطعيًا، بأن يقطع بأنه ليس له جزئيات أخرى غير تلك المحصورة.
3 -
أن يكون ثبوت ذلك الحكم لآحاد تلك الجزئيات قطعيًا.
وقد قلّل البعضُ من أهمية هذا النوع من الاستقراء، حيث يرى الغزالي مثلًا أن الجزئية التي يراد الإستدلال عليها بالاستقراء الضام: إما أن يكون المستقرئُ قد
(1) انظر العبادي، أحمد بن قاسم: الآيات البينات على شرح جمع الجوامع، ضبطه وخرج آياته وأحاديثه زكريا عميرات، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1417 هـ/ 1996 م)، ج 4، ص 246.
(2)
انظر مثلا: الغزالي: المستصفى، ج 1، ص 56؛ ابن النجار: شرح الكوكب المنير، ج 4، ص 419؛ الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 114.
(3)
الشربيني: تقرير الشربيني على حاشية البناني، ج 2، ص 345.
تصفحها أثناء عملية الاستقراء، فيكون قد عرفها وعرف حكمها قبل الوصول إلى نتيجة الاستقراء، ولم تَعُدْ هناك حاجة للإستدلال عليها بالاستقراء، وإما أن لا يكون قد تصفحها أثناء عملية الاستقراء وعند ذلك لا يُعَدُّ هذا الاستقراء تاما، بل هو استقراء ناقص. (1)
وأرجعه عبد الرحمن الشربيني في تقريره على حاشية البناني على شرح الجلال المحلِّي إلى ما يُسَمّى بالقياس المقسِّم، وذهب إلى أن الأصوليين والفقهاء لا حاجة بهم إلى هذا النوع من الاستقراء؛ "لأنه مبنيٌّ على علم ثبوت الحكم في جميع الجزئيات، والأصوليون إنما يحتاجون الدليل لعلم حكم الجزئي، والفرض أنه معلوم"، (2) أي لما كان الاستقراء تامًا، فقد تَمَّ التعرف على حكم كلّ الجزئيات قبل الوصول إلى الحكم الكلي. ومن ثَمَّ لم تبقَ حاجة للإستدلال به على الجزئيات. ويرى الإمام الشربيني أن الاستقراء عند الأصوليين دائمًا ناقص عند المناطقة. (3)
ب - الاستقراء الناقص:
أما الاستقراء الناقص فإنه يفيد الظن المعمول به عند جمهور الأصوليين. (4) ويعلل الغزالي مصداقية العمل به بأنه كما ازداد عدد الأصول (أي الجزئيات) الشاهدة لأمر ما زاد الظن فيه، فإذا وجد الأكثر على نمط لم يبقَ الإحتمال على التعادل، بل رَجَحَ بالظنّ أحدُ الاحتمالين، وصار إثبات الواحد وفق الجزئيات الكثيرة أغلب من كونه مستثنى على الندور (5) وكلما كان عدد الجزئيات المستقرأة أكثر كان الظن الذي يفيده الاستقراء الناقص أقوى، وبالعكس. وما دام هذا النوع من الاستقراء يفيد الظن فإنه حجة؛ لوجوب العمل بالظن في الشرعيات. (6) إلّا أن الإمام
(1) انظر الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص 153.
(2)
الشربيني: تقرير الشربيني على حاشية البناني، ج 2، ص 345 - 346.
(3)
المصدر السابق، ج 2، ص 345.
(4)
انظر الغزالي: المستصفى، ج 1، ص 55 - 56؛ الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 114؛ ابن النجار: شرح الكوكب المنير، ج 4، ص 419.
(5)
انظر الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص 151، 187.
(6)
انظر الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 114، الرازي: المحصول، ج 6، ص 161.
الرازي رجح عدم إفادته الظن، إلّا إذا انضاف إليه دليل منفصل. (1)
وقد أشار ابن النجار عند حديثه عن الاستقراء الناقص إلى أمر مهم، وهو حالة وجود علة مؤثرة في الحكم، حيث يقول في تريف الاستقراء الناقص: "بأن يكون الاستقراء (بأكثر الجزئيات)، لإثبات الحكم للكلي المشترك بين جميع الجزئيات، بشرط أن لا تتبيَّن العلة المؤثرة في الحكم
…
"، (2) أي أنه إذا تبيَّن وجودُ علة مؤثرة، صار الإعتماد على العلة المؤثرة، ولم يبق الاستقراء مفيدًا مجرّد الظن، بل يصير مفيدًا اليقين، وهو الذي يسمى بالاستقراء المعلَّل، حيث يصير كل جزئي توفرت فيه تلك العلة محكومًا له بحكم ذلك الكلي.
وقد ذهب الغزالي إلى أن الاستقراء الناقص في دلالته على الفقهيات أقوى من التمثيل، الذي هو القياس الفقه. (3) إلّا أن صاحب الإبهاج في شرح المنهاج اعترض على هذا بقوله:"هذا مدخول، لأنه يُشترط في إلحاق الجزئي بالجزئي الآخر أن يكون بالجامع الذي هو علة الحكم، وليس الأمر كذلك في الاستقراء، بل هو حكم على الكلي بمجرد ثبوته في أكثر جزئياته، ولا يمتنع عقلًا أن يكون بعض الأنواع مخالفًا للنوع الآخر في الحكم، وإن اندرجَا تحت جنس واحد". (4)
(1) انظر الرازي: المحصول، ج 6، ص 161.
(2)
ابن النجار: شرح الكوكب المنير، ج 4، ص 419.
(3)
انظر الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص 150.
(4)
السبكي، تقي الدين والسبكي، تاج الدين: الإبهاج في شرح المنهاج، مطبوع على هامش نهاية السول، (مصر: مطبعة التوفيق الأدبية، د. ط، د. ت)، ج 63 ص 114، وانظر ما نقله العبادي في الآيات البينات عن الصفي
الهندي. الآيات البينات، ج 4، ص 247 - 248.