الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
أقسام المقاصد الشرعية
تنقسم المقاصد الشرعية إلى أقسام عديدة، باعتبارات مختلفة:
أولاً - باعتبار مدى شمولها لمجالات التشريع وأبوابه:
تنقسم بهذا الإعتبار إلى مقاصد عامة، ومقاصد خاصة، ومقاصد جزئية.
1 -
المقاصد العامة: "هي المعاني والحِكَم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع، أو معظمها"، (1) أو في أنواع كثيرة منها.
ويدخل في المقاصد العامة: أوصاف الشريعة (مثل الفطرة، والسماحة واليسر)، وغايتها العامة (درء المفاسد وجلب المصالح)، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها (الحِكَم المراعاة في كلّ أبواب الشريعة أو في أكثرها، مثل رفع الحرج، ورفع الضرر، وغيرها). (2)
شروط اعتبار المقاصد العامة:
يرى محمد الطاهر بن عاشور أنه يشترط في المقاصد التي تُعَدّ من المقاصد العامة للشريعة الإِسلامية الشروط الآتية:
أ - أن تكون ثابتة: والمراد بالثبوت أن يكون تحقيقها للمصلحة (جلب نفع
عام، أو دفع ضرر عام) مجزومًا بتحققه، أو مظنونًا ظنًّا قريبًا من الجزم. (3)
ب - أن تكون ظاهرة: والمراد بالظهور أن يكون المقصد واضحًا، بحيث لا يختلف الفقهاء في تحديده والاعتداد به، (4) إذْ لا يُعْقَل أن يُوصَف مقصد مَا بالعموم
(1) انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 171.
(2)
انظر المصدر السابق، ص 171.
(3)
انظر المصدر السابق، ص 172.
(4)
انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 172.
مع خفائه وكونه محلّ خلاف كبير بين الفقهاء.
ج - أن تكون منضبطة: أي أن يكون للمقصد "حَدٌّ معتبر لا يتجاوزه، ولا يقصر عنه، بحيث يكون القدر الصالح منه لأن يُعتبر مقصدًا شرعيًّا قدرًا غير مشكك"(1)، أي غير متفاوت الوجود في أفراده.
وقد أضاف ابن عاشور شرطًا رابعًا، وهو الإطراد، ويعني به أن لا يكون المقصد مختلفًا باختلاف أحوال الأقطار والقبائل، والأعصار. وقد مثَّل له ببعض الأوصاف التي راعاها بعض الفقهاء في شرط الكفاءة في النكاح مثل: الإِسلام، والقدرة على الإنفاق، واعتبرها من الأوصاف المنضبطة، والتماثل في الثراء والنسب، واعتبرها من الأوصاف غير المنضبطة. (2) والملاحظ أن في هذا خلطًا بين الوسائل والمقاصد، فما مثَّل به ابن عاشور هنا واضح أنه من الوسائل التي جعلت لتحقيق مقاصد النكاح، وليست هي في ذاتها مقاصد مرادة للشارع.
ويبدو للباحث أن المقاصد لا يمكن أن توصف بالإطراد، وإنما الذي يحتاج إلى الإطراد هي الوسائل، الي تتأثر بالظروف وتغير الأزمان في مدى إمكانية تحقيقها للمقاصد، ومن ثَمَّ تغيرت أحكامها واحتاجت إلى شرط الإنضباط. أما المقاصد فيكفي فيها أن تكون ثابتة، أي محققة للمصلحة في مختلف الأحوال والبيئات والأعصار، وأن يكون ذلك الثبوت منضبطًا، أي له حدّ لا يقصر عنه في مختلف الأحوال، وأن يكون واضحًا لا يختلف فيه اختلافًا معتبرًا.
2 -
المقاصد الخاصة: ويمكن استخلاص تعريف لها من خلال تعريف ابن عاشور للمقاصد العامة فتكون هي: المعاني والحِكَم الملحوظة للشارع في باب من أبواب التشريع، أو في جملة أبواب متجانسة ومتقاربة، مثل مقاصد الشارع في العقوبات، أو في المعاملات المالية، أو في العبادات المالية، أو في إقامة نظام الأسرة، وغيرها.
(1) المصدر السابق، ص 172.
(2)
انظر المصدر السابق، ص 172.
3 -
المقاصد الجزئية: وهي الحِكَم والأسرار التي راعاها الشارع عند كلّ حكم من أحكامه المتعلقة بالجزئيات. (1)
ثانيًا - باعتبار آثارها في قوام أمر الأمة:
أي باعتبار أهميتها في قيام حياة الجماعة أو الأفراد واستقامتها، وتنقسم بهذا
الإعتبار إلى ثلاثة أقسام:
1 -
مقاصد ضرورية: وهي "التي تكون الأمة بمجموعها وآحادها في ضرورة إلى تحصيلها"، (2) بحيث يختلّ نظام الحياة مع اختلالها، ويترتب على خرقها فساد عظيم في الدنيا والآخرة. والفساد في الدنيا ينتج عن خرق كلّيات حفظ النفوس، والعقول، والأموال، والأنساب، والفساد الأخروي ينتج عن خرق كلّية حفظ الدين؛ إذْ مع ما يترتب من فساد في الدنيا نتيجة خرق كلّية الدين إلّا أن أمور الحياة يمكن أن تستقيم إلى حَدِّ كبير من دون ذلك -كما هو الشأن في بلاد الغرب - أما ما يترتب على ذلك في الآخرة من كون مصير من ضيَّع الدين الجحيم فهو أعظم الخسران، ولا فرق بين أن يكون الخسران في الدنيا أو في الآخرة، إذ هما مرحلتان لحياة واحدة.
وقد فسَّر ابن عاشور اختلال نظام الحياة بانخرام الضروريات بأن "تصير أحوال الأمة شبيهة بأحوال الأنعام، بحيث لا تكون على الحالة التي أرادها الشارع منها". (3)
2 -
مقاصد حاجية: "وهو ما تحتاج الأمة إليه لإقتناء مصالحها وانتظام أمورها على وجه حسن"، (4) فالحاجة إليه من حيث التوسعة على الناس ورفع الحرج عنهم. (5)
3 -
مقاصد تحسينية: وهي ما يكون بها كمال الأمة في نظامها، فتبلغ بها مرتبة عالية من الرقي والتحضر، وحسن المعاملة والمظهر، فتكون أمة محترمة، التقربُ
(1) انظر الفاسي، علال: مقاصد الشريعة الإِسلامية ومكارمها، (الدار البيضاء: مكتبة الوحدة العربية، د. ط، د. ت)، ص 3.
(2)
محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 210.
(3)
محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 210.
(4)
المصدر السابق، ص 214.
(5)
انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 326.
إليها والإندماجُ فيها مرغوبٌ فيه. وذلك كمحاسن الأخلاق والعادات، الفردية منها والجماعية. (1)
تنبيه: يلاحظ الناظر في تقسيم الشاطبي للمقاصد (الكلّيات الثلاث) إلى ضرورية، وحاجية، وتحسينية، أنه عند التمثيل لكلّ مرتبة قد أدخل بعض الواجبات ضمن التحسينيات، في حين أدرج بعض المباحات أو المندوبات ضمن الضروريات، وقد يُشْكِل هذا؛ إذْ كيف تكون الفرائض والواجبات مجرد تحسينيات؟ وللإجابة على هذا الإشكال لابد من النظر إلى أمرين:
الأول: الأساس أو المعيار الذي اعتمده الشاطبي في هذا التقسيم، هل هو رتبة التكليف أم أمر آخر؟ فالظاهر أن الشاطبي لم يعتمد في تقسيمه هذا مراتبَ الحكم الشرعي من حيث الإقتضاء والتخيير، وإنما اعتمد معيارًا آخر، هو مدى أهمية كلّ مرتبة في إقامة الحياة الإنسانية -الفردية والجماعية- في أعمدتها الأساسية الخمس: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال؛ ولذلك فلا غرابة أن نجد بعض المباحات داخلة في الضروريات لأنها مباحة بالجزء واجبة بالكلّ، ولأن الحياة لا تقوم إلّا بالمحافظة عليها، وأن نجد بعض الواجبات ضمن التحسينيات لأن أساس الحياة يمكن أن يقوم بغيرها.
والثاني: هو فلسفة الشاطبي في كيفية ورود الأوامر والنواهي الشرعية وما بينهما من مراتب التكليف؛ إذْ يرى الشاطبي أن المطلوب الشرعي ينقسم إلى قسمين:
أ - ما كان شاهدُ الطبعِ خادمًا له ومعينًا عليه، بحيث يكون الطبع الإنساني باعثًا على مقتضى الطلب، ومن أمثلة ذلك الأكل، والشرب، والجماع، والبعدُ عن استعمال القاذورات وأكلها، وغير ذلك. وهذا النوع قد يكتفي الشارع في طلبه -عادةً- بمقتضى الجبلّة الطبعية، والعادات الجارية، فلا يؤكد طلبه تأكيده لغيره، اكتفاءً بالوازع الباعث على الموافقة دون المخالفة، فلذلك نجد هذا النوع على الجملة مطلوبًا طلب ندب لا طلب وجوب، بل كثيرًا ما يأتي في معرض الإباحة.
(1) انظر المصدر السابق، ص 215.
ب - ما لم يكن شاهدُ الطبع خادمًا له ولا معينًا عليه، وإنما هو من باب التكاليف التي قد تجري على خلاف هوى الأنفس، ومثال ذلك العبادات، والجنايات، والرفق بالناس والإحسان إليهم، وهذا النوع قرره الشارع على مقتضا 5 من التأكيد في المؤكدات، والتخفيف في المخففات، ولذلك حَدَّ الشارع لهذا النوع حدودًا معلومة، ووضع له عقوبات معينة إبلاغًا في الزجر عَمّا تقتضيه الطباع. وما قيل في أنواع المطلوب الشرعي ينطبق تمامًا على المنهيات الشرعية.
إذًا، فالمعيار المعتمد في ورود الأمر وتأكيده ليس هو مدى أهمية الفعل في إقامة حياة الإنسان والمحافظة عليها، بقدر ما هو مدى وجود حوافز وبواعث طبيعية للإنسان على الفعل أو الترك، فتكون بعض الضروريات مباحة، ولم يوجبها الشارع اكتفاءً بالباعث الجبلي في السعي إلى تحصيلها، وتكون بعض الحاجيات أو التحسينيات واجبةً لضعف البواعث الجبلية التي تبعث الإنسان على تحصيلها أو لانعدامها. وفي ذلك يقول الشاطبي: "فإنه ربما وقع الأمر والنهي في الأمور الضرورية على الندب أو الإباحة والتنزيه فيما يفهم من مجاريها، فيقع الشك في كونها من الضروريات؛ كما تقدم تمثيله في الأكل والشرب واللباس والوقاع، وكذلك وجوه الاحتراس من المضرات والمهلكات وما أشبه ذلك، فيرى أن ذلك لا يلحق بالضروريات، وهو منها في الإعتبار الإستقرائي شرعًا، وربما وقع الأمر بالعكس من هذا؛ فلأجل ذلك وقع التنبيه عليه ليكون من المجتهد على بال
…
". (1)
ثالثًا - باعتبار تعلقها بعموم الأمة أو جماعتها أو أفرادها:
وتنقسم بهذا الإعتبار إلى كلية وجزئية:
1 -
المقاصد الكلية: وهي "ما كان عائدًا على عموم الأمة عَوْدًا متماثلًا، وما كان عائدًا على جماعة عظيمة من الأمة أو قطر". (2)
(1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 102، وانظر أيضًا مج 1، ج 2، ص 138 وما بعدها.
(2)
انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 220.
وقد مثَّل ابن عاشور لما يعود على عموم الأمة بحماية البيضة، وحفظ الجماعة من التفرق، وحفظ الدين -في مجمله- من الزوال، وغيرها مما قصد الشارع حفظه مما يتعلق بعموم الأمة بمختلف أقطارها وأجناسها. ومثَّل لما يعود على الجماعات العظيمة بما يحتاج إليه كلّ بلد من بلاد المسلمين من تشريعات قضائية لحفظ انتظام حياتهم، بتيسير طرق الخير، وسدّ منافذ الشر والظلم، وما تقيمه هذه الأقطار من اتفاقيات ومعاهدات اقتصادية وسياسية بما يخدم مصالحها. (1)
2 -
المقاصد الجزئية: وهي المقاصد التي تعود على آحاد الأفراد، أو على المجموعات الصغيرة منهم، وهي التي شرعت أحكام المعاملات لحفظها. (2)
رابعًا - من حيث مدى القطع بكون الشارع قاصدًا إليها:
وتنقسم إلى قطعية، وظنية، ووهمية:
1 -
المقاصد القطعية: وهي التي تثبت بأحد الطرق الآتية: (3)
أ - النص الذي لا يحتمل التأويل.
ب - استقراء أدلّة كثيرة من الشريعة.
ج - ما دلّ العقل على أن في تحصيله صلاحًا عظيما، وأن في حصول ضده ضرًّا عظيمًا على الأمة.
وتكون المقاصد قطعية -في نظر ابن عاشور- إذا توافرت فيها شروط: الثبوت، والظهور، والإنضباط، والإطراد. فإذا توافرت في معنًى من المعاني الحقيقية أو العرفية العامة هذه الشروط حصل اليقين بكونه مقصدًا. (4)
2 -
المقاصد الظنية: وهي ما دلّ عليه دليل ظني من الشرع، أو ما اقتضى العقل
(1) انظر المصدر السابق، ص 220.
(2)
انظر المصدر السابق، ص 220.
(3)
محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 220 - 221.
(4)
انظر المصدر السابق، ص 172 - 173
ظنه مصلحة ومقصدًا للشارع. (1)
3 -
المقاصد الوهمية: وهي ما يُتَخَيّلُ فيها صلاحٌ وخيرٌ، إما لخفاء ضرها، أو لأنها مشوبة بمصلحة هي في الحقيقة مرجوحة مقابل ما فيها من مفسدة عظيمة. (2)
خامسًا - من حيث مدى تحققها في نفسها أو نسبية ثبوتها:
وتنقسم بهذا الإعتبار إلى أربعة أقسام:
1 -
المقاصد الحقيقية: وهي "التي لها تحقُّق في نفسها، بحيث تدرك العقول السليمة ملاءمتها للمصلحة (بأن تكون جالبة لنفع عام)، أو منافرتها لها (بأن تكون جالبة ضررًا عامًا)، إدراكًا مستقلًا عن التوقف على معرفة عادة أو قانون، كإدراك كون العدل نافعًا، وكون الاعتداء على النفوس ضارا". (3) وبتعبير آخر هي المقاصد التي يمكن أن تدرك العقول حسنها أو قبحها ولو من غير استناد إلى شرع أو عرف.
2 -
المقاصد الإعتبارية: وهي المعاني التي لها حقائق متميزة عن غيرها من الحقائق، ويمكن للعقل تَعَقُّلُهَا لِمَا لها من تعلق بالحقائق، لكنها غير قائمة بذاتها، بل وجودها تابع لوجود حقيقة أخري مثل الزمان والمكان، أو حقيقتين كالإضافات. ومثال ذلك اعتبار الرضاع سببًا لتحريم التزوج بالأخت منه، ومعاملته معاملة النسب في ذلك، وهذا النوع ملحق بالنوع الأول (المقاصد الحقيقية). (4)
3 -
المقاصد العرفية العامة: وهي التي أدركت العقول حسنها بالتجربة، أي بعد تجريبها واكتشاف ملاءمتها لصلاح الجمهور، ومثال ذلك إدراك كون الإحسان معنى ينبغي تعامل الأمة به، وإدراك كون عقوبة الجاني رادعة إياه عن العود إلى مثل جنايته، ورادعة غيره عن الإجرام. (5)
(1) انظر المصدر السابق، ص 220.
(2)
انظر المصدر السابق، ص 221.
(3)
محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 171.
(4)
انظر المصدر السابق، ص 174.
(5)
انظر المصدر السابق، ص 172.
4 -
المقاصد العرفية الخاصة: وهي معاني أدركت العقول ملاءمتها بالتجربة، ولكنها لم تكن عرفًا عاما، بل خاصة. ومع ذلك احتاجت الشريعة إلى اعتبارها في مقاصدها لِمَا تشتمل عليه من تحصيل صلاح أو دفع ضرر عامين. كاعتبار القرشية شرطًا في الخليفة، واعتبار الذكورة شرطا في الولايات القضائية والإمارة.
وهذا النوع يجب على الفقيه التأمل فيه وسبره، فما حصل له الظن فيه في الجملة أنه مقصود للشارع أثبته مسائلَ فرعية قريبة من الأصول، ولكن لا يتجاوز به مواقع وروده كما هو مذهب بعض العلماء في شرط القرشية، إذ اعتبروه شرطًا مخصوصًا بظروف المجتمع القائم على العصبية القبلية. أما إذا قوي الظن بكونها مقاصد شرعية مطردة، فله حينئذ تأصيلها ومجاوزة مواقع ورودها كما هو الأمر في اعتبار الذكورة شرطًا في الإمارة والولايات القضائية. (1)
سادسًا - من حيث علاقتها بحظ المكلَّف:
وتنقسم بهذا الإعتبار إلى قسمين: مقاصد أصلية، ومقاصد تبعية.
1 -
المقاصد الأصلية: وهي التي لا حَظَّ للمكلَّف فيها، وهي مقاصد الشارع في الحفاظ على الضروريات الخمس. والمراد هنا بانعدام حظ المكلَّف فيها كون الشارع عندما وضعها وألزم بها المكلفين لم يُراعِ في الإلزام بها حظوظ المكلفين بالقصد الأول، وإنما راعى فيها إقامة حياتهم واستقامتها بالقيام بالضروريات وحفظها. (2) فانعدام حظ المكلَّف فيها منظور إليه من وجوه: أحدها: أن الشارع قاصد إلى إقامة تلك المقاصد والحفاظ عليها سواء وافقت الحظوظ العاجلة للمكلَّف أم لم توافقها، وإن تبعها حظ للمكلَّف -وهي عادة كذلك- فَبِالتَّبَعِ لا أصالةً، والثاني: أنها راجعة إلى حفظ الضروريات التي لا تستقيم الحياة بغيرها، فتركُها تجري على حظوظ المكلفين قد يؤدي إلى خرم الضروريات، ومن ثَمَّ إلى فساد الحياة، والثالث: أن المكلَّف مُطالَب بإيقاعها، سواء وافقت ميلًا نفسيًّا منه أم لم توافق، وسواء كان في إيقاعها تحقيق حظ
(1) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 173.
(2)
انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 134.
عاجل أم لم يكن، فهو مطالب بها في كلّ الأحوال.
فانعدام الحظ في قيام المكلَّف بتحقيق هذه المقاصد راجع إلى كونه مُطَالَبًا بذلك في كلّ الأحوال، ولا مجال له لأن يتخير بين الفعل وعدمه، أو بين فعل وآخر فمن هنا صار فيها مسلوب الحظ. وليس معنى ذلك انعدام حظه بالكلية فيها، بل هي في حقيقتها كلها حظوظ ومصالح له عاجلاً أو آجلا، مباشرة أو بطريق غير مباشر وخصائص هذا النوع من المقاصد أنها "قيام بمصالح عامة مطلقة، لا تختص بحال دون حال، ولا بصورة دون صورة، ولا بوقت دون وقت". (1)
وقد قسمها الشاطبي إلى قسمين: ضرورية عينية، وضرورية كفائية.
- أما الضرورية العينية: فهي الواجبة على كلّ مكلَّف في نفسه، من كونه مأمورًا "بحفظ دينه اعتقادًا وعملا، وبحفظ نفسه قيامًا بضرورية حياته، وبحفظ عقله حفظًا لمورد الخطاب من رَبَّهِ إليه، وبحفظ نسله التفاتًا إلى بقاء عوضه في عمارة الدار
…
وبحفظ ماله استعانة على إقامة تلك الأوجه الأربعة". (2)
- وأما الضرورية الكفائية: فهي ما نيط فيها التكليف بعموم المكلفين لتتولى القيام بها والمحافظة عليها مجموعة مصطفاة منهم، وقد اعتبرت من باب الضروري لأنها مكملة للقسم الأول، وهي الضروريات العينية؛ ذلك أن الأحوال الخاصة لا تقوم إلّا باستقامة الأحوال العامة، والأحوال العامة لا تستقيم إلّا بالقيام بتلك الضروريات الكفائية. (3)
والملاحَظُ أن هذا النوع من المقاصد يرجع إلى العبادات وما يُقام به أصل الضروريات، وهي دائرة على حُكْم الوجوب، سواء بالجزء أو بالكلّ.
2 -
المقاصد التبعية: وهي المقاصد التي رُوعِي فيها حظ المكلّف بالقصد الأول، حيث يحصل له من جهتها مقتضى ما جُبِل عليه من نيل الشهوات، والإستمتاع
(1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 134.
(2)
المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 135.
(3)
انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 135 وما بعدها.
بالمباحات، وسَدِّ الخَلات، وجُعل للإنسان فيها حرية الإختيار بين الفعل وعدمه، وبين أنواع المشروعات ضمن حدود الشريعة وقوانينها. ومع مراعاة حظ المكلَّف بالقصد الأول في هذه المقاصد، فإنها محصلة أو خادمة ومكملة للنوع الأول، وهو المقاصد الأصلية، لكن بالتَّبَعَ لا بالأصل. (1) وغالب هذا النوع من المقاصد يرجع إلى الحاجيات والتحسينيات، وهي دائرة على حُكْم الإباحة بالجزء، أو بالجزء والكلّ معا، أو على حُكْم الإباحة بالجزء مع الكراهة أو المنع بالكلّ. (2)
العلاقة بين المقصد والحِكْمة:
يرى محمد الطاهر بن عاشور أن الحِكَم المرعية في تشريع الأحكام تمثل جزءًا من المقاصد الشرعية، حيث يقول في تعريفه للمقاصد الشرعية الخاصة بالمعاملات: "ويدخل في ذلك كلُّ حِكْمة روعيت في تشريع أحكام تصرفات الناس، مثل قصد التوثق في عقدة الرهن
…
". (3)
ويمكن القول إن الحِكَم هي المقاصد ذاتها، فهي مرادف للمقاصد، (4) ويتضح ذلك من خلال ما تقدم في تعريف المقاصد الشرعية، وتعريف الحِكْمة، حيث عُرِّفَت بأنها:"المعنى المناسب لشرع الحُكم"، (5) وأنها "جلب مصلحة أو تكميلها، أو دفع مفسدة أو تقليلها". (6)
(1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 136 وما بعدها.
(2)
انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 156.
(3)
محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 301.
(4)
انظر في ذلك قول الونشريسي في المعيار المعرب: "
…
والحِكْمة في اصطلاح المتشرعين هي المقصود من إثبات الحُكم أو نفيه، وذلك كالمشقة التي شرع القصر والإفطار لأجلها" أي لأجل رفعها. الونشريسي، أبو العباس أحمد بن يحيى: المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب، (المغرب: وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية، 1401 هـ/ 1981 م)، ج 1، ص 349.
(5)
الشربيني، عبد الرحمن: تقرير شيخ الإِسلام الشربيني على حاشية البناني على شرح الجلال المحلي على متن جمع الجوامع، (مصر: مصطفى البابي الحلبي وأولاده، 1356 هـ / 1937)، ج 2، ص 236.
(6)
البناني: حاشية البناني على شرح الجلال المحلي على متن جمع الجوامع، (مصر: مصطفى البابي الحلبي وأولاده، 1356 هـ / 1937)، ج 2، ص 236.
العلاقة بين المقصد والعلة:
أما العلاقة بين المقاصد والعلل، فإنه لَمَّا كانت العلة قد تكون هي نفسها الحِكْمة، وقد تكون مظنة تحقيقها، بأن تكون وصفًا ظاهرًا منضبطًا يُظن عنده وجودُ الحِكْمة المقصودة للشارع من شرع الحكم المرتب عليها، (1) فإن العلة إذا
(1) لابد من الإشارة هنا بشيء من التفصيل إلى العلاقة بين الحِكْمة والعلة، وهل يجوز التعليل بالحِكْمة أم لا؟
أما عن العلاقة بين العلة والحِكْمة فقد ذهب بعض الأصوليين وعلى رأسهم الشاطبي إلى أن العلل هي نفسها الحِكَم، حيث عرف العلة بقوله:"وأما العلة فالمراد بها الحِكَمُ والمصالح التي تعلقت بها الأوامر أو الإباحة، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي". (الموافقات، مج 1، ج 1، ص 196).
وأورد ابن قدامة في كتابه روضة الناظر وجنة المناظر أن العلة في اصطلاح الفقهاء تطلق على ثلاثة أشياء منها: الحِكْمة، أي حِكْمة الحُكْم، كقولهم المسافر يترخص لعلة المشقة. انظر ابن قدامة، عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي: روضة الناظر وعليه نزهة الخاطر العاطر، (بيروت: دار الكتب العلمية، د. ط، د. ت) ج 1، ص 159 - 160.
وذهب النقشواني إلى أن "العلة -في الحقيقة- الحِكْمة لكنها إنما تنضبط بمقاديرها وإنما يضبط ذلك الوصف، فكون الوصف علة في الشرع معناه أنه علامة للحكمة ودليل عليها، فالحِكْمة هي العلة الغائية الباعثة للفاعل، والوصف هو المعرف". نقلًا عن الرازي، فخر الدين: المحصول في علم أصول الفقه، دراسة وتحقيق طه جابر فياض العلواني، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1412 هـ -/ 1992 م)، ج 5، ص 294 "هامش".
وذهب جمهور الأصوليين إلى التفريق بين العلة والحِكْمة، ويكون الفرق كالآتي:
الحِكْمة هي المقصد من تشريع الحكم من تحقيق المصالح أو تكميلها، أو دفع المفاسد أو تقليلها، وقد تكون ظاهرة أو خفية، كما أنها قد تكون منضبطة وقد تكون غير منضبطة. أما العلة فهي الوصف الظاهر المنضبط المعرف للحكم، وهي التي ينبني عليها الحكم وجودا وعدما وتكون عادة مظنة تحقيق حكمة تشريع الحكم. غير أنه قد تتخلف الحِكْمة أحيانًا مع وجود العلة. وذلك مثل الشفعة فقد شرعت لحِكْمة، هي دفع الضرر عن الشفيع، وجُعِلَت علة ذلك هي الإشتراك في الملك، وقد يكون أحيانا الشريك الجديد أحسن دينا وأنفع للشفيع وبذلك تتخلف الحِكمة، لكن لما وُجِدَت العلة ثبتت الشفعة ولم يُنظر إلى الحِكْمة. (انظر الزحيلي، وهبة: أصول الفقه الإِسلامي، (دمشق: دار الفكر، ط 1، 1986 م)، ج 1، ص 651.
أما عن جواز التعليل بالحِكمة فقد اختلف الأصوليون في ذلك على ثلاثة مذاهب: فذهب بعضهم إلى منع التعليل بالحِكْمة مطلقا، وذهب آخرون إلى الجواز مطلقا، وهو اختيار الرازي وتبعه عليه البيضاوي، وذهب آخرون إلى التفصيل فقالوا بجوار التعليل بالحِكْمة إذا كانت منضبطة غير مضطربة، ومنعوا التعليل بها إذا كانت مضطربة غير منضبطة أو كانت خفية، وهو اختيار الآمدي وصفي الدين الهندي. (انظر الرازي: المحصول، ج 5، ص 287 - 293)؛ الشوكاني، محمد بن علي: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، (د. م: دار الفكر، د. ط، د. ت)، ص 193؛ السبكي، علي بن عبد الكافي: الإبهاج في شرح المنهاج، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1404 هـ/ 1984 م)، ج 3، ص 90 - 91؛ الآمدي، علي بن محمد: الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق سيد الجميلي (بيروت: دار الكتاب العربي، ط 2، 1406 هـ / 1986 م)، ج 3، ص 290.
كانت هي الحِكْمة ذاتها فإنها تكون عند ذلك مرادفة للمقصد، أما إذا لم تكن كذلك بأن كانت وصفًا ظاهرًا منضبطًا مظنة لحكمة فإنها تكون مختلفة عن المقصد.