الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
الفرق بين دلالة سكوت الشارع في العبادات وسكوته في المعاملات
لمّا كانت العبادات شعائر يُقصَد بها تعظيم الله تعالى والتعبّد له، كان له جلَّ شأنه أن يختار من الشعائر ما يشاء لِيَتَعَبَّدَنَا به، ولم يكن لأحد الحقُّ في أن ينشئ شيئاً من العبادات ليتقرب بها إلى الله تعالى، لأنه لا أحد يعلم الحِكْمة من اختياره جلّ شأنه عبادات بعينها دون غيرها، ومن ثَمّ لا يمكن أن يُعبَد إلّا بما شرع.
أما المعاملات فهي الوسائل والتدابير التي يتخذها البشر لتسيير شؤونهم الحياتية، وتلبية رغباتهم واحتياجاتهم الفردية والجماعية، ولذلك تكون واسعة ومتشعبة سعة وتشعب حاجات الفرد والمجتمع، وتتجدد بتجدد مطالب الناس الفردية والجماعية، وتتطور بتطورها، وتتسع باتساعها. ولما كان الإنسان -بما وهبه الله تعالى من وسائل الإدراك والتفكير- أهلاً للتصرف فيها إنشاءً وتطويراً فقد أَوْ كَلَهَا الله تعالى إليه، واكتفت الشرائع في ذلك بتوجيه الإنسان وتقويمه.
وبناءً على ما سبق كانت القاعدة: أن الشريعة تأتي مُنْشِئَةً في العبادات، في حين تأتي ضابطةً ومقنِّنةً للمعاملات.
وصفة الإنشاءِ الأمرُ (إيجاباً وندباً)، أما صفةُ الضبطِ والتقنينِ فهي النهيُ (تحريماً وكراهةً)، ولذلك نجد الشعائر التعبديّة إما واجبة أو مستحبة، في حين لا نجد في المعاملات واجبات إلّا على الجملة، أي أن تكون المعاملات واجبة بالكلية من حيث يجب القيام بها لإقامة المجتمع وحفظه، ولا تكون واجبة على الأعيان إلّا في حالات الضرورة حيث يؤدي إهمالها إلى إهدار كُلِّيٍّ من الكليات الخمس، وإنما نجد أكثر الأحكام الشرعية الواردة في المعاملات من باب النواهي، سواء كان ذلك على وجه التحريم أو الكراهة. فإذا تأملت -مثلاً- أحكام البيوع لا تجد شيئاً اسمه البيوع الواجبة أو المستحبة، في حين تجد البيوع المحرمة، والمكروهة، والفاسدة، والباطلة؛ ذلك أن المعاملات بما فيها من نفع عاجل للإنسان، وبما فيها من إشباع لشهوات النفس ورغباتها تجعل الإنسان ميَّالاً إلى القيام بها والتوسع فيها بما قد يدفعه إلى
تخطي الحدود المشروعة والوصول إلى الإضرار بنفسه أو بالآخرين، فتأتي الشريعة لتكبح من جماحه، وتخفف من غلواء شهواته، فتضع الضوابط التي ينبغي على الإنسان أن ينضبط بها، والحدود التي لا يحلّ له أن يتخطاها.
لذلك فإنما سكوت الشارع في مجال المعاملات لا يُعدّ قصداً إلى منع الزيادة على الواقع أو الإنقاص منه، إذْ إن قصد الشارع في هذا المجال ليس هو الإقتصار على ما كان موجوداً من معاملات، وإنما هو قاصد بالدرجة الأولى إلى ضبط وتقنين معاملات الناس بما يوافق أحكام الشريعة ومقاصدها، في حين يُعدّ سكوت الشارع في العبادات دليلاً على قصده إلى عدم الزيادة على ما شرعه أو النقصان منه، فيكون الأصل في العبادات الإكتفاء بما شرعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو المعنيّ بقول الرسو صلى الله عليه وسلم "وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بدْعَةٌ وَكُلُّ بدْعَةٍ ضَلَالَةُ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ". (1)
هل السكوت وحده دليل التوقيف في العبادات؟
وبناءً على ما سبق يتبيّن عند التحقيق أن سبب عدم جواز الزيادة على ما شُرِع من العبادات أو الإنقاص منه ليس هو سكوت الشارع لوحده، وإنما هو ما يبنى عليه ذلك السكوت من أن الأصل في العبادات التوقيف وأن الشارع قاصد إلى التفرّد بالتشريع فيها، ومنع أي إنشاء أو ابتداع من قِبل خلقه. فبناءً على هذا الأصل يتقرر كون سكوت الشارع دليلاً على الإكتفاء بما شرعه.
ويرى الشاطبي أن العمل في المسكوت عنه في الأمور العبادية هو الإقتصار على ما ورد في زمن التشريع من غير زيادة حتى وإن كان إطلاق الأدلة لا ينفيها، لأن إطلاق تلك الأدلة يتقيد بالعمل، أي عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة والسلف
(1) انظر الشاطبي: الإعتصام، ج 1، ص 52. روى النسائي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله قَالَ كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: يَحْمَدُ الله وَيُثْنِي عَلَيهِ بمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ:"مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَن يُضْلِلْهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ. إِنَّ أصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ الله. وَأحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ. وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةْ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. ثُمَّ يَقُولُ: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ". سنن النساني، كتاب صلاة العيدين، باب الخطبة، ج 3، ص 188 - 189.
الصالح، فاقتصار عملهم على بعض ما تشمله تلك الأدلة يُعَدّ تقييداً لإطلاقها، ورفع ذلك التقييد يحتاج إلى دليل في إعمال الوجه الجديد. ويكون العمل على الوجه الذي لم يَجْرِ به عمل الرسول صلى الله عليه وسلم -أو السلف الصالح من قبيل المعارض لما مضى عليه عملهم، وفي ذلك يقول:"فالحاصل أن الأمر أو الإذْن إذا وقع على أمر له دليل مطلق، فرأيت الأولين قد عنوا به على وجه واستمر عليه عملهم، فلا حجة فيه على العمل على وجه آخر بل هو مفتقر إلى دليل يتبعه في إعمال ذلك الوجه"(1)
(1) الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 55.