الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
استخلاص المقاصد من ظواهر النصوص
الأصل فيما يُبِينُ عن مقاصد المتكلّم هو ظاهر خطابه؛ إذ اللغة إنما وضعت للتفاهم بين البشر ولمّا كان الكلام يُقْصَد به تيسير التفاهم بين الناس فإن الأصل فيه أن يُحمل على ما يتبادر إلى الأذهان من معانيه، وهو الظاهر، إلّا إذا دلّت قرائن لغوية أو حالية على أن الظاهر ليس هو المقصود في هذا المقام فنلجأ عند ذلك إلى التأويل. ومن هنا تقررت القاعدة القائلة بأن الأصل في الكلام الحقيقة، لأن الحقيقة ثابتة والمجاز طارئ. وتقرير هذه القاعدة ضروري لضمان انضباط التفاهم بين الناس، إذْ إهمالها يؤدي إلى تعذُّر التفاهم بينهم، وعدم انضباط معاملاتهم، بل وفسادها؛ إذْ يُفتح الباب لكلّ عابث لأنْ يتنكر لكلّ الالتزامات التي تفهم من ظاهر كلامه بحجة أنه لم يقصد ظاهرها، وإنما قصد أمرًا آخر، فلا تنضبط بعد ذلك عقود، ولا تثبت التزامات، وتهدر الحقوق، وتشيع الفوضى، ولا يمكننا إلزام أَحَدٍ بما يصدر منه. كما أن ذلك يكون طريقا لكلّ قاصد إلى هدم الشريعة، بأن ينسب إليها كلّ ما يهواه وبسقط منها كلّ ما يخالف هواه.
ومن هنا جاء اتفاق من يُعتدّ برأيه من الأصوليين على وجوب العمل بما دلّ عليه النص والظاهر (1) حتى يقوم دليل التأويل أو التخصيص أو النسخ، وإن اختلفوا بعد ذلك في هذا الوجوب هل هو على سبيل القطع أم على سبيل الظن فقط، بناءً على اختلافهم في الإحتمال البعيد الناشئ عن غير دليل هل يطعن في قطعية الدليل أم لا؟ (2)
(1) من الظاهر صيغة الأمر المطلق، فتكون ظاهرة في الوجوب مؤولة في الندب والإباحة وغيرهما مما تستعمل فيه، ومنه صيغة النهي المطلق، فهي ظاهرة في التحريم مؤولة في غيره، ومنه صيغ العموم، فهي ظاهرة في استغراق ما تصلح له، مؤولة في حملها على وجه من أوجه الخصوص. انظر الجويني، أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله: البرهان في أصول الفقه، تحقيق عبد العظيم محمود الديب، (المنصورة: دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، ط 3، 1412 هـ / 1992 م)، ج 1، ص 280.
(2)
انظر الجويني: البرهان، ج 1، ص 337 - 339؛ ومحمد أديب صالح: تفسير النصوص في الفقه الإِسلامي، ج 1، ص 153 وما بعدها.
وفي ذلك يقول الإمام الشافعي: "فكلّ كلام كان عامًّا ظاهرًا في سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على ظهوره وعمومه، حتى يُعلم حديث ثابت عن رسول الله -بأبي هو وأمي- يدلّ على أنه إنما أريد بالجملة العامة في الظاهر بعض الجملة دون بعض". (1)
ويقول في موضع آخر: "والحديث على ظاهره، وإذا احتمل الحديث المعاني فما أشبه منها ظاهره أولاها به". (2)
وقال في معرض حديثه عن حديث النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وعند استوائها في كبد السماء، وأن ذلك يحتمل أن يكون المراد به كلّ الصلوات، ويحتمل أن يراد به النوافل فقط:"وهكذا غيره من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو على الظاهر من العام حتى تأتي الدلالة عنه كما وصفتُ، أو بإجماع المسلمين أنه على باطنٍ دون ظاهرٍ، وخاص دون عام، فيجعلونه بما جاءت عليه الدلالة عليه، ويطيعونه في الأمرين جميعًا". (3)
وبناءً على ذلك فإنه لا داعي إلى صرف اللفظ عن ظاهره إلّا في حالة معارضته لنصوص شرعية أخرى، أو لأصول الشريعة ومبادئها العامة، أو معارضة معناه لصريح العقل.
فالأصل -إذًا- أن يُنْظَر في ظاهر النصوص فإذا وجدت قرائن تصرف النص عن ظاهره إلى معنى آخر يحتمله صُرِف به، وإن لم يوجد شيء من ذلك فاللفظ باقٍ على ظاهره، ويكون ظاهره هو المعنى المقصود للشارع. ولا يضرّ بعد ذلك القول بأن الظاهر يفيد مجرّد الظن فقط، لأن هذا الظن منشؤه ما يمكن أن يوجد من قرائن صارفة له عن ظاهره، فإذا لم توجد هذه القرائن - وإنْ كُنَّا لم نصل إلى درجة القطع بعدمها - فذلك كافٍ في الأخذ بظاهره، لأن القطع العقلي غير مطلوب في مثل هذه الأمور.
(1) الشافعي، محمد بن إدريس: الرسالة، تحقيق أحمد شاكر، (القاهرة: مكتبة دار التراث، ط 2، 1399 هـ / 1979 م)، ص 341.
(2)
البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين: مناقب الشافعي، تحقيق السيد أحمد صقر، (القاهرة: مكتبة دار التراث، د. ط. د. ت)، ج 2، ص 30.
(3)
الشافعي: الرسالة، ص 322.
المقصود بالأخذ بظواهر النصوص:
ليس المقصود بالقول بالأخذ بظاهر النص الإكتفاء بالمعنى الذي يفهم من ظاهر النص (عبارة النص)(1) مع نفي إمكانية استنباط معاني أخرى تفهم من النص بدلالة الإشارة (2) أو الإقتضاء (3) أو الدلالة، (4) وإنما المقصود عدم إهمال المعنى المأخوذ من ظاهر النص (عبارة النص) بحجة أن المعنى المقصود من النص غير ذلك، إلّا إذا دلَّ دليل على صرف اللفظ عن ذلك الظاهر.
(1) المعنى الثابت بعبارة النص هو ما يُعلم أن ظاهر النص متناول له من غير كبير تأمل، سواء سيق له اللفظ أصالة أو تبعا. انظر البخاري: كشف الأسرار، ج 1، ص 171 - 173.
(2)
إشارة النص هي "ما ثبت بنظمه لغةً، لكنه غير مقصودٍ ولا سيق له النص، وليس بظاهر من كلّ وجه". عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار، ج 1، ص 174 - 175. فهو لا يستفاد من عبارة النص، ولكنه لازم للمعنى الذي سيق الكلام لإفادته.
(3)
اقتضاء النص هو"عبارة عن زيادة على المنصوص عليه يشترط تقديمه ليصير المنظوم مفيدًا أو موجبًا للحكم بدونه لا يمكن إعمال المنظوم". السرخسي، محمد بن أحمد بن أبي سهل: أصول السرخي، تحقيق أبي الوفاء الأفغاني، (بيروت: دار المعرفة، د. ط، د. ت)، ج 1، ص 248.
(4)
دلالة النص وتسمّى فحوى الخطاب ومفهوم الموافقة عند الجمهور، هي دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه لإشتراكهما في علة الحكم التي يمكن فهمها عن طريق اللغة من غير حاجة إلى الإجتهاد الشرعي". وهبة الزحيلي: أصول الفقه الإِسلامي، ج 1، ص 353.