المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأولأنواع سكوت الشارع - طرق الكشف عن مقاصد الشارع

[نعمان جغيم]

فهرس الكتاب

- ‌شكر وتقدير

- ‌المقدمة

- ‌البَابُ الأَوّلاستخلاص المقاصد من منطوق النصوص ومفهومها

- ‌الفصل الأولتعريف مقاصد الشريعة وبيان أقسامها، وفائدة العلم بها

- ‌المبحث الأول: تعريف مقاصد الشريعة وبيان أقسامها

- ‌المطلب الأول: تعريف مقاصد الشريعة

- ‌المطلب الثانيأقسام المقاصد الشرعية

- ‌المبحث الثانيفائدة العلم بمقاصد الشارع

- ‌تمهيدبين أصول الفقه ومقاصد الشريعة

- ‌الفصل الثانياستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص

- ‌تمهيدطرق إفادة الكلام

- ‌المبحث الأولاستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص

- ‌المبحث الثانينماذج تطبيقية لإستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص الشرعية

- ‌النموذج الأول: استخلاص المقاصد من النص والظاهر:

- ‌النموذج الثاني: دلالة الأمر والنهي:

- ‌النموذج الثالثدلالة العام

- ‌الفصل الثالثوظيفة السياق والمقام في تحديد المقصود من الخطاب الشرعي

- ‌تمهيدطبيعة النص الشرعي ومستويات فهمه

- ‌المبحث الأولالعناصر التي تتحكم في فهم الخطاب

- ‌المطلب الأوللغة الخطاب

- ‌المطلب الثانيالمخاطِب (المتكلّم)

- ‌المطلب الثالثالمخاطَب (السامع)

- ‌المطلب الرابعسياق الخطاب

- ‌نماذج تطبيقية

- ‌المبحث الثانينماذج تطبيقية على أهمية السياق والمقام في تحديد المقصود من الخطاب الشرعي

- ‌المطلب الأولأهمية القرائن في تحديد المقصود من الأوامر والنواهي

- ‌المطلب الثانيأهمية القرائن في تحديد المقصود من صيغ العموم

- ‌المطلب الثالثتخصيص الخطاب الشرعي بعادات المخاطَبين وأعرافهم

- ‌المطلب الرابعتخصيص العام بقول الصحابي

- ‌المطلب الخامسأهمية السياق في تحديد المقصود من النص

- ‌الفصل الرابعاستخلاص المقاصد من خلال معرفة علل الأحكام الشرعية

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأولتعليل الأحكام الشرعية وعلاقته بالكشف عن مقاصد الشريعة

- ‌المطلب الأولالتعليل بين القائلين به والرافضين له

- ‌المطلب الثانيتعليل العبادات

- ‌المبحث الثانيمسالك العلة ووظيفتها في الكشف عن مقاصد الشارع

- ‌الفَصْلُ الخَامَسِسكوت الشارع ودلالته على مقاصده

- ‌المبحث الأولأنواع سكوت الشارع

- ‌المبحث الثانيالفرق بين دلالة سكوت الشارع في العبادات وسكوته في المعاملات

- ‌المبحث الثالثعلاقة سكوت الشارع بمرتبة العفو

- ‌المبحث الرابعهل السكوت عن النقل نقل للسكوت (هل ترك النقل ينزل منزلة نقل الترك)

- ‌البَابُ الثَّانياستخلاص المقاصد من طريق الاستقراء

- ‌الفَصْلُ الأَوّلمفهوم الاستقراء وأنواعه

- ‌تَمْهِيد

- ‌المبحث الأولمفهوم الاستقراء

- ‌المبحث الثانيأنواع الاستقراء

- ‌أولًا: الاستقراء التام

- ‌ثانيًا: الاستقراء الناقص:

- ‌الفَصْل الثَّانِيالاستقراء في القرآن الكريم والعلوم الشرعية

- ‌المبحث الأولالاستقراء في القرآن الكريم

- ‌المبحث الثانيالاستقراء في العلوم الشرعية

- ‌المطلب الأولالاستقراء عند الأصوليين

- ‌المطلب الثانيتطبيقات الاستقراء عند الفقهاء والأصوليين

- ‌الفَصْلِ الثَّالِثالاستقراء عند الإمام الشاطبي

- ‌تَمْهِيد

- ‌المبحث الأولتعريف الاستقراء عند الشاطبي وبيان الأساس الذي يقوم عليه

- ‌المبحث الثانيالاستقراء عند الإمام الشاطبي بين القطع والظن

- ‌المبحث الثالثحَلُّ الإمام الشاطبي لمشكلة الاستقراء الناقص

- ‌المبحث الرابعمجالات استخدام الشاطبي للإستقراء

- ‌الفَصْلُ الرَّابعِالاستقراء عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور

- ‌تَمْهِيدٌ

- ‌المبحث الأولالاستقراء بين القطع والظن عند ابن عاشور

- ‌المبحث الثانيمجالات استخدام الاستقراء عند ابن عاشور

- ‌الفَصْل الخَامِسْدراسة تقييمية للإستدلال الإستقرائي

- ‌المبحث الأولالفرق بين الاستقراء العلمى والاستقراء في العلوم الإنسانية

- ‌المبحث الثانيإمكانية تحقيق الاستقراء وجدواه

- ‌المبحث الثالثنتيجة الاستقراء بين اليقين والظن

- ‌المبحث الرابعحل مشكلة الاستقراء الناقص في العلوم الشرعية

- ‌الفَصْلُ السَّادِسُدراسة تطبيقية لمسلك الاستقراء

- ‌تَمْهِيدٌ

- ‌المبحث الأولاستقراء علل الأحكام الضابطة لحكمة واحدة

- ‌المبحث الثانياستقراء أدلة أحكام اشتركت في علة واحدة

- ‌المبحث الثالثاستقراء مجموعة من النصوص الشرعية المشتركة في معنى واحد

- ‌الترغيب في التيسير على العموم:

- ‌العفو عن أهل الكتاب:

- ‌الأمر بالتيسير على ذوي الحاجات والأعذار في الصلاة:

- ‌الترغيب في أن يكون الإنسان سمحاً في معاملاته:

- ‌كفارة اليمين:

- ‌كفارة قتل الصيد في الحرم:

- ‌كفارة القتل الخطأ:

- ‌كفارة الظِّهار:

- ‌التيسير في المعاملات:

- ‌1 - شرع الشُّفْعة:

- ‌2 - الترخيص في الغرر اليسير والجهالة التي لا انفكاك عنها في الغالب

- ‌3 - شرع السَّلم:

- ‌4 - الترخيص في العرايا

- ‌5 - شرع القرض:

- ‌الخاتمة

- ‌قائمة المصادر

الفصل: ‌المبحث الأولأنواع سكوت الشارع

‌الفَصْلُ الخَامَسِ

سكوت الشارع ودلالته على مقاصده

‌المبحث الأول

أنواع سكوت الشارع

تحتاج معرفة دلالة سكوت الشارع الحكيم على مقاصده إلى معرفة القرائن المصاحبة لصدور الأمر المسكوت عنه؛ إذْ إن سكوت الشارع عن الحكم في أمر من الأمور قد يكون مع توفر الدواعي إلى معرفة ذلك الحكم، وقد يكون لعدم توفر الدواعي إلى ذلك، وقد يكون لمانع.

والمسكوت عنه قد يكون واقعة -قولاً كانت أو فعلاً- وقعت أمام النبي صلى الله عليه وسلم فسكت عن الإنكار، أو واقعة وقعت في غيبته ثُمّ نُقلت إليه، أو سؤالاً يحتاج إلى جواب ولم يجب عنه، أو تصرفاً انتشر العمل به في زمن التشريع ولم يصدر فيه حكم، أو أمراً لم يظهر في زمن التشريع وسكت الشرع عن إعطاء حكم فيه. وبناءً على ما سبق يمكن تقسيم سكوت الشارع إلى ثلاثة أقسام أساسية، هي:

1 -

سكوت الشارع مع توفر الدواعي لإصدار الحكم.

2 -

سكوت الشارع عند عدم توفر الدواعي لإصدار الحكم.

3 -

سكوت الشارع لمانع.

وفيما يأتي تفصيلها، وبيان دلالة سكوت الشارع في كل حال من تلك الأحوال.

أولاً: السكوت مع توفر الدواعي:

وهو ما يصطلح عليه بالترك الوجودي، وهو أن يقع الشيء ويوجد المقتضي له، ولا يصدر عن الشارع (سواء عن طريق الوحي أوعن طريق سنّة النبي صلى الله عليه وسلم) قولُ ولا فعلُ لبيان حكمه. وهو إما سكوتُ عن قول أو فعل وقع في حضور النبي صلى الله عليه وسلم، أو في

ص: 173

غيبته ونُقِل إليه فسكت عنه، أو سكوتُ عن تعامل شائع بين الناس في بيئته صلى الله عليه وسلم مع تحقق علمه به، أو ترك الإستفصال في حكايات الأحوال.

أ - السكوت عن قول أو فعل وقع في حضور النبي صلى الله عليه وسلم، أو في غيبته ونقل إليه:

وهو المصطلح عليه عند الأصوليين والمحدثين بالإقرار وهو: "أن يسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن إنكار قول أو فعل قِيل أو فُعل بين يديه، أو في عصره وعلم به". (1) ويكون الإقرار بالسكوت عن الإنكار، أو بالكف عن الفعل. (2)

هل حجية الإقرار في ذات السكوت؟

لا تكمن حجّية الإقرار في مجرد السكوت عن الإنحار والكفّ عن التغيير إذْ الإقرار لا يعني دائماً الرّضا بالأمر المُقَرِّ وإنما ينظر فيه: فإن تضمن هذا الإقرار الرضا والموافقة فهو إقرار يُحتجّ به، وإن لم يتضمن ذلك فهو غير مُعتدّ به. فالضابط -إذاً- ليس هو مجرد السكوت، وإنما ما يحفّ به من قرائن الحال، ولذلك اشترط الأصوليون لحجية الإقرار شروطاً خلاصتها:

1 -

أن يتأكّد علمُ النبي صلى الله عليه وسلم بالفعل، سواء حصل العلم بسماعه أو مشاهدته مباشرة، أو نُقِل إليه نقلاً. (3)

ومثال الأول إقرار خالد بن الوليد على أكل الضب، ففي صحيح البخاري عَنْ عَبْدِالله بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ (4) فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ: أَخْبِرُوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ فَقَالُوا: هُوَ ضَبُّ يا رَسُولَ الله، فَرَفَعَ

(1) الزركشي: البحر الحيط، ج 4، ص 201.

(2)

الأشقر، محمد سليمان: أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 5، 141 هـ/ 1996 م)، ج 2، ص 90.

(3)

انظر الزركشي: البحر المحيط، ج 4، ص 202 - 203.

(4)

محنوذ بمعنى مشوي. انظر الرازي: مختار الصحاح، ص 90.

ص: 174

يَدَهُ. فَقُلْتُ: أَحَرَامُ هُوَ يا رَسُولَ الله؟ فَقَالَ: "لا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ". قَالَ خَالِدُ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ". (1)

ومثال الثاني ما نُقِل إليه من خبر اختلاف الصحابة رضي الله عنهم -في تأخير صلاة العصر يوم بني قريظة فأقرّ الفريقين على اجتهادهم في فهم خطابه صلى الله عليه وسلم. فقد أخرج البخاري عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَحْزَابِ: "لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُ الْعَصْرَ إِلاّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ". فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ". (2)

2 -

أن يكون الشخص الذي أُقِرّ على الفعل مسلماً منقاداً للشرع، أما إذا كان كافراً أو منافقاً معلوم النفاق -كما هو الحال في عبد الله بن أبيّ بن سلول- فإن إقراره على الفعل لا يُعدّ إباحة لذلك الفعل أو رضاً به، وذلك كإقراره صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب -وأهل الذمة عموماً- على معاملاتهم وشعائرهم وعقائدهم، وسكوته صلى الله عليه وسلم عن بعض ما فعله عبد الله ابن أبيّ بن سلول. فمثل هذا السكوت لا يُعدّ إقراراً ولا حُجّة على جواز تلك الأفعال لِمَا صاحَبَه من قرائنَ تدلّ على عدم الرضا به، ولكونه إحالة على ما هو معلوم من تشريعات في تلك الأفعال وأمثالها. (3)

3 -

"أن لا يكون قد عُلِمَ من حاله صلى الله عليه وسلم إنكاره لذلك الفعل قبل وقوعه وبعد وقوعه حتى يستقر ذلك شرعاً ثابتاً، وحكماً راسخاً لا يحتمل التغيير ولا النسخ". (4)

4 -

أن لا يؤديّ الإنكارُ إلما إغراء الفاعل بشرّ مما هو عليه، وإلى أن يترتب عليه مفسدة أكبر من المصلحة التي ترجى من الإنكار.

وهذا الشرط متفق عليه في حال كون المنكِر غير الرسول صلى الله عليه وسلم، أما بالنسبة لذات

(1) صحيح البخاري، كتاب الذبائح والصيد والتسمية على الصيد، باب (33)، مج 3، ج 6، ص 586.

(2)

المصدر السابق، كتاب المغازي، باب (32)، مج 3، ج 5، ص 60 - 60.

(3)

انظر الزركشي: البحر المحيط، ج 4، ص 204.

(4)

الأشقر: أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، ج 2، ص 109؛ وانظر الزركشي: البحر المحيط، ج 4، ص 204.

ص: 175

الرسول صلى الله عليه وسلم فقد اختُلِف فيه؛ فنُسِبَ إلى المعتزلة القول به، ونُسِبَ إلى الأشعرية منعه في حقه صلى الله عليه وسلم بحجة أن إنكاره ضروري لإزالة توهّم الإباحة بوصفه مشرعاً يشرِّعُ بالسكوتِ والتَّرْكِ كما يشرِّع بالقول والفعل. (1)

وهذا الأخير هو الراجح، ودليلُ رجحانه التفريق بين مقامي الإنكار والتغيير فالإنكار- بِبَيَانِ حُكْمِ الفعل- ضروريّ ليُعرَف حكمُ الشرعِ فيه، ولا يمكن أن يسكت عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بأيّ حال، أما تغيير المنكر بتطبيق الحكم الشرعي فيمكن التخلي عنه إذا كان يؤدي إلى مفسدة أعظم، كما حديث في عدم معاقبة النبي صلى الله عليه وسلم لرأس النفاق عبد الله ابن أبي بن سلول على نفاقه وعلى كثير من جرائمه، فلم يكن ذلك إقراراً منه صلى الله عليه وسلم لأفعاله، بل قد ظهر منه إنكارها، ولم يشكّ أحد في ذلك، ولكنه لم ينفذ العقوبات المستحَقّة عليه دفعاً للمفاسد التي قد تترتب على ذلك.

والخلاصة أن الإقرار إنما يُعدّ حجة دالّة على الجواز إذا تضمن الرضا ولم يوجد مانع معتبر يمنع من الإنكار والتغيير فإذا وُجِد مانع صحيح من البيان بالقول أو الفعل، أو تبيّن عدم تضمنه الرضا من الشارع الحكيم لم يُعدّ السكوت حُجَّة، ولا دالاًّ على أن قصد الشارع تشريع الأمر المقرّ عليه.

ب - السكوت عن تعامل شائع بين الناس:

وهو أن يسكت الشارع- سواء كان الرسول صلى الله عليه وسلم أو الوحي- عن أمر شائع بين الناس ومعاين من قول أو فعل. ويكون عدم الإنكار عليه وبيان فساده دالاًّ على رضا الشارع عنه. وذلك مثل ما كان شائعاً بين الناس في زمن الرسالة من معاملات، ومآكل ومشارب، وملابس، كانوا يستديمون مباشرتها؛ ذلك أنما الشارع لا يمكن أن يسكت عن منكر محظور ويقرّ الناس عليه، لأن وظيفة الشارع هي البيان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ

(1) انظر المحلي: شرح متن جمع الجوامع، ج 2، ص 95 - 96؛ الزركشي: البحر المحيط، ج 4، ص 204.

ص: 176

الْمُنْكَرِ} [الأعراف:157]. (1)

ومن هنا يكون هذا النوع من السكوت دليلاً على الإباحة الأصلية، وربما عُدّ نوعاً من أنواع السنّة التقريرية. (2)

والداعي إلى بيان الحُكْم في مثل هذا النوع من التصرفات هو انتشارها بين الناس ومن ثَمَ حاجتهم إلى معرفة حُكْم الشرع فيها. وإذا كان تأخُّرُ نزولِ حُكْمِ فعلٍ من الأفعال الشائعة بين الناس قد يكون أحياناً تدرجاً في التشريع -خاصة في العصر الأول للرسالة- كما حديث مع الخمر والربا ونكاح المتعة وغيرها، فإن استمرار سكوت الشارع عن ذلك إلى انقضاء عصر الرسالة يُفسَّر بكون الشارع قاصداً إلى إقرار ذلك الفعل. وقد عَدّ الأصوليون من أنواع بيان الضرورة البيانُ بدلالة حال الساكت الذي وظيفته البيان. (3)

وفي هذا النوع من التصرفات يقول الإمام الشاطي: "

أن تكون مظنة العمل به موجودة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يشرع له أمر زائد على ما مضى فيه، فلا سبيل إلى مخالفته؛ لأن تركهم لما عمل به هؤلاء (أي الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته) مضاد له، فمن

استلحقه صار مخالفاً للسنّة". (4)

وقد فهم جابر بن عبد الله رضي الله عنه من هذا النوع من السكوت دلالته على الإباحة، فاستدل به على جواز العزل، حيث إنهم كانوا يعزلون والوحي ينزل ومع ذلك لم يَرِدْ تحريمه، فدلّ على أن سكوت الشارع عنه دليل على كونه قاصداً إلى إباحته.

أخرج مسلم عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ". زَادَ إِسْحاقُ قَالَ سُفْيَانُ: لَوْ كاَنَ شَيْئًا يُنْهَى عَنْهُ لَنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ". (5)

(1) انظر السرخسي: أصول السرخسي، ج 2، ص 50، عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار، ج 3، ص 287.

(2)

انظر الزركشي: البحر المحيط، ج 4، ص 206 - 207.

(3)

انظر عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار، ج 3، ص 287 وما بعدها؛ والسرخسي: أصول السرخسي، ج 2، ص 50.

(4)

الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 54.

(5)

صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب (22)، ج 2، ص 1065، (1440)(136).

ص: 177

وعَنْ جَابِرٍ قَالَ: "كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَبَلَغَ ذَلِكَ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَنْهَنَا". (1)

وقد يُخْتَلَفُ في اندراج بعض أنواع السكوت تحت هذا الباب، كما هو الحال في زكاة الخضراوات؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن الأصناف التي تجب فيها الزكاة من الزروع والثمار، وسكت عن الخضراوات مع انتشارها ووجود الداعي لبيان حُكْمها. فهل تُعدّ من هذا النوع من المسكوت عنه، فيكون السكوت عنها دليلاً على عدم وجوب الزكاة فيها؟ أم أنها لا تندرج تحت هذا النوع؟ بل هي من باب السكوتِ إحالةً على ما ورد في ما تجب فيه الزكاة من نصوص عامة فيكون السكوت فيها من باب السكوت لعدم توفر الداعي، وتأخذ حكم الزروع والثمار الأخرى وفقاً لعلّة إيجاب الزكاة فيها. وسيأتي مزيد تفصيل في هذه المسألة عند الحديث عن مسألة: هل السكوت عن النقل ينزّل منزلة نقل السكوت؟

ج - ترك الإستفصال في حكايات الأحوال:

ويندرج لم تحت هذا مسألتان:

1 -

إذا حكم الشارع في مسألة -ذات جزئيات تحتمل الوقوع على أكثر من وجه- بحكم مطلق من غير استفصال عن تلك الجزئيات ولا عن الجهة التي وقعت عليها فهل يُعدّ ذلك تعميماً من الشارع للحكم حتى يشمل كل الجزئيات والوجوه المحتملة؟ أم أنه لا يدلّ بذاته على عموم الحكم؟ فيُقْصَر على الجزئيات التي ورد بشأنها، ولا يتعدّى إلى ما يشمله عموم ذلك الدليل إلّا بدليل آخر.

ذهب بعض الفقهاء وعلى رأسهم الإمام الشافعي إلى القول بأن ترك الإستفصال في حكايات الأحوال ينزل منزلة العموم في المقال. (2) واعترض الجويني على إطلاق هذه القاعدة بأن ما اعتُبِر تركاً للإستفصال غير مُسَلَّم، إذْ قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم عالماً

(1) المصدر السابق، كتاب النكاح، باب (22)، ج 2، ص 1065 (1440)(138).

(2)

انظر القرافي، أحمد بن إدريس: الفروق، ضبطه وصححه خليل المنصور، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1418 هـ / 1998 م)، ج 2، ص 153 - 159؛ والجويني: البرهان، ج 1، ص 237.

ص: 178

بالتفاصيل فلم يحتج للسؤال عنها وأطلق جوابه بناءِ على ما عرف، من غير حاجة إلى ذكر ذلك للسائل، وذلك ما يجري عادة في الفتاوي، حيث يُطلِق المفتي جوابَه إذا علم بانطباقه على الحادثة المستفتى فيها. أما إذا تحققنا من استبهام الحال على الرسول صلى الله عليه وسلم ومع ذلك نجده أطلق جوابه فإن ذلك يحون دليلاً على جريان الحكم على التفاصيل والأحوال كلها. (1)

ومثال ذلك ما روته أم سلمة رضي الله عنها في المستحاضة. فني الموطأ: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ امْرَأَةً كانَتْ تُهَرَاقُ الدِّمَاءَ فِي عَهْدِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَاسْتَفْتَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "لِتَنْظُرْ إِلَى عَدَدِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامَ الَّتِي كاَنَتْ تَحِيضُهُنَّ مِنَ الشَّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا فَلْتَتْرُكِ الصلاة قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ فَإِذَا خَلَّفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ ثُمَّ لِتَسْتَثْفِرْ بِثَوْبٍ ثُمَّ لِتُصَلِّي". (2)

فاستدل الحنفية بهذا الحديث على أن المستحاضة إذا كانت لها عادة معلومة فإنها ترجع إلى تلك العادة مطلقاً سواء كانت مميزة -تميز دم الحيض من غيره- أم لم تكن مميزة. (3) ووجه عدم تفريقهم بين المميزة وغير المميزة قاعدة ترك الإستفصال المذكورة آنفاً، إذْ إن النبي صلى الله عليه وسلم أفتاها باعتماد عادتها من غير استفصال عن حالها هل هي مميزة أم غير مميزة، فدلّ ذلك على استواء الحالين في الحكم. فحكمه من غير استفصال عن حال السائلة ينزل منزلة العموم لكلتا الحالين.

وذهب الشافعية والمالكية والحنابلة إلى التفريق بين المميزة وغير المميزة. فَتَعْتَمِدُ المميزة على التفريق بين نوعي الدم، فتمسك عن الصلاة مدة خروج دم الحيض، فإذا انقطع وظهر دم الإستحاضة اغتسلت وباشرت الصلاة وغيرها من العبادات، أما

(1) انظر الجويني: البرهان، ج 1، ص 237.

(2)

الموطأ، كتاب الطهارة، باب (29)، ج 1، ص 62.

(3)

انظر الكاساني، علاء الدين أبو بكر بن مسعود: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، (بيروت: دار الكتاب العربي، ط 2، 1402 هـ / 1982 م)، ج 1، ص 41 وما بعدها.

ص: 179

العادةُ فَتُعْتَمَدُ عند عدم التمييز (1) واستدلوا على ذلك بنفس القاعدة، حيث ورد في حديث فاطمة بنت أبي حبيش أنه صلى الله عليه وسلم استفصل عن الحال وفرق بينهما، ففي سنن النسائي عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ دَمَ الْحَيْضِ دَمُ أَسْوَدُ يُعْرَفُ فَإِذَا كاَنَ ذَلِكَ فَأَمْسِكيِ عَنِ الصَّلاةِ، وَإِذَا كَانَ الآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي". (2)

وبناءً على هذا التفريق فإن ما ورد في الحادثة الأخرى من عدم الإستفصال يُحَالُ على هذه الرواية ولا ينزل منزلة العموم.

2 -

إذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم واقعة، أو حدثت أمامه فبيّن بعض أحكامها وسكت عن أخرى، هل يدلّ سكوته عن تلك الأحكام على انتفائها؟

مثال ذلك حديث البخاري أَنَّ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ كاَنَ يَقُولُ: لَيْتَنِي أَرَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَبَيْنَا النبي صلى الله عليه وسلم بِالْجِعْرَانَةِ (3) وَعَلَيْهِ ثَوْبُ قَدْ أُظِلَّ بِهِ مَعَهُ فِيهِ نَاسُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ جَاءَهُ أَعْرَابِيُّ عَلَيْهِ جُبَّةُ مُتَضَمِّحُ بِطِيبٍ فَقَالَ: يا رَسُولَ الله كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ بَعْدَمَا تَضَمَّخَ بِالطِّيبِ؟ فَأَشَارَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى بِيَدِهِ أَنْ تَعَالَ فَجَاءَ يَعْلَى فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فَإِذَا النبي صلى الله عليه وسلم مُحْمَرُّ الْوَجْهِ يَغِطُّ كَذَلِكَ سَاعَةً ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ: "أَيْنَ الَّذِي يَسْأَلُنِي عَنِ الْعُمْرَةِ آنِفًا؟ " فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ فَأُتِيَ بِهِ. فَقَالَ: "أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنعُ فَي حَجِّكَ". (4)

(1) انظر الأنصاري، زكريا: حاشية الجمل على شرح المنهاج، (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د. ط، د. ت)، ج 1، ص 246 وما بعدها؛ البهوتي، منصور بن يونس إدريس: كشاف القناع عن متن الأقناع، راجعه وعلق عليه الشيخ هلال مصيلحي ومصطفى هلال، (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1402 هـ / 1982 م)، ج 1، ص 196 وما بعدها؛ الخرشي، محمد: الخرشي على مختصر سيدي خليل وبهامشه حاشية الشيخ العدوي، (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د. ط، د. ت)، ج 1، ص 204 وما بعدها.

(2)

سنن النسائي، كتاب الحيض والإستحاضة، باب "الفرق بين دم الحيض ودم الإستحاضة"، ج 1، ص 185.

(3)

الجِعْرانة: بكسر الجيم وتسكين العين، ماء بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب. ياقوت الحموي: معجم البلدان، ج 2، ص 142.

(4)

صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب (32)، مج 3، ج 5، ص 123.

ص: 180

فأمره بنزع الجبة وغسل الطيب ولم يأمره بالكفارة؛ فهل سكوته عن الكفارة يدلّ على بقاء الحكم على الأصل، وهو أنه لا كفارة على الجاهل؟ أم أنه إنما سكت عن ذلك إحالةً على ما ورد من نصوص أخرى في وجوب الفدية على خرق محظورات الإحرام؟

ذهب المالكية والحنفية (1) إلى وجوب الكفارة بناءً على أن السكوتَ هنا إحالةُ على ما ورد من نصوص في حُكْم خرق محظورات الإحرام. وذهب الشافعية والحنابلة (2) إلى أن السكوت هنا دليل على عدم وجوب الفدية على الجاهل. واستدلوا على ذلك بأن الأعرابي الذي يجهل حرمة لبس الجبة والتطيب على المحرم حريّ به أن يكون جاهلاً بلزوم الفدية، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مدركاً لذلك، ومع ذلك سكت عن

حكم الفدية فدلّ ذلك على عدم وجوبها. (3)

المثال الثاني: قصة الرجل الذي وطئ زوجته في نهار رمضان فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتكفير وسكت عن حكم المرأة -حسب الروايات الواردة- فهل يدلّ ذلك على أنه لا كفارة على المرأة؟ أم أن سكوته ذلك إحالة على ما عُلِمَ من استواء الرجل والمرأة في أحكام كفارات الإفطار في رمضان؟

روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: جَاءَ رَجُلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ الأَخِرَ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ. فَقَالَ: "أَتَجِدُ مَا تُحَرِّرُ رَقَبَةً؟ " قَالَ: لا. قَالَ: "فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ " قَالَ: لا. قَالَ: "أَفَتَجِدُ مَا تُطْعِمُ بهِ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ " قَالَ: لا. قَالَ: فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بعَرَقٍ فِيهِ تَمْرُ -وَهُوَ الزَّبِيلُ (4) - قَالَ: "أَطْعِمْ هَذَا عَنْكَ". قَالَ: عَلَى

(1) انظر ابن عبد البر، أبو عمر يوسف: كتاب الكافي في فقه أهل الدينة المالكي، تحقيق محمد بن محمد أحيد ولد ماديك، (القاهرة: دار الهدى للطاعة، 1399 هـ / 1979 م)، ج 1، ص 337؛ الموصلي، عبد الله بن محمود بن مودود: الإختيار لتعليل المختار، (القاهرة: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، ط 2، 1370 هـ / 1951 م)، ج 1، ص 164.

(2)

انظر النووي، أبو شرف يحيى بن زكريا: روضة الطالبين وعمدة المفتين، (بيروت/ دمشق: المكتب الإِسلامي، ط 2، 1412 هـ/ 1991 م)، ج 1، ص 132؛ ابن قدامة، عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي: المغني، (القاهرة: مكتبة الجمهورية العربية/ مكتبة الكليات الأزهرية، د. ط، د. ت)، ج 3، ص 255.

(3)

انظر الزركشي: البحر المحيط، ج 4، ص 208، ابن قدامة: المغني، ج 3، ص 501.

(4)

الزبيل: القُفَّه أو الزنبيل. الرازي: مختار الصحاح، ص 137.

ص: 181

أَحْوَجَ مِنَّا؟ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا. قَالَ: "فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ". (1)

فذهب الشافعية -في أظهر القولين (2) - ورواية عن أحمد (3) إلى اعتبار السكوت دليلاً على عدم وجوب الكفارة على المرأة، وذهب الجمهور (4) إلى خلاف ذلك بناءً على كون السائل عالماً بأحكام الدين، واستواء الرجال والنساء في أحكام المفطرات. (5)

ودلالة السكوت في المثال الأخير أضعف منها في المثال الأول؛ لأن ظاهر الحديث الأول أن الأعرابي كان جاهلاً بحرمة فعله، والحكمُ أيضاً كان مجهولاً له ولغيره من المسلمين، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر نزول الحكم لإنشاء حكم للمسألة، فلو كانت عليه كفارة لأخبره بها حتى لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة، أما قصة الأعرابي الذي انتهك حرمة شهر رمضان فظاهرها يفيد أن الأعرابي كان عالماً بحرمة فعله؛ ففي بعض الروايات أنه جاء ينتف شعره، ويقول: هلكت وأهلكت، كما أن حكم فعله؟ ن معلوماً للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إذْ أفتاه الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة بما هو ثابت من حكمٍ في المسألة، فربما بيّن له صلى الله عليه وسلم حكمه هو، وأحاله على ذلك الحكم بالنسبة لزوجته، فما دام الجرم واحداً فالكفارة واحدة، خاصة وأنه لم يرد أن الرجل سأل عن حكم زوجته، فلا يكون عدم النص على حكم المرأة نصّاً على سقوط الكفارة عنها، إذْ يجوز أن يكون الجواب على قدر السؤال، والسؤال كان عن حكم الرجل وحده.

ويستخلص من هذين المثالين التفريق بين كون المسكوت عنه قد تبيّن حكمه بدليل صحيح ويفترض في المستفتي أن يكون عالماً به، فلا يدلّ السكوت في هذه الحال على انتفاء الحكم عن المسكوت عنه، وأن يكون المسكوت عنه مما لم يرد فيه

(1) سبق تخريجه.

(2)

انظر النووي: روضة الطالبين وعمدة المفتين، ج 2، ص 374.

(3)

انظر ابن قدامة: المغني، ج 3، ص 123.

(4)

انظر ابن جزي، محمد بن أحمد: قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية، (بيروت: عالم الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د. ط، د. ت)، ص 129؛ ابن قدامة: المغني، ج 3، ص 123؛ الموصلي: الإختيار لتعليل المختار، ج 1، ص 131.

(5)

انظر ابن قدامة: المغني، ج 3، ص 123.

ص: 182

حكم من قَبْلُ، أو مما يتردد حكمه، أو يلتبس على المستفتي فيمكن أن يكون السكوت عنه دليلاً على انتفائه. (1)

ثانياً: السكوت مع عدم توفر الدواعي:

ويندرج تحته:

أ - السكوت عَمّا لم يقع في زمانه صلى الله عليه وسلم من حوادث، أو عَمّا وُجِدَ في بيئات أخرى غير بيئته ولم يطّلع عليه.

ب - السكوت عَمّا عُلِمَ حكمهُ إحالة على ما هو معلوم من حكمه.

أ - السكوت عَمّا لم يقع في زمانه صلى الله عليه وسلم -أو عَمّا وُجِد في بيئة أخرى ولم يطّلع عليه:

وهو الذي يصطلح عليه بالترك غير المقصود، وهو أن لا يفعل النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً لعدم وجود دواعيه، بأن لا يكون موجوداً أصلاً في زمانه، وإنما حديث بعد زمان الرسالة، أو مما كان موجوداً في بيئات أخرى غير بيئته صلى الله عليه وسلم وثبت أنه لم يطّلع عليه. ومثل هذا الترك لا يدلّ على حكم أصلاً، إذْ هو عدم دليل لا استدلالُ بالترك والسكوت، فإذا وُجِدَت مظنة العمل به بعد انقضاء زمن التشريع احتاج الأمر إلى حُكْم جديد يلائم تصرفات الشارع في مثله. وهو الذي قال فيه الشاطبي عند حديثه عن أنواع المسكوت عنه: "أحدهما أن يسكت عنه لأنه لا داعية تقتضيه، ولا موجب يقدر لأجله؛ كالنوازل التي حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد ذلك، فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تقرر في كلياتها. وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم، كجمع المصحف، وتدوين العلم، وتضمين الصناع، وما أشبه ذلك مما لم يَجْرِ له ذكر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن من نوازل زمانه، ولا عرض للعمل بها

(1) انظر الزركشي: البحر الحيط، ج 4، ص 208؛ الأشقر: أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، ج 2، ص 74 - 75.

ص: 183

موجب يقتضيها. فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة شرعاً بلا إشكال". (1)

ومثال هذا ما أورده ابن تيمية في الردّ على المستدلين على عدم جواز دخول الحمامات بكون الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده لم يفعلوه، حيث يقول:

"ليس لأحد أن يحتج على كراهة دخولها، أو عدم استحبابه بكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخلها، ولا أبو بكر وعمر فإن هذا إنما يكون حجة لو امتنعوا من دخول الحمّام، وقصدوا اجتنابها، أو أمكنهم دخوطا فلم يدخلوها. وقد عُلِم أنه لم يكن في بلادهم حينئذ حمّام، فليس إضافة عدم الدخول إلى وجود مانع الكراهة أو عدم ما يقتضي الإستحباب بأولى من إضافته إلى فوات شرط الدخول، وهو القدرة والإمكان.

"وهذا كما أن ما خلقه الله في سائر الأرض من القوت واللباس والمراكب والمساكن لم يكن كلّ نوع منه كان موجوداً في الحجاز فلم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم من كلّ نوع من أنواع الطعام: القوت والفاكهة، ولا لبس من كلّ نوع من أنواع اللباس. ثم إن من كان من المسلمين بأرض أخرى: كالشام، ومصر واليمن، وخراسان

وغير ذلك عندهم أطعمة وثياب مجلوبة عندهم، أو مجلوبة من مكان آخر، فليس لهم أن يظنوا ترك الإنتفاع بذلك الطعام واللباس سنّة؛ لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يأكل مثله، ولم يلبس مثله؛ إذْ عدم الفعل إنما هو عدم دليل واحد من الأدلة الشرعية، وهو أضعف من القول باتفاق العلماء. وسائر الأدلة من أقواله: كأمره ونهيه وإذْنه، ومن قول الله تعالى هي أقوى وأكبر ولا يلزم من عدم دليل معين عدم سائر الأدلة الشرعية". (2)

ب - السكوت عَمّا عُلِم حكمه إحالةً على النصوص الشرعية:

إذا سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن فعل قد عُلِم حكمه بنص من الكتاب أو السنّة، فإن

(1) الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 310. وقد نبّه الشاطبي إلى أن مثل هذه التشريعات الزائدة المبنية على المصالح المرسلة لا تدخل في التعبدات ألبتة، وإنما هي في التصرفات العادية، فقال: "

وأيضا فالمصالح المرسلة -عند القائل بها- لا تدخل في العبدات ألبتة، وإنما هي راجعة إلى حفظ أصل الملة، وحياطة أهلها في تصرفاتهم العادية. ولذلك تجد مالكاً -وهو المسترسل في القول بالمصالح المرسلة- مشدداً في العبادات أن لا تقع إلّا على ما كانت عليه في الأولين". الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 54.

(2)

ابن تيمية: مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 21، ص 313 - 314.

ص: 184

مثل هذا السكوت لا يُعدّ إقراراً للفعل على الإطلاق، وإنما يُفَرَّقُ بين كون الفاعل مسلماً، أو غير مسلم: منافقاً كان أو كافراً. فإذا كان الفاعل مسلماً فإن سكوته صلى الله عليه وسلم يدلّ على الإباحةِ إن لم يسبق تحريمه، ونسخِ الحظر أو الوجوب السابق إن كان هناك واحد منهما. ودليل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيَبْعُدُ أن يكون سكوتُه إحالةً على ما هو معلوم من ححم ذلك الفعل من وجوب أو حظر؛ إذْ في ذلك إقرار للمنكر ولا يمكن أن يقع منه صلى الله عليه وسلم ذلك. ونسب إلى القاضي الباقلاني القول بأن السكوت لا يدلّ على الجواز ولا على النسخ؛ لأن السكوت وعدم الإنكار مُحْتَمِل، (1) فقد يكون سكوته صلى الله عليه وسلم لعلمه بأن الفاعل حديث عهد بالإسلام لم يبلغه التحريم بعد فلم يكن الفعل عليه إذْ ذاك حراماً، وقد يكون سكوته لأنه أنكر عليه من قَبْلُ فعاند ولم ينزجر فرأى صلى الله عليه وسلم أن تكرار الإنكار عليه غير مُجْدٍ.

وما ذكره هؤلاء من احتمالات غير مؤسس، لأن احتمال عدم علم الفاعل بالتحريم لا يستدعي السكوت عليه، بل تبليغه وتعليمه، (2) وهي مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، واحتمال كونه أنكر عليه من قَبْل فلم ينتهِ غير مُسَلَّم أيضاً؛ إذْ عدم الإنتهاء لا يستلزم ترك الإنكار والتذكير كيف والله تعالى يقول له:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: 55].

أما إذا كان الفاعل منافقاً معلوم النفاق، أو كافراً فإن سكوته صلى الله عليه وسلم لا يدلّ على إقرار الفعل وإنما هو إحالة على ما عُلِم من أحكام تلك الأفعال، كما وقع منه صلى الله عليه وسلم من إقرار أهل الكتاب على ممارسة عقائدهم وشعائرهم الشركيّة، فليس في ذلك إقرار لذات الأفعال وتصحيح لها، وإنما إحالة على ما ظهر واستفاض من أحكام الشريعة في تلك العقائد والشعائر فالسكوت عنها من باب عدم توفر داعي الإنكار (3)

ومن هذا النوع من السكوت سكوتُ الشارع عما يفهم بمفهوم الموافقة، أو

(1) انظر الزركشي: البحر المحيط، ج 4، ص 202.

(2)

انظر عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار، ج 3، ص 287 - 288.

(3)

انظر عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار، ج 3، ص 287

ص: 185

مفهوم المخالفة، فإنهما يُعدّان من أنواع المسكوت عنه، لكن إفادة كلٍّ منهما لمقتضاه لا تكون من جهة السكوت لذاته، وإنما لمدرك آخر هو إما اللغة أو القياس -على خلاف مشهور بين الأصوليين- في مفهوم الموافقة، وحكم عقلي في مفهوم المخالفة، هو ثبوت خلاف حكم الشيء لخلافه، فتخصيص شيء بالحكم يقتضي إثبات خلاف ذلك الحكم لخلاف ذلك الشيء، وإلاّ لم يكن لتخصيصه بالحكم فائدة، ويتم ذلك بشروط اشترطها القائلون بمفهوم المخالفة. (1)

ثالثا: السكوت لمانع:

ويكون ذلك في السكوت انتظاراً للوحي. (2) فإذا سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم عن مسألة ليس فيها حكم وسكت انتظاراً للوحي لبيان حُكْمِها فإن ذلك السكوت لا دلالة له على حكم، وإنما يؤخذ الحكم من موقفه بعد نزول الوحي. ومن أمثلة ذلك ما أخرجه الترمذي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ بِابْنَتَيْهَا مِنْ سَعْدٍ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يا رَسُولَ الله هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالاً وَلا تُنْكَحَانِ إِلاّ وَلَهُمَا مَالُ. قَالَ: "يَقْضِي الله فِي ذَلِكَ". فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ، فَبَعَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ:"أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ". (3)

(1) انظر الجويني: البرهان، ج 1، ص 301 - 311؛ الأمدي: الأحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 73 وما بعدها.

(2)

ذكر الأصولييون حالات أخرى أدخلوها تحت السكوت لمانع. انظر الزركشي: البحر المحيط، ج 4، ص 203؛ الأشقر: أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، ج 2، ص 107. ولكنها عند التحقيق يتبين عدم دخولها في ذلك.

(3)

سنن الترمذي، أبواب الفرائض، باب (3)، ج 3، ص 280.

ص: 186