الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث
المخاطَب (السامع)
فالسامعون يتفاوتون في مقدار الإستفادة من الخطاب الوارد إليهم بحسب تفاوت قدراتهم العقلية، ومدى استجماع المخاطَب لأدوات فهم النص ولوازم ذلك، وممارسته لأساليب اللغة وكلام ذلك المتكلّم؛ إذْ طول الممارسة لكلام متكلَّمٍ ما تكسب صاحبها دُرْبَة بأساليبه في الخطاب ومقاصده فيه. ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"نَضّرَ الله امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَبَلّغَهَا، فَرُبّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْر فَقِيه، ورُبّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهَ مِنْهُ"، (1) وقوله صلى الله عليه وسلم:"لِيبلِّغ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَإِنَّه رُبّ مُبَلغَّ يَبلُغُهُ أَوْعَى لَهُ مِنْ سَامِع". (2) ولذلك امتاز الصحابة عن غيرهم في القدرة على فهم النصوص الشرعية، وإدراك مقاصد الشارع منها، كما نجد الصحابة أنفسهم يتفاوتون في ذلك.
والناظر في النصوص الشرعية يجد أنها على مستويين: مستوى يتمكن من فهمه كلُّ مَنْ عرف اللغة العربية؛ ففهمه متيسر لعامة الناس، ومستوى يعسر فهمه على عامة الناس، ويحتاج إلى أهل الاختصاص لإدراك مراميه والإحاطة بمعانيه. ومن هنا اشتُرِط في مَنْ يتصدى للاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية -من هذا النوع الثاني من النصوص- شروطٌ في خلاصتها تمثِّل الأدوات اللازمة لحسن فهم النص واستثمار الأحكام الشرعية منه: مِنْ تمكُّنٍ من ناصيّة اللغة العربية، وتمرُّسٍ على التعامل مع النصوص الشرعية بما يُكسب صاحبه دُرْبَة بأساليب الشارع في الخطاب ومقاصده العامة من التشريع، وعلمٍ بقواعد الأحكام وأصولها، واطلاعٍ على اللازم معرفته من أسباب النزول وأسباب ورود الحديث الشريف. فلا يمكن لمن لم يستجمع شروط النظر الصحيح في النصوص الشرعية أن يدعي قدرته على إدراك مقاصد الشارع من تشريعاته وأحكامه.
(1) رواه ابن ماجة: سنن ابن ماجة، المقدمة، باب (21)، ج 1، ص 49، الحديث (230).
(2)
رواه ابن ماجة: سنن ابن ماجة، المقدمة، باب (21)، ج 1، ص 50، الحديث (233).
ومع التسليم بأن ما سبق ذكره من فروق في قدرات وإمكانات المتصدين لفهم النص الشرعي -أو غيره من النصوص- تُعدّ من أهم أسباب الإختلاف في فهم النصوص، وأنها أمر طبيعي في الحياة لا يمكن التخلص منه كليّة، إلّا أن القول بأن قراءة النص والمعاني المستخلصة منه تختلف باختلاف الناظر في النص علمًا وثقافة وزمانًا ومكانًا لا يكون صحيحًا على إطلاقه، وذلك من وجهين: الأول أنه ليست كلّ النصوص تختلف فيها الأفهام، فما كان منها واضح المعنى تمام الوضوح فإنه لا يحتمل اختلافا، ومخالفته تُعدّ شذوذًا مردودًا على صاحبه، والثاني أن الإجتهاد في فهم النص يجب أن يكون خاضعًا لقواعد موضوعية لا يصح تجاوزها، وذلك بأن يكون المعنى المستنبط يحتمله الكلام الذي استنبط منه، وأن لا يكون السياق الخاص أو العام للنص (1) مخالفًا لما يدَّعيه المستنبط من معنى؛ إذْ إعطاء النص أيّ معنى من المعاني على خلاف السياق الوارد فيه (سواء أكان السياق بمعناه الخاص أم بمعناه العام) يُعدّ ادعاء لا دليل عليه.
(1) سيأتي في العنصر التالي بيان المراد بالسياق الخاص والسياق العام.