الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
نتيجة الاستقراء بين اليقين والظن
قبل الحديث عن الحالات التي يفيد فيها الاستقراء اليقين، والتي يفيد فيها مجرد الظن، يحسن بداية التعرف على مراتب اليقين وأنواعه، وهل اليقين ضروري في كل مسائل العلوم الشرعية أو الدنيوية حتى يصلح العمل بها؟ ثم الحديث بعد ذلك عن نوع اليقين المقصود تحصيله من الاستقراء.
مراتب اليقين:
ينقسم العلم الذي يوصف عادة بكونه يقينيًّا إلى ثلاثة أنواع:
1 -
اليقين المنطقي: وهو العلم بقضية معينة، والعلم بأنه من المستحيل أن لا تكون القضية بالشكل الذي عُلِم. فاليقين المنطقي مركب من علمين، وما لم ينضم العلم الثاني إلى الأول لا يُعدّ يقينًا. واليقين المنطقي على نوعين:
الأول: أن يكون منصبًّا على العلاقة بين قضيتين بوصفها علاقةُ ضرورةٍ؛ من المستحيل أن لا تكون قائمةً بينهما استنادًا إلى التلازم المنطقي بينهما بكون إحداهما متضمِّنة للأخرى.
مثال ذلك قولنا: "زيد إنسان"، و"زيد إنسان عالم"، فإنا نعلم أنه إذا كانت القضية الثانية صادقة، فإن القضية الأولى ستكون يقينًا صادقة، بمعنى أنه إذا ثبت كون زيد "إنسانًا عالمًا" فثبوت كونه "إنسانًا" أمر يقيني منطقًا؛ لأنه يستبطن العلم بأنه من المستحيل أَلَّا يكون الأمر كذلك.
والثاني: أن يكون منصبًّا على قضية واحدة حين يكون ثبوت محمولها لموضوعها ضروريّا، فعلمنا مثلًا بأن الخط المستقيم أقرب مسافة واصلة بين نقطتين يُعدّ -من وجهة نظر المنطق الأرسطي للبرهان- يقينًا لأننا نعلم أنه من المستحيل أن لا يكون الخط المستقيم أقرب مسافة بين نقطتين. (1)
(1) انظر الغزالي: كتاب محك النظر، تحقيق وضبط وتعليق رفيق العجم، (بيروت: دار الفكر اللبناني، ط 1، 1994)، ص 99 - 100، وانظر أيضا محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للإستقراء، ص 322 - 323.
3 -
اليقين الذاتي: وهو الذي وصفه الغزالي بكونه "اعتقادًا جزمًا"، ويعني جزم الإنسان بقضية من القضايا بشكل لا يراوده شكّ أو احتمال لخلاف ذلك، ولكن دون أن يرى استحالة وقوع خلاف ما يعتقده ويجزم به، مع عدم الإهتمام بمدى وجود مبررات موضوعية لهذا اليقين. (1)
3 -
اليقين الموضوعي: وهو"التصديق بأعلى درجة ممكنة، على أن تكون هذه الدرجة متطابقة مع الدرجة التي تفرضها المبررات الموضوعية، أي أن تصل الدرجة التي تفرضها المبررات الموضوعية إلى الجزم". (2)
ويقسم اليقين (القطع) أيضًا إلى نوعين: الأول: القطع الذي يستحيل عقلًا نقضه ووجود مخالف له، والثاني: القطع الذي يراد - به نفي الإحتمال الناشئ عن دليل، لا نفي الإحتمال الجائز عقلًا. والنوع الأول عزيز الوجود في واقع الناس، أما النوع الثاني فتحصيله ممكن وهو المراد بالقطع عادة في الشرعيات، بل وفي العلوم كلها. ومن ذلك قول الحنفية بأن دلالة اللفظ العام على أفراده قطعية، وقول جمهور الأصوليين عن النص بأنه اللفظ الدال في محل النطق ويفيد معنى لا يحتمل غيره. (3) إذْ أشار بعضهم إلى أن الإحتمال الذي لا يقبله النص هو الإحتمال الناشئ عن دليل، أما الإحتمال الناشئ عن غير دليل فإنه لا يمنع أن يكون اللفظ نصًّا في معناه. (4)
نوع اليقين المقصود في الاستقراء:
ليس المقصود باليقين المراد تحصيله في الاستقراء اليقين المنطقي، كما أنه ليس المقصود اليقين الذاتي الذي يُعدّ وجودُه في القضايا الإستقرائية عند كثير من الناس مما لا شك فيه. وإنما المقصود باليقين الذي يسعى الإستدلال الإستقرائي إلى تحصيله هو اليقين الموضوعي، أو ما سماه الشاطبي بالقطع العادي، أي اليقين الذي يراد به نفي الإحتمال الناشئ عن دليل، لا نفي كل احتمال جائز عقلًا. أي هل هناك مبررات
(1) انظر الغزالي: كتاب محك النظر، ص 100.
(2)
محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للإستقراء، ص 325.
(3)
انظر الشنقيطي: نشر البنود على مراقي السعود، ج 1، ص 84.
(4)
محمد أديب صالح: تفسير النصوص في الفقه الإِسلامي، ج 1، ص 206.
موضوعية لإيصال التصديق الإستقرائي إلى درجة الجزم واليقين أم لا؟ فإذا وجدت مبررات موضوعية تثبت أن ما توصل إليه الاستقراء من نتيجة يُقْطَع به عادة، أي حسب ما جرت به العادة وسنن الكون، حكمنا لذلك بإفادة اليقين، بغض النظر عن الإحتمالات المخالفة الناشئة عن غير دليل. ومهما يكن فإن التصديق الموضوعي يبقى بحاجة دائمة إلى افتراض مصادرة فحواها أن هناك درجات من التصديق الموضوعي بديهية ومعطاة بصورة أولية. وهذه هي الأسس التي اعتُمِد عليها في القول بإفادة التواتر القطع.
هل يشترط في نتيجة الاستقراء أن تكون يقينية حتى يعمل بها؟
قد يكون صدق نتيجة الاستقراء تامًّا، أي يقينيًّا، وقد يكون في غاية الرجحان دون الوصول إلى مرتبة اليقين، وفي كلتا الحالتين يجب العمل به؛ لأن العمل بالقضايا الراجحة أمر لا مَفَرّ منه، وإلَّا تعطلت الحياة البشرية، ليس فقط في جانبها التشريعي، بل في جميع مناحيها. ومَنْ مِن الناس في هذا الكون يستطيع الزعم بأنه لا يعمل إلّا بما توفر له فيه عنصر اليقين المنطقي؟ فمن خصائص العلم البشري أنه في كثير من نواحيه نسيي، إلَّا ما جاء به وحي ثبت صدقه، أو ما قطع العقل به. نعم يشترط اليقين في جانب العقائد لخطورتها في حياة البشرية، أما الأحكام العملية فيكفي فيها الظن الراجح.
المراد باليقين في المقاصد:
عندما نتوصل من خلال استقراء تصرفات الشريعة ونصوصها إلى نتيجة مفادها القطع مثلًا بكون التيسير مقصدًا من مقاصد الشارع، فإن ذلك يعني القطع بوجود هذا المقصد، وأن الشارع قَاصِدٌ إليه في تصرفاته كلِّها، لا أننا نقطع بوجود هذا المقصد في كلّ معاملة وفي كلّ تصرف شرعي مهما كان نوعه؛ لأن ذلك يحتاج إلى بحث آخر وإلى التحقيق في إمكانية دخول هذا التصرف أو المعاملة ضمن ما قصد الشارع إلى التيسير فيه أو عدم إمكانية ذلك. وهذا هو المقصود بقولنا إننا نوقن بأن الشارع قصد إلى رفع الحرج أو التيسير أو غيرها من المقاصد العامة.