المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تمهيدبين أصول الفقه ومقاصد الشريعة - طرق الكشف عن مقاصد الشارع

[نعمان جغيم]

فهرس الكتاب

- ‌شكر وتقدير

- ‌المقدمة

- ‌البَابُ الأَوّلاستخلاص المقاصد من منطوق النصوص ومفهومها

- ‌الفصل الأولتعريف مقاصد الشريعة وبيان أقسامها، وفائدة العلم بها

- ‌المبحث الأول: تعريف مقاصد الشريعة وبيان أقسامها

- ‌المطلب الأول: تعريف مقاصد الشريعة

- ‌المطلب الثانيأقسام المقاصد الشرعية

- ‌المبحث الثانيفائدة العلم بمقاصد الشارع

- ‌تمهيدبين أصول الفقه ومقاصد الشريعة

- ‌الفصل الثانياستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص

- ‌تمهيدطرق إفادة الكلام

- ‌المبحث الأولاستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص

- ‌المبحث الثانينماذج تطبيقية لإستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص الشرعية

- ‌النموذج الأول: استخلاص المقاصد من النص والظاهر:

- ‌النموذج الثاني: دلالة الأمر والنهي:

- ‌النموذج الثالثدلالة العام

- ‌الفصل الثالثوظيفة السياق والمقام في تحديد المقصود من الخطاب الشرعي

- ‌تمهيدطبيعة النص الشرعي ومستويات فهمه

- ‌المبحث الأولالعناصر التي تتحكم في فهم الخطاب

- ‌المطلب الأوللغة الخطاب

- ‌المطلب الثانيالمخاطِب (المتكلّم)

- ‌المطلب الثالثالمخاطَب (السامع)

- ‌المطلب الرابعسياق الخطاب

- ‌نماذج تطبيقية

- ‌المبحث الثانينماذج تطبيقية على أهمية السياق والمقام في تحديد المقصود من الخطاب الشرعي

- ‌المطلب الأولأهمية القرائن في تحديد المقصود من الأوامر والنواهي

- ‌المطلب الثانيأهمية القرائن في تحديد المقصود من صيغ العموم

- ‌المطلب الثالثتخصيص الخطاب الشرعي بعادات المخاطَبين وأعرافهم

- ‌المطلب الرابعتخصيص العام بقول الصحابي

- ‌المطلب الخامسأهمية السياق في تحديد المقصود من النص

- ‌الفصل الرابعاستخلاص المقاصد من خلال معرفة علل الأحكام الشرعية

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأولتعليل الأحكام الشرعية وعلاقته بالكشف عن مقاصد الشريعة

- ‌المطلب الأولالتعليل بين القائلين به والرافضين له

- ‌المطلب الثانيتعليل العبادات

- ‌المبحث الثانيمسالك العلة ووظيفتها في الكشف عن مقاصد الشارع

- ‌الفَصْلُ الخَامَسِسكوت الشارع ودلالته على مقاصده

- ‌المبحث الأولأنواع سكوت الشارع

- ‌المبحث الثانيالفرق بين دلالة سكوت الشارع في العبادات وسكوته في المعاملات

- ‌المبحث الثالثعلاقة سكوت الشارع بمرتبة العفو

- ‌المبحث الرابعهل السكوت عن النقل نقل للسكوت (هل ترك النقل ينزل منزلة نقل الترك)

- ‌البَابُ الثَّانياستخلاص المقاصد من طريق الاستقراء

- ‌الفَصْلُ الأَوّلمفهوم الاستقراء وأنواعه

- ‌تَمْهِيد

- ‌المبحث الأولمفهوم الاستقراء

- ‌المبحث الثانيأنواع الاستقراء

- ‌أولًا: الاستقراء التام

- ‌ثانيًا: الاستقراء الناقص:

- ‌الفَصْل الثَّانِيالاستقراء في القرآن الكريم والعلوم الشرعية

- ‌المبحث الأولالاستقراء في القرآن الكريم

- ‌المبحث الثانيالاستقراء في العلوم الشرعية

- ‌المطلب الأولالاستقراء عند الأصوليين

- ‌المطلب الثانيتطبيقات الاستقراء عند الفقهاء والأصوليين

- ‌الفَصْلِ الثَّالِثالاستقراء عند الإمام الشاطبي

- ‌تَمْهِيد

- ‌المبحث الأولتعريف الاستقراء عند الشاطبي وبيان الأساس الذي يقوم عليه

- ‌المبحث الثانيالاستقراء عند الإمام الشاطبي بين القطع والظن

- ‌المبحث الثالثحَلُّ الإمام الشاطبي لمشكلة الاستقراء الناقص

- ‌المبحث الرابعمجالات استخدام الشاطبي للإستقراء

- ‌الفَصْلُ الرَّابعِالاستقراء عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور

- ‌تَمْهِيدٌ

- ‌المبحث الأولالاستقراء بين القطع والظن عند ابن عاشور

- ‌المبحث الثانيمجالات استخدام الاستقراء عند ابن عاشور

- ‌الفَصْل الخَامِسْدراسة تقييمية للإستدلال الإستقرائي

- ‌المبحث الأولالفرق بين الاستقراء العلمى والاستقراء في العلوم الإنسانية

- ‌المبحث الثانيإمكانية تحقيق الاستقراء وجدواه

- ‌المبحث الثالثنتيجة الاستقراء بين اليقين والظن

- ‌المبحث الرابعحل مشكلة الاستقراء الناقص في العلوم الشرعية

- ‌الفَصْلُ السَّادِسُدراسة تطبيقية لمسلك الاستقراء

- ‌تَمْهِيدٌ

- ‌المبحث الأولاستقراء علل الأحكام الضابطة لحكمة واحدة

- ‌المبحث الثانياستقراء أدلة أحكام اشتركت في علة واحدة

- ‌المبحث الثالثاستقراء مجموعة من النصوص الشرعية المشتركة في معنى واحد

- ‌الترغيب في التيسير على العموم:

- ‌العفو عن أهل الكتاب:

- ‌الأمر بالتيسير على ذوي الحاجات والأعذار في الصلاة:

- ‌الترغيب في أن يكون الإنسان سمحاً في معاملاته:

- ‌كفارة اليمين:

- ‌كفارة قتل الصيد في الحرم:

- ‌كفارة القتل الخطأ:

- ‌كفارة الظِّهار:

- ‌التيسير في المعاملات:

- ‌1 - شرع الشُّفْعة:

- ‌2 - الترخيص في الغرر اليسير والجهالة التي لا انفكاك عنها في الغالب

- ‌3 - شرع السَّلم:

- ‌4 - الترخيص في العرايا

- ‌5 - شرع القرض:

- ‌الخاتمة

- ‌قائمة المصادر

الفصل: ‌تمهيدبين أصول الفقه ومقاصد الشريعة

‌المبحث الثاني

فائدة العلم بمقاصد الشارع

‌تمهيد

بين أصول الفقه ومقاصد الشريعة

تعرض الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة الإِسلامية بالنقد اللاذع للذين زعموا أن القواعد الأساسية لعلم أصول الفقه قطعية، ووصف محاولة الشاطبي إثبات ذلك بأنها لم تأت بطائل، (1) ودعا إلى تطوير فكرة التأليف في المقاصد الشرعية لتصل إلى مرتبة فصل هذا العلم عن علم أصول الفقه وتأسيس علم تجمع فيه "أشرف معادن مدارك الفقه والنظر"(2) تَتَّسِم مباحثُه بوصف القطعية ليكون مرجع المختلفين والحَكَم بين المشتجرين في الفروع الفقهية.

أما عن قطعية مبادئ أصول الفقه فإن ابن عاشور نفسه قد أيَّدَ هذه الدعوة، ولكن من غير أن يبيِّن وجهة نظره في كيفية تحقيقها ويقدِّم البديل لما فشل فيه من سبقه، حيث قال بعد فراغه من انتقاد السابقين:"فينبغي أن نقول: أصول الفقه يجب أن تكون قطعية، أي من حق العلماء أن لا يدوِّنُوا إلّا ما هو قطعيّ إما بالضرورة، أو بالنظر القوي"، (3) ثم انتقل بعد ذلك إلى موضوع آخر من غير بيان لكيفية تحقيق هذه الدعوة.

والواقع أن تكلُّفَ الإستدلال لكون كلّ قواعد ومباحث علم أصول الفقه قطعية مثل تكلُّف الإستدلال لكون مباحث المقاصد قطعية أَمْرٌ لا يأتي بكبير نتيجة، بل هو تكلُفٌ غير مطلوب أصلًا. فمباحث علم أصول الفقه فيها القطعي وفيها الظني، ووجود الظني فيها لا يضرُّ كونَها منهجًا للإستدلال والإستنباط، فليس

(1) انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 110.

(2)

المصدر السابق، ص 111.

(3)

المصدر السابق، ص 111.

ص: 38

القطع مطلوبًا في كلّ قضايا الحياة العملية.

لقد كان ابن عاشور مصيبًا في جزءٍ من انتقاده لعلم أصول الفقه بكون "معظم مسائله لا ترجع إلى خدمة حِكْمة الشريعة ومقصدها"، (1) وضآلة حجم المباحث المخصصة للمناسبة والإخالة والمصالح المرسلة -وهي مباحث في المقاصد- مقارنة بغيرها من المباحث، ولكن علاج هذا القصور ليس في وصف علم أصول الفقه بالعقم، ووصف مباحث المقاصد بالقطعية، والدعوة إلى تأسيس علم مستقل بها، ومحاولة جعلها بديلاً له؛ لأن ذلك لن يأتي بكبير فائدة.

نعم، يمكن إفراد موضوع المقاصد بالتأليف والبحث وجعله فرعًا من فروع العلوم الشرعية، فلا مانع من ذلك أُسْوَة بغيره من فروع العلم؛ إذْ إنّ إفراد موضوع بالبحث والدراسة يسهم في كشف كوامنه وأسراره، ولفت الأنظار إليه، وإيصاله إلى درجة النضج. أما إمكانية صيرورته منهجًا لإستنباط الأحكام يحلُّ محلَّ أصول الفقه أو يكون موازيًا له فأمر فيه نظر. وأفضل عمل هو ما قام به الشاطبي من دمج مباحث المقاصد بمباحث الأصول، وإعطائها مكانة بارزة فيها بحيث تصير روحًا يسري فيه؛ فمباحث المقاصد مكملة لمباحث الأصول لابديلًا له، وليس من اللازم لإبراز أهمية المقاصد التقليلُ من شأن أصول الفقه.

أما عن جعل قواعد المقاصد مَلْجَأَ المشتجرين، والفيصل بين المختلفين فإنه أمل عريض، لكنه عسير المنال؛ ذلك أن من رام رفع الخلاف في المسائل الفرعية فقد طلب مُحالاً، وإنما الذي يرجى هو تضييقُ دائرة الخلاف بالسعي إلى القضاء على التعصب المذهبي والاعتدادِ بالرأي ولو كان دليله ضعيفًا، والإتجاهُ إلى تحقيق المسائل العلمية وفق منهج يعتمد قوة الدليل وموافقة مقاصد الشارع بصرف النظر عن مدى موافقة النتيجة لهوى النفس واستجابتها للضغط النفسي الذي يفرضه الواقع المنحرف عن مبادئ الشرع ومقاصده، وأن لا يَزُجَّ بنفسه في هذه العملية من لم يكن مؤهلًا لها. وقد أشار ابن عاشور نفسه إلى هذا في صدر مقدمته لكتاب مقاصد

(1) انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 106 بتصرف يسير.

ص: 39

الشريعة الإِسلامية، حيث جعل من مقاصد كتابه التوسل إلى "إقلال الإختلاف بين فقهاء الأمصار، ودُرْبَة لأتباعهم على الإنصاف في ترجيح بعض الأقوال على بعض". (1) ولكنه لم يَسْلَم من الوقوع في المقدمات الخطابية التي عابها على الشاطبي؛ فمع أنه وصف مقاصد الشريعة بأنها تسهم في إقلال الإختلاف لا في رفعه كُلَّيَّة، وهو الصواب، إلّا أنه وصفها بعد ذلك بأنها "الفصل من القول إذا شجرت حجج المذاهب"، (2) وشبَّه ما سيدوِّنه من مقاصد الشريعة بالأدلة الضرورية القطعية التي يحتكم إليها أصحاب العلوم العقلية في حجاجهم المنطقي والفلسفي.

أما عن وصف قواعد المقاصد بوصف القطعية فإنه يمكن القول إن المقاصد العامة للشريعة كلها قطعية لا يتنازع فيها أصحاب المذاهب والاتجاهات الفقهية المختلفة، ولكن السؤال هو هل قطعيَّةُ تلك القواعد المقصدية كفيلة برفع الخلاف الفقهي فيما يندرج تحتها من فروع؟ وهل قطعيتها تعني قطعية جزئياتها؟ لا شك أن الجواب سيكون بالنفي.

فمثلًا كون "دين الله يسرًا" وأن من مقاصد الشريعة الإِسلامية التيسير أمر قطعي لا خلاف فيه، ولكن تطبيق هذه القاعدة على الفروع لا يمكن أن يتوفر فيه وصفُ القطعية في كل الحالات، ولا بُدّ أن يقع فيه خلاف بين أهل النظر: ما هو الحرج الذي يقتضي التيسير والذي لا يقتضيه؟ فهناك حَدٌّ يتّفق الكلّ على اقتضائه التيسير، وآخر يتفقون على عدم اقتضائه التيسير، ولكن بينهما درجات ستكون محلّ اختلاف في التقدير، ولا يمكن لأحد أن يقطع فيها بشيء. وكذلك كونُ الشارع قاصدًا إلى إبطال الغرر، ودفع الضرر، وسدِّ ذرائع الفساد، كلها مقاصد قطعية، ولكن على الجملة لا على التفصيل، ويقال فيها ما قيل في كون الشارع قاصدًا إلى التيسير وسيقع فيها الخلاف في التقدير كما يقع في تلك، وتكون الخلاصة أنه كما لم تتمكّن قواعد الأصول من رفع الخلاف فإن قواعد المقاصد لن تكون أحسن حالًا.

(1) انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، 105.

(2)

المصدر السابق، ص 105 بتصرف يسير، حيث وردت الأصل بعبارة "وفصل من القول

".

ص: 40

إن إدراك المقاصد الشرعية أمر مهم جدًّا في استنباط الأحكام، لكنه يبقى عنصرًا واحدًا من العناصر التي يحتاج إليها الإجتهاد، ولا يمكن أن يصير بمفرده منهجًا لإستنباط الأحكام؛ وذلك أن استنباط حُكْم من الأحكام الشرعية يتمّ عبر خطوات تتمثل في: فهم النص الذي يمكن أن تندرج تحته الواقعة محلّ الإجتهاد، وذلك يقتضي تمكُّنًا من اللغة العربية، ثم معرفة ما إذا كان ذلك النص ناسخًا أو منسوخا، ومعرفة سبب نزول الآية أو ورود الحديث إذا كان كلّ منهما لا يُفْهم إلَّا بمعرفة ذلك، ثم معرفة موقع ذلك النص من النصوص الشرعية الأخرى من حيث العموم والخصوص، والتقييد والإطلاق، ووجود ما يعارضه أو يعضده، ثم تحقيق مناط الحكم وهو معرفة الواقعة محلّ الإجتهاد معرفة دقيقة، ثم تقدير مآل الحكم هل يكون موافقًا لما قصده الشارع منه أم لا؟ وإذا لم يكن في الواقعة نصّ معيَّن بُحِثَ لها عن القاعدة العامة التي تنضوي تحتها وعن أشبه الأحكام بها. وتكون فائدة العلم بالمقاصد في الإجتهاد هي تحديد المعنى المراد من النص المحتمل، وترجيح إلحاق الواقعة بنظير يحقِّقُ مقاصدَ الشارع بَدَلَ إلحاقها بنظير آخر لا يحققها، والنظر في مآلات الأحكام بما لا يخرجها عن مقصود الشارع منها، والترجيح بين المصالح المتعارضة. (1)

وفيما يأتي بيان أهم وجوه الإستفادة من المقاصد للفقيه الناظر في النصوص

الشرعية، سواء في إعانته على فهمها، أو في تمكينه من حسن تنزيلها على الواقع.

أولًا - الإستعانة بالمقاصد في مسائل التعارض والترجيح:

ذلك أن حقّ المجتهد قبل إمضاء أي دليل لَاحَ له في مسألة من مسائل الفقه أن يبحث عن وجود المعارض، ليتأكد أن دليله هذا سَالِم من أن يُبطَل بأي دليل آخر: إمّا نسخًا، أو تخصيصًا، أو تقييدًا، أو رجحانًا عليه. وتكمن فائدة العلم بالمقاصد هنا في مناحي ثلاث:(2)

(1) انظر المبحث الثاني من الفصل الأول من الباب الأول من هذا المبحث.

(2)

انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 120 - 121.

ص: 41

الأولى: أن الباعث على المبحث عن المعارض يقوى ويضعف بمقدار ما ينقدح في ذهن المجتهد -وقت النظر في الدليل الذي بين يديه- من كونه مناسبًا لمقاصد الشارع أو غير مناسب، فإذا تبينت مناسبتُه لمقاصد الشارع ضعف احتمال وجود معارض قوي له، أما إذا خفيت المناسبة، أو بَانَ عدم مناسبته لمقاصد الشارع، فإن احتمال وجود المعارض يقوى، ومن ثَمَّ يكون الداعي إلى المبحث عنه قويا.

الثانية: مدى اطمئنان الفقيه بعد المبحث عن المعارض: فكّلما كانت مناسبة الدليل لمقاصد الشريعة أقوى كان اطمئنان الفقيه إلى عدم وجود المعارض -بعد استنفاذ الوسع في المبحث وعدم العثور عليه- أقوى، وبالعكس.

الثالثة: الترجيح بين الأدلّة المتعارضة استنادًا إلى المقاصد، فيرجح الدليل المحقق للمقاصد، أو الأقرب إلى تحقيقها على الدليل الذي لا يلائمها أصلاً، أو يقصر عن تحقيقها.

أمثلة:

ومن أمثلة المبحث عن المعارض حادثة استئذان أبي موسى الأشعري على عمر رضي الله عنهما ثلاثًا، فلما لم يؤذن له رجع، فبعث عمر وراءه، فلما حضر عتب عليه انصرافه فأخبره أبو موسى بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. ولكن لما كان في هذا نوعُ معارضةٍ للقصد من الإستئذان وهو إعلام صاحب البيت بالقدوم وطلب الإذن في الدخول، وذلك لا يستدعي التحديد بعدد معين، كما أن فيه نوعَ معارضةٍ لأصل الإستئذان في قوله تعالى:{فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور: 28]، الذي لم يُقيد بعدد محدد، كان شكُّ عمر قويًّا في صحة صدور هذا الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي صلوحية كونه معارضًا لهذا الأصل، ولذلك طالبه بالبيّنة، (1) وشدد عليه في ذلك. ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: "كُنْتُ فيِ مَجْلِسٍ مِن مَجَالِسِ الأَنْصَار إِذْ جَاءَ أبُو مُوسى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ، فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَر ثَلاثًا فَلَمْ يُؤْذَن لي، فَرَجَعْتُ، فَقَالَ مَا مَنَعَكَ؟ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلاثًا فَلَمْ يُؤْذَن ليِ فَرَجَعْتُ، وقَالَ رَسُولُ الله

(1) انظر هذا التوجه في: محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 121.

ص: 42

- صلى الله عليه وسلم: "إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُم ثَلاثًا فَلَمْ يُؤْذَن لَهُ فَلْيَرْجِعْ"، فَقَال: والله لتُقِيمَنَّ عليه بَيَّنَة. أَمِنْكُم أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنْ النبي صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ أُبيّ بْن كَعْبٍ: والله لَا يَقُومُ مَعَكَ إلّا أَصْغَر القَوْم، فَكُنْتُ أَصْغَر القَوْمِ فَقُمْتُ مَعَهُ فَأَخْبَرْتُ عُمَر أَنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ". (1)

وعلى عكس الحادثة السابقة نجد عمر رضي الله عنه لم يتردد في الأخذ بحديث عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه في أخذ الجزية من المجوس، لعدم وجود أصل في ذلك، ولأن شكه في وجود معارض لهذا الحديث كان ضعيفًا، (2) إذ قد جرى عرف الشارع بأخذ الجزية من أهل الأديان الأخرى إذا رضوا بالدخول تحت حكم الإِسلام، ومثل هذا موافق لمقصد الشارع في عدم إكراه الآخرين على اعتناق الإِسلام، والإكتفاء منهم بالتسليم له، والإنضواء تحت سلطانه، أو على الأقل مسالمته وعدم الوقوف في وجهه. ففي صحيح البخاري أن عمر رضي الله عنه لم يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف:"أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَخَذَ الجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَر (3) ". (4) وقد أخذ عمر رضي الله عنه بالحديث مباشرة دون تردُّد، ودون مطالبة بالبيِّنة، كما كان الأمر في الحادثة السابقة.

ثانيًا - الإستعانة بالمقاصد في فهم بعض الأحكام الشرعية:

فإن بعض الأحكام الشرعية قد تبدو غامضة، ويقف الفقيه أمامها حائرًا، عاجزًا عن إدراك كنهها، مع تسليمه بصحتها ووجوب العمل بها.

ومثال ذلك ما جرت به السنّة من عدم استلام الركنين اللذين يليان حجر إسماعيل، والإكتفاء بتقبيل الحجر الأسود، واستلام الركن اليماني. فخصوصية الحجر الأسود واضحة، أما التفريق بين الركن اليماني والركنين الآخرين ففيه غموض. وقد

(1) البخاري، محمد بن إسماعيل: الجامع الصحيح، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1412 هـ/ 1992 م)، كتاب الإستئذان، باب (13)، الحديث (6245) مج 4، ج 7، ص 169.

(2)

انظر في توجيه موقف عمر هذا: محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 122.

(3)

هجر: "مدينة، وهي قاعدة البحرين

وقيل ناحية البحرين كلّها هجر". الحموي، ياقوت بن عبد الله: معجم البلدان، (بيروت: دار صادر/ دار بيروت للطباعة والنشر، 1404 هـ / 1984 م)، ج 5، ص 393، وانظر ابن الأثير: الكامل في التاريخ، (بيروت: دار صادر، 1399 هـ / 1979 م)، ج 2، ص 230.

(4)

صحيح البخاري، كتاب الجزية والموادعة، باب (1)، الحديث (3156) و (3157)، مج 2، ج 4، ص 395.

ص: 43

كان ابن عمر رضي الله عنهما متحيرًا من ذلك إلى أن سمع حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "أَلَمْ تَرَيْ أنّ قَومَكِ لَمَّا بَنوا الكَعْبَة اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِد إِبْرَاهِيم؟ " فَقُلْت: يا رَسُول الله أَلَا تَرُدُّها عَلَى قَوَاعَد إِبْرَاهيمَ؟ قال: "لَوْلَا حِدْثَانُ قَومِكِ بِالكُفْرِ لَفَعَلْتُ"، وفي رواية أخرى أن عائشة رضي الله عنها قالت: سَأَلْتُ النبي صلى الله عليه وسلم عَن الجَدْرِ (1) أَمِن الْبَيْتِ هُو؟ قَالَ: "نَعَمْ". قُلْتُ: فَمَالَهُم لَمْ يُدْخِلُوُه فيِ البَيْتِ؟ قَالَ: "إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ". وبناءً على رواية عائشة هذه فهم ابن عمر حكمة ذلك التفريق، وانثلج له صدره، وقال:"لَئِن كانَت عَائِشَة سَمِعَت هَذَا مِنْ رَسُولِ الله، مَا أُرَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذينِ يَلِيَانِ الحِجْر إلّا أَنّ البَيْتَ لَمْ يُتَمَّم عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيم". (2)

ثالثًا - الإستعانة بالمقاصد في فهم النصوص وتوجيهها:

ويكون هذا على الخصوص في النصوص ظنية الدلالة؛ إذْ يستعين المجتهد بالمقاصد في فهم النصوص واختيار المعنى المناسب لتلك المقاصد، وتوجيه معنى النص بما يخدمها، وقد يصل الأمر بالمجتهد إلى تأويل النص، وصرفه عن ظاهره في حال مخالفة ذلك المعنى الظاهر لمقاصد الشريعة وكلّياتها.

ومن أمثلة هذا ما ورد من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض، وموقف الصحابة والتابعين والفقهاء من بعدهم من أحاديث النهي هذه، وكيفية توجيههم لها تبعًا لما فهموه من مقاصد النهي. (3)

الأحاديث الواردة في النهي:

من الأحاديث التي وردت في النهي عن كراء الأرض ما يأتي:

1 -

ما رواه البخاري من حديث جابر رضي الله عنه أنه قال: "كانت لرجال فضول من

(1) الجَدْر: الحائط. انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 4، ص 121. والمراد هنا الجدار المحيط بحِجْر إسماعيل عليه السلام.

(2)

صحيح البخاري، كتاب الحج، باب (42)، مج 1، الحديث (1583) و (1584)، ج 2، ص 490.

(3)

انظر عرض ابن عاشور وتعليقه على هذا المثال في مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 130 - 132.

ص: 44

أرضين، فقالوا: نؤاجرها بالثلث والربع والنصف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضُ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ ليَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ". (1)

2 -

ما رواه مالك بن أنس في الموطأ عن رافع بن خديج رضي الله عنه: "أَنّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ". (2)

3 -

ما رواه البخاري في صحيحه عن رافع بن خديج أنه قال: "دَعَانِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وقَالَ: "مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ؟ " قُلْتُ: نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبْعِ وعَلَى الأَوْسُق مِن التَّمْرِ والشَّعِير قَالَ: "لَا تَفْعَلُوا، ازْرَعُوهَا، أَوْ أَزْرِعُوهَا، أَوْ أَمْسِكُوهَا". قال رافع: قلتُ سمعًا وطَاعةً". (3)

الآثار الدالة على الجواز:

فالأحاديث السابقة ظاهرة في النهي عن كراء الأرض، وفي الأمر بمنحها لمن يزرعها من غير مقابل، أو إمساكها. لكنها عارضت بعض الوقائع التاريخية الدالة على جواز كراء الأرض ومن ذلك:

1 -

ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كُنْتُ أَعْلَمُ في عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَنّ الأَرْضَ تُكْرَى. ثُمّ خَشِيَ عَبْدُ الله أَنْ يَكُونَ النّبي صلى الله عليه وسلم قَدْ أَحْدَثَ فيِ ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يَكُن يَعْلَمُه، فَتَرَكَ كِرَاءَ الأَرْضِ". (4)

2 -

ما رواه البخاري عن نافع: "أَنّ ابنَ عُمر رضي الله عنهما كاَنَ يُكْرِي مَزَارِعَه عَلَى عَهْدِ النّبي صلى الله عليه وسلم وأَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ وصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ مُعَاوِيّة". ثم حُدِّثَ عن رافع بن خديج: "أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم نَهى عَنْ كِرَاءِ المزَارِعِ، فَذَهَبَ ابنُ عُمَر إِلى

(1) صحيح البخاري، كتاب الهبة، باب (35)، الحديث (2632)، مج 2، ج 3، ص 200، وكتاب الحرث والمزارعة، باب (18)، الحديث (2340)، مج 2، ج 3، ص 101 - 102.

(2)

مالك بن أنس: الموطأ، (استانبول: agri Yayinlari، د. ط، 1401 هـ/ 1981 م)، كتاب البيوع، باب (13)، ج 2، ص 625.

(3)

صحيح البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب (18)، الحديث (2339)، مج 2، ج 3، ص 101.

(4)

صحيح البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب (18)، الحديث (2345)، مج 2، ج 3، ص 102.

ص: 45

رَافِعٍ، فَذَهَبْتُ مَعَهُ، فَسَأَلَه فَقَال: نَهَى النّبي صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ المزَارِعِ، فَقَال ابنُ عُمَر: قَدْ عَلِمْتَ أَنّا كُنّا نُكْرِي مَزَارِعَنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بِمَا عَلَى الأَرْبِعاءِ (1) وبشَيْءٍ مِن التَّبْنِ". (2)

موقف الفقهاء من دلالة النهي:

وقد ذهب فقهاء الصحابة والتابعين مذهبين في توجيه أحاديث النهي عن كراء الأرض، بناءً على فهم كلّ فريق لقصد الرسول صلى الله عليه وسلم من النهي عن كراء المزارع:

ذهب فريق - ومنهم سالم بن عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، ورواية عن رافع بن خديج، والإمام مالك، وعروة بن الزبير - إلى أن علَّة النهي ما في هذا الكراء من مخاطرة وغرر، ويفسر ذلك ما رواه البخاري عن رافع بن خديج رضي الله عنه أنه قال:"كُنّا أَكْثَرَ أَهْلِ المدِينَة مُزْدَرَعًا، كُنّا نُكْرِي الأَرْضَ بالنَّاحِيّةِ مِنْهَا مُسَمّى لِسَيِّدِ الأَرْضِ، قَالَ فَمِمَّا يُصابُ ذَلِكَ وتَسْلمُ الأَرْضُ، ومِمّا يُصابُ الأرضُ ويَسْلمُ ذَلِكَ، فنُهِينا، وأَمّا الذَّهَبُ والوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَومَئِذٍ". (3) ولما كان قصد الشارع إبطال المعاملات التي تتضمن غررًا ومخاطرة، نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا النوع من المعاملات. ومن ثَمَّ قصر هذا الفريق النهي على كراء الأرض بما تنتجه ناحية مسماة منها، وأجازوا كراءها بالذهب والفضة. فقد روى مالك عن ابن شهاب الزهري أنه قال:"سألت سعيد بن المسيب عن كراء الأرض بالذهب والورِق؟ فقال: لا بأس به". (4)

وروى مالك عن الزهري أيضًا أنه سأل سالمًا بن عبد الله بن عمر عن كراء المزارع؟ فقال: لَا بَأْسَ بِهَا بالذّهَبِ والوَرِقِ". قال ابن شهاب: فقلت له: "أَرَأَيْتَ الحدِيثَ الّذِي يُذْكَرُ عَن رَافعِ بن خُدَيْج؟ فَقَالَ: أَكْثَرَ رَافِعٌ. ولَوْ كاَنَ لِي مَزْرَعَةٌ

(1) الأَرْبِعاء: جمع ربيع، وهو النهر الصغير. والمراد هنا أنهم يكرون الأرض ويشترطون على مكتريها ما ينبت على الأنهار والسواقي. انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 8، ص 104.

(2)

صحيح البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب (18)، الحديث (2343) و (2344)، مج 2، ج 3، ص 102.

(3)

صحيح البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب (7)، الحديث (2327) مج 2، ج 3، ص 96.

(4)

مالك بن أنس: الموطأ، كتاب كراء الأرض، باب (1)، ج 2، ص 711.

ص: 46

أَكْرَيْتُهَا". (1)

وروى البخاري عن رافع بن خديج قال: "حدثني عماي أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بما يَنْبُتُ على الأربعاء أو شيء يستثنيه صاحب الأرض، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقلت لرافع: فكيف هي بالدينار والدرهم؟ فقال رافع: ليس بها بأس بالدينار والدرهم". (2)

وذهب فريق ثان - ومنهم: ابن عباس، ورواية عن رافع بن خديج، والبخاري - إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد من هذا النهي ترغيب الصحابة في مواساة ومساعدة بعضهم بعضًا، نظرًا للظروف الإقتصادية الصعبة التي كانوا يعيشونها في دار الهجرة، وعلى ذلك لا يكون النهي تحريمًا للمزارعة، بل مجرد تنفير للصحابة من ذلك، وترغيبهم في التبرع بها لمن يقدر على زرعها من إخوانهم. وقد دعموا توجيههم هذا لتلك النصوص بما رواه البخاري عن رافع بن خديج: "لَقَدْ نَهَانَا رُسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرٍ كَانَ بِنَا رَافِقًا

". (3) وما أورده البخاري أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "إِنّ النبي صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ عَنْهُ، ولَكِنْ قَالَ:"أَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُم أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مَعْلُومًا". (4)

فهذا الفريق - لَمّا رأى أن مقصد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن تحريم المعاملة، وإنما كان يقصد الترغيب في التعاون والتآسي بين الصحابة - أَوَّلَ الحديث ولم يأخذه على ظاهره بما يفيده من تحريم كراء الأرض، وإنما عَدَّ ذلك من باب الترغيب في التآسي، والتنفير من ضد ذلك.

رابعًا - أهمية المقاصد في توجيه الفتوى:

الهدف من الفتوى تنزيلُ النصوصِ على الوقائع، وتحقيق مقاصد الشارع في آحاد

(1) المصدر السابق، والصفحة نفسها.

(2)

صحيح البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب (19)، الحديث (2346 و 2347)، مج 2، ج 3، ص 103.

(3)

صحيح البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب (18)، الحديث (2339)، مج 2، ج 3، ص 101.

(4)

المصدر السابق، الحديث (2342)، ص 102.

ص: 47

المستفتين، ولَمَّا كانت مقاصد الشارع واحدةً لجميع المستفتين، وفي مختلف الظروف، وكان مدى تحقيق هذه المقاصد يخضع لحالة المستفتي، وظروف الفتوى، كان من اللازم على المفتي أن يتصرف في فتواه بما يحقق تلك المقاصد الثابتة والمشتركة، ومن ثَمَّ وجب مراعاة المرونة في الفتوى لتتغير بتغير ظروف وملابسات المفتي والواقعة محل الفتوى. فالمقصد ثابت ومشترك بين جميع الناس، والذي يتغير بتغير الشخص أو الظرف هو الفتوى، ويكون تغيرها بما يحقق ذلك المقصد.

ومن أمثلة ذلك قصة ابن عباس مع الرجل الذي استفتاه أَلِلْقَاتِلِ تَوْبَةٌ؟ فقد روي أنه: "جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: أَلِمَن قَتَل مؤمنًا متعمدًا توبة؟ قال: لا، إلَّا النار قال: فلما ذهب قال له جلساؤه: أهكذا كُنْتَ تُفْتينا؟ كنت تفتينا أنَّ لِمَن قَتَلَ تَوْبَةٌ مَقْبُولَةٌ؟ قال: إني لأحسبه مغضبًا، يريد أن يقتل مؤمنًا، قال: فبعثوا في أثره، فوجدوه كذلك". (1)

فلما كان قصد الشارع من الحضِّ على التوبة والترغيب فيها هو تطهير نفوس الناس، وردهم إلى طريق الحق والصواب، وتنفيرهم من الذنوب والمعاصي، وكان ذلك الرجل يريد التوسل بالتوبة إلى نقيض ما قصد الشارع منها، كان تحقيق المقصد من التوبة في سَدّ بابها في وجهه، فأفتاه ابن عباس بأن لا توبة له، لعلّ ذلك يردعه عمّا يريد الإقدام عليه، ويردُّه إلى طريق الصواب.

خامسًا - الحاجة إلى معرفة المقاصد في استنباط علل الأحكام الشرعية لِتُتَّخَذّ أساسًا للقياس:

ذلك أن العلل الشرعية تكون عادة ضابطة لحِكَمٍ، التي هي من المقاصد، فيكون معرفة المقاصد عونًا على تحديد العلل وإثباتها. وعلى رأي القائلين بجواز التعليل بالحِكْمة مطلقًا، أو بشرط انضباطها يكون الكشف عن المقاصد (التي منها

(1) أخرجه أبو جعفر النحاس عن سعد بن عبيدة: الناسخ والمنسوخ، تحقيق محمد عبد السلام محمد، (الكويت: مكتبة الفلاح، ط 1، 1408 هـ / 1988 م)، ص 349. إسناده صحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة -في الديات- من قال للقائل توبة 9/ 362.

ص: 48

الحِكَم) كشفًا عن العلل ذاتها لِتُتَّخَذَ بعد ذلك مناطًا للقياس. (1) وأبرز المسالك التي يُحتاج فيها إلى معرفة المقاصد هي: مسلك المناسبة، وتنقيح المناط، وإلغاء الفارق.

سادسًا - تحكيم المقاصد في الإعتبار بأقوال الصحابة والسلف من الفقهاء

واستدلالاتهم:

فيؤخذ منها ما كان موافقًا ومناسبًا لمقاصد الشارع، ويترك ما كان خلاف ذلك، إذْ مخالفته لمقاصد الشريعة دليل ضعفه أو خطئه، فيطرح ويبحث عمَّا هو أقوى منه.

ويمكن التمثيل لذلك بما ذهب إليه جابر بن عبد الله رضي الله عنه من أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار قبل بُدُوِّ صلاحها لم يكن القصد منه تشريع إبطال هذا النوع من البيوع وإنما كان، من باب المشاورة فقط، أي أنه مجرد اقتراح من النبي صلى الله عليه وسلم لحسم مادة النزاع بين الصحابة لَمَّا كثُر ذلك بينهم. ففي صحيح البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:"كاَنَ النَّاسُ في عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَبْتَاعُونَ الثَّمَارَ فَإِذَا جَذّ (2) النّاسُ وحَضَرَ تَقَاضيهم قَالَ المُبْتَاعُ: إِنَّهُ أَصَابَ الثّمرَ الدَّمَان، (3) أَصَابَهُ مُرَاض، (4) أَصَابَهُ قُشَام (5) - عَاهَاتُ يَحْتَجُّونَ بِهَا - فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا كَثُرَتْ عِنْدَهُ الخُصُومَةُ في ذَلِكَ: فَإِمّا لَا فَلَا تَتَبَايَعُوا حَتّى يَبْدُوّ صَلَاحُ الثّمر، كَالْمَشُورَةِ يُشِيرُ بِهَا لِكَثْرَةِ خُصُومَتِهِم". (6)

فَرَأْيُ زيد بن ثابت أن هذا كان من باب المشورة، وليس من باب التشريع الملزم. ولكن لما كان في هذا خلاف لقصد الشارع من تحريم هذا النوع من البيوع، وهو دفع ما فيه من خطر وغرر وحسم مادة النزاع بين المسلمين، ولما وردت نصوص أخرى تفيد تحريم هذا النوع من البيوع، فإن كثيرًا من الفقهاء لم يأخذوا بتأويل

(1) انظر آراء الأصوليين في جواز التعليل بالحِكْمة في: الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 224 - 227.

(2)

جَذَّ الشيءَ: قطعه وكسره، وجَذَّ النخيلَ: قطع ثمره وجناه. انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 3، ص 479.

(3)

الدَّمَانُ: عفن النخلة وسوادها. انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 13، ص 158.

(4)

المُراض: داء يقع في الثمرة فتَهْلِك. انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 7، ص 231.

(5)

يقال: أصاب الثمر القُشام، إذا انتقض ثمر النخل قبل أن يصير بلحا. انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 12، ص 484.

(6)

صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب (85)، الحديث (2193) مج 2، ج 3، ص 46.

ص: 49

جابر هذا، (1) كما أنه هو نفسه كان ملتزما بالعمل بظاهر الحديث، كما في صحيح البخاري عن أبي الزناد قال:"وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أن زيد بن ثابت لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا، فيتبين الأصفر من الأحمر". (2)

سابعًا - الحاجة إلى العلم بالمقاصد في التعامل مع أخبار الآحاد:

من المعلوم أن السنّة النبوية قد وقع فيها شيء من الدخل من قِبَل الوضاعين، ومن ساء حفظهم واختلطت عليهم مروياتهم، ولذلك نجد من السنّة: الصحيح، والحسن، والضعيف، والموضوع، كما أنه قد وقع فيها نسخ، وقد يُعلم الناسخ والمنسوخ، وقد يخفى أحيانًا على البعض. وبسبب ما سبق ذكره نجد أحيانًا شيئًا من التعارض سواء بين نصوص السنّة نفسها، أو بينها ونصوص القرآن الكريم، أو بينها والمقاصد العامة للشريعة وأصولها وكلّياتها. ومن هنا نهض العلماء المحققون لتمحيص السنّة بتخليصها من الدخيل، وبيان ناسخها ومنسوخها، والترجيح بين المتعارض منها. وقد سلك العلماء في ذلك مسالك متعددة، واتخذوا لذلك وسائل متنوعة، منها الإستعانة بمقاصد الشارع الحكيم في تمحيص أحاديث الآحاد، والترجيح والتوفيق بينها والنصوص الأخرى أو الأصول والمقاصد العامة للشريعة.

ويجب التنبيه بداية إلى أن هذا الموضوع في غاية الحساسية والصعوبة، وهو مزلَّة أقدام، وموطن انحراف أفهام، وقد وقع فيه خلاف كبير وكان وما زال مدخلاً لكثير من ذوي الأفهام القاصرة والنوايا المشكوك فيها لإسقاط بعض النصوص والأحكام الشرعية؛ لذلك وجب معالجته بحذر وليس هذا مجال التفصيل فيه لأنه ليس من صميم المبحث، وإنما القصد هو ذكر خلاصة له، وبيان أهمّ الضوابط التي يجب مراعاتها عند التعامل معه.

لقد رُدَّت أحاديثُ كثيرة بحجة مخالفتها للأصول العامة للشريعة، أو مخالفتها

(1) انظر لمقارنة آراء فقهاء المذاهب بفهم زيد بن ثابت هذا للنهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها: الشوكاني، محمد ابن علي: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، ومصطفى محمد الهواري، (القاهرة: مكتبة الكلّيات الأزهرية، د. ط، د. ت)، ج 6، ص 258 - 261.

(2)

صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب (85)، مج 2، ج 3، ص 46 - 47.

ص: 50

لمقاصدها العامة أو بعض مقاصدها الأساسية، وعلة ذلك الرد كونُ تلك الأصول والمقاصد قطعية في الشريعة، أما أحاديث الآحاد فإنها ظنية، فإذا وقع تعارض بينهما رُجِّحَ القطعي على الظني. وقد عالج الإمام الشاطبي هذا في المسألة الثانية من الطرف الأول من كتاب الأدلة الشرعية في كتابه الموافقات معالجة تحسن الإشارة إليها، حيث قسم أحاديث الآحاد في علاقتها بكلّيات الشريعة وقطعياتها إلى ثلاثة أقسام:(1)

القسم الأول: أحاديث الآحاد (الظنيات) الراجعة إلى أصل قطعي، أي التي تمثل بيانًا لتلك الأصول كأحاديث الطهارة، والصلاة، والحج، والصوم، والبيوع، والربا، وغيرها. وإعمالها ظاهر لكونها مستندة إلى أصل قطعي، فتصير في حكم القطعي، ولقوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].

القسم الثاني: أحاديث الآحاد (الظنيات) المعارضة لأصل قطعي، ولا يشهد لها أصل قطعي، أما شهادة أصل ظني لها فغير معتبرة، لأن الظني ولو كان أصلاً لا يقف في وجه - الأصل القطعي. ويرى الشاطبي أن هذا النوع مردود بلا إشكال. واستدلّ على ذلك بدليلين:

الأول: أن مخالفتها لأصول الشريعة تجعلها خارجة عنها، وما هو خارج عنها لا يمكن اعتباره منها، وبالتالي فهو مردود غير مقبول، والثاني: أنه ليس له ما يشهد بصحته، وما كان كذلك فهو ساقط الإعتبار.

ولكن الشاطبي أدرك خطورة هذا الإطلاق فعاد ليستدرك عليه بجعل هذا القسم على ضربين: أحدهما أن تكون مخالفته للأصول قطعية، فلا بُدّ من ردِّه، والآخر أن تكون المخالفة ظنية، وتكون هذه الظنية من ناحيتين: إما من ناحية كون الأصل أو المقصد المخالَف غير قطعي عند التحقيق، ومن ثَمَّ يصير التعارض بين ظنيين تُحكَّم فيه قواعد الترجيح، وإما من ناحية كون الدليل الظني (خبر الآحاد) غير مقطوع بمعارضته للأصول أو المقاصد القطعية، فيمكن الجمع بينهما بضرب من أضرب التأويل، بحمل الظني على معنى لا يخالف القطعي. وهذا الضرب

(1) انظر في ذلك الشاطبي: الموافقات، ج 3، ص 11 - 18.

ص: 51

محل اجتهاد للعلماء. (1)

ومن هنا يتبين أنه لا ينبغي المجازفة بردّ أحاديث الآحاد لمجرد ما يبدو من تعارض بينها والمقاصد الشرعية، بل ينبغي أثناء افظر التَّقَيُّدُ بالضوابط الآتية:

1 -

يجب النظر في مدى قطعية المقصد المخالَف، إذْ ليست كلّ المقاصد قطعية، بل منها القطعي ومنها الظني.

2 -

وإذا ثبتت قطعية المقصد المخالَف لَزِمَ النظرُ في قطعية التعارض بين الخبر والمقصد، إذْ قد يكون التعارض ظاهريا غير مقطوع به، بمعنى أنه يمكن الجمع والتوفيق بينهما بوجه من أوجه الجمع والتوفيق، فَيُحْمَلُ الخبر الظني على معنى لا يعارض المقصد القطعي.

3 -

إذا كان المقصد قطعيًّا، وكان التعارض قطعيًّا ولم يمكن الجمع والتوفيق بين المقصد والخبر بأي ضرب من أضرب الجمع والتوفيق لزم في هذه الحال ترجيح المقصد أو الأصل العام على الخبر، ولا يُعدُّ ذلك ردًّا للخبر إذا ثبتت صحته، بل يمكن اعتباره من باب الترجيح بين المتعارضين.

ومن أمثلة هذا عدم عمل الإمام مالك بحديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المُتَبَايِعَانِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالخيَّارِ عَلَى صَاحِبِهِ، مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، إِلاّ بَيْعَ الخِيَّارِ". (2) قال مالك: "وليس لهذا عندنا حَدٌّ معروف، ولا أمر معمول به فيه". (3)

وفسر ابن العربي هذا بما في القول بخيار المجلس من غرر وخطر لما في المجلس من جهالة المُدَّة. (4) فلم يعمل الإمام مالك بالحديث ورأى أن المراد بالتفرق التفرق

(1) انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 13

(2)

أخرجه الإمام مالك في: الموطأ، كتاب البيوع، باب بيع الخيار، ج 2، ص 671.

(3)

المصدر السابق، ج 2، ص 671.

(4)

ابن العربي، أبو بكر: كتاب القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، دراسة وتحقيق محمد عبد الله ولد كريم، (بيروت: دار الغرب الإِسلامي، د. ط، د. ت)، ج 2، ص 845. هذا تفسير ابن العربي، وهناك تفسيرات أخرى أشهرها أنه لم يأخذ به لمخالفته عمل أهل المدينة، وردّ البعضُ هذا التوجيه بأنه عُرِفَ من بعض فقهاء المدينة في زمن مالك العمل به. انظر الزرقاني، محمد: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، (د. م: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د. ط، د. ت)، ج 3، ص 321.

ص: 52

في الأقوال، لا التفرق بالأبدان.

ووَجْهُ مخالفة هذا الحديث لمقصد الشارع أن الشارع قصد إلى رفع الغرر والخطر من المعاملات، ولأجل ذلك حرَّم بيوع الغرر ولما كان الخيار هنا غير محدد المدة، دخله الغرر، فَأُبْطِلَ. هذا مذهب الإمام مالك وللفقهاء الآخرين رأي مخالف، فلينظر في مظانه؛ (1) إذ الغرض هنا مجرد التمثيل لحالة تعارض الخبر الظني مع مقاصد الشارع.

ومن ذلك أيضًا عدم أخذ الإمام مالك بن أنس بحديث إكفاء القدور في غزوة خيبر، ففي صحيح البخاري عن ابن أبي أوفى رضي الله عنهما قال:"أَصَابَنَا مَجَاعَة لَيَالي خَيْبَر، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَر وَقَعْنَا في الحُمُرِ الأَهْليّةِ فَانْتَحَرْنَاهَا، فَلَمّا غَلَت القُدُورُ نَادَى مُنَادِي رُسُول الله صلى الله عليه وسلم: أَكْفِئُوا القُدُورَ فَلَا تَطْعَمُوا مِن لُحُوم الحُمُر شَيْئًا". (2)

وقد ذهب الإمام مالك إلى أنه يجوز الأكل من لحوم الإبل والبقر والغنم قبل قسمتها إذا احتاج إلى ذلك المجاهدون، وفي ذلك يقول:"لا أرى بأسًا من أن يأكل المسلمون إذا دخلوا أرض العدوّ من طعامهم، ما وجدوا من ذلك كلّه قبل أن يَقَعَ في المقاسم"، (3) ويقول: "وأنا أرى الإبل والبقر والغنم بمنزلة الطعام، يأكل منه المسلمون إذا دخلوا أرض العدو، كما يأكلون من الطعام

فلا أرى بأسًا بما أُكِل من ذلك كلّه، على وجه المعروف، ولا أرى أن يدَّخر أَحَدٌ من ذلك شيئًا يرجع به إلى أهله". (4)

وقد علل مذهبه هذا بقوله: "ولو أن ذلك لا يؤكل حتى يحضر الناس المقاسم، ويقسم بينهم، أضر ذلك بالجيوش". (5)

(1) انظر وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية الكويتية: الموسوعة الفقهية، (الكويت: ذات السلاسل، ط 2، 1410 هـ/ 1990)، ج 20، ص 169 - 172.

(2)

صحيح البخاري، كتاب فرض الخمس، باب (20)، مج 2، ج 4، ص 394.

(3)

الموطأ، كتاب الجهاد، باب (8)، ج 2، ص 451.

(4)

المصدر السابق، ج 2، ص 451 - 452.

(5)

المصدر السابق، ج 2، ص 452.

ص: 53

فعلى رأي من رأى أن النهي عن أكل لحوم الحمر والأمر بإكفاء قدورها إنما كان لأنها لم تُخَمَّسْ بَعْدُ، يكون الإمام مالك لم يأخذ بظاهر الحديث لأن منع الجند من الأكل يؤدي إلى إضعافهم، وذلك يؤدي إلى عجزهم عن تحقيق مقاصد الشرع من الجهاد. أما على قول من قال إن النهي كان تحريمًا لها ألبتة، (1) وليس لكونها لم تُخَمّس فإن هذا المثال لا يتوجه في هذا الباب.

وقد كره الإمام مالك صيام ستة أيام من شهر شوال، واستند في ذلك إلى أمرين:

الأول: أنه لم يَرَ أهل العلم في المدينة يصومونها، ولم يصح عنده أن أحدًا من السلف كان يصومها.

الثاني: مخالفة ذلك لمقصد من مقاصد الشارع، وهو سدّ ذرائع الفساد ومنها ذرائع البدعة، وفي ذلك يقول:"وإن أهل العلم يكرهون ذلك [أي صيام ست من شوال]، ويخافون بدعته، وأن يُلحِق برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالة والجفاء، لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم، ورأوهم يعملون ذلك". (2)

وبغض النظر عن مدى قوة حجة مالك هذه، ومدى صحة مذهبه، فإن الغرض هنا هو بيان كيفية التعارض بين خبر الآحاد والمقاصد الشرعية، وترجيح المقاصد على مقتضى خبر الآحاد.

القسم الثالث: حديث الآحاد (الظني) الذي لا يشهد له أصل قطعي، ولا يُعَارِضُ أصلاً قطعيًّا، فهو محلُّ نظرِ واجتهادِ العلماء، وهو من باب المناسب الغريب. فقد يرفضه البعض بحجة أنه شرع على غير ما عُهِدَ في مثله، ولأن الاستقراء يدلّ على أنه غير موجود، ولأنه من حيث لم يشهد له أصل قطعي يُعتبر معارضًا لأصول الشرع، إذْ عدم الموافقة يُعَدّ مخالفة، وكلّ ما خالف أصلاً قطعيًّا فهو مردود. وقد يقبله البعض من باب أنه وإن لم يكن موافقًا لأصل فلا مخالفة فيه أيضًا، فإن عضَّد الردَّ عدمُ الموافقة، عضَّد القبولَ عدمُ المخالفة، فيتعارضان، ويبقى أصل العمل بالظن في الشرع

(1) انظر صحيح البخاري، كتاب فرض الخمس، باب (20)، مج 2، ج 4، ص 394.

(2)

الموطأ، كتاب الصيام، باب (22)، ج 1، ص 311.

ص: 54

قائما، وهذا فرد من أفراده فيلزم العمل به. (1) وهذا الأخير هو الرأي الأسلم والأرجح، والله أعلم.

ثامنًا - استنباط الأحكام للوقائع المستجدة مما لم يدلّ عليه دليل، ولا وُجِد له نظير يقاس عليه:

ومن ذلك الإحتجاج بالمصالح المرسلة. وبيان ذلك أن معرفة مختلف أنواع المصالح التي قصد الشارع إلى تحقيقها يحصل لنا منه يقينٌ بصورٍ كلّية من أنواع تلك المصالح، فنجعلها بعد ذلك أصولاً كلّية نقيس عليها ما يَجِدُّ من حوادث ليس له حكم ولا نظير يقاس عليه في أحكام الشريعة، فنُدخلها تحت تلك الصور الكلّية، ونُثبِت لها مثل أحكامها. وهذا النوع من الإلحاق أَوْلى بالاعتبار من القياس، الذي هو إلحاق جزئي بجزئي آخر بجامع علة، غالبًا ما تكون مظنونة، في حين أن الإلحاق في المصلحة المرسلة يكون بكلّية ثابتة في الشريعة قطعا، أو ظنًّا قريبًا من القطع، بما تظافر من أدلّة كثيرة على اعتبار تلك الكلّيات. (2)

(1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 18.

(2)

انظر ابن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 216.

ص: 55